نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا

          ░26▒ (باب) حكم (الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِياً) هل يجب عليه القضاء أو لا؟ وهي مسألة خلافيَّة، والجمهور على عدم الوجوب. وعن مالك: يبطل صومه، ويجب عليه القضاء.
          قال القاضي عياض: هذا هو المشهور عنه، وهو قول شيخه ربيعة وجميع أصحاب مالك، لكن فرَّقوا بين الفرض والنَّفل. وقال الدَّاودي: لعلَّ مالكاً لم يبلغه الحديث، أو أوَّله على رفع الإثم.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) هو: ابنُ أبي رباح (إِنِ اسْتَنْثَرَ) من الاستنثار، وهو إخراج ما في الأنف بعد الاستنشاق، وقيل: هو الاستنشاق نفسه (فَدَخَلَ الْمَاءُ فِي حَلْقِهِ لاَ بَأْسَ إِنْ لَمْ يَمْلِكْ) أي: دفع الماء بأن غلبه، فإن ملك دفع الماء فلم يدفعه حتَّى دخل حلقه أفطر، ويروى: <إن لم يملك دفعه>. ووقع في رواية أبي ذرٍّ والنَّسفي: <لا بأس؛ لم يملك> بإسقاط أن فيكون استئنافاً تعليلاً لما قبله.
          قال الكرمانيُّ: فإن قلت: لا بأس هو جزاء الشَّرط فلا بدَّ من الفاء.
          قلتُ: هو مفسر للجزاء المحذوف، والجملة الشرطيَّة جزاء لقوله: إن استنثر، وعلى نسخة سقوط إن فالفاء محذوفة. كقوله:
مَن يَفْعَلِ الحَسَناتِ اللَّهُ يَشْكُرهَا
          وهذا التَّعليق وصله عبد الرَّزَّاق عن ابن جُريج: قلتُ لعطاء: إنسان يستنثر فيدخل الماء حلقه؟! قال: لا بأسَ بذلك. قال عبد الرَّزَّاق: وقاله معمر عن قتادة.
          وقال ابنُ أبي شيبة: حدَّثنا مخلد، عن ابن جريج: أنَّ إنساناً قال لعطاء: أمضمض فيدخل الماء حلقي، قال: لا بأس؛ لم يملك، وهذا يقوِّي رواية أبي ذرٍّ والنَّسفي.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) البصري: (إِنْ دَخَلَ حَلْقَهُ) أي: حلق الصَّائم (الذُّباب فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ) من فطر ولا غيره. وهذا التَّعليق وصله ابن أبي شيبة من طريق وكيع، عن الرَّبيع، عن الحسن قال: لا يفطر الرَّجل يدخل حلقه الذُّباب. ومن طريق ابن أبي نحيج، عن مجاهد، عن ابن عبَّاس ☻ في الرَّجل يدخل في حلقه / الذُّباب وهو صائم، قال: لا يفطر.
          ومناسبة هذين الأثرين للتَّرجمة من حيث إنَّ المغلوب الذي يدخل الماء أو الذُّباب في حلقه لا اختيار له في ذلك كالنَّاسي. قال ابن المنيِّر في «الحاشية»: أدخل المغلوب في ترجمة النَّاسي؛ لاجتماعهما في ترك العمد، وسلب الاختيار. وقال أيضاً: دخول الذُّباب أقعد بالغلبة وعدم الاختيار من دخول الماء؛ لأنَّ الذُّباب يدخل بنفسه، والماء في الاستنثار أو المضمضة إنَّما نشأ عن تسببه.
          وعن ابن عبَّاس ☻ والشَّعبي: إذا دخل الذُّباب لا يفطر، وبه قالت الأئمَّة الأربعة، وأبو ثور. وقال ابن المنذر: ولم يحفظ عن غيرهم خلافه، لكن نقل غيره عن أشهب أنَّه قال: أحبُّ إليَّ أن يقضي، حكاه ابن التِّين.
          وفي «المحيط»: لو دخل حلقه الذُّباب أو الدُّخان أو الغبار لم يفطره. وكذا لو بقي بلل فيه بعد المضمضة، وابتلعه مع ريقه؛ لعدم إمكان الاحتراز عنه، بخلاف ما لو دخل المطر أو الثَّلج حلقه حيث يفطره في الأصح.
          وفي «المبسوط»: في الصَّحيح. وفي «الذَّخيرة»: قيل: يفسد صومه في المطر، ولا يفسد في الثَّلج، وفي بعض المواضع على العكس.
          وفي «الجامع الصَّغير»: يفسد فيهما، وهو المختار. ولو خاض الماء فدخل أذنه لا يفطر، بخلاف الدُّهن، وإن كان بغير صنعه؛ لوجود إصلاح بدنه. ولو صبَّ الماء في أذن نفسه، فالصَّحيح أنَّه لا يفطره؛ لعدم إصلاح البدن به؛ لأنَّ الماء يضرُّ بالدِّماغ.
          وفي «الخزانة»: لو دخل حلقه من دموعه أو عرق جبينه قطرتان ونحوهما لا يضرُّه، والكثير الذي يجد ملوحته في حلقه يفسد صومه لا صلاته، ولو نزل المخاط من أنفه في حلقه على تعمُّد منه، فلا شيء عليه، ولو ابتلع بزاق غيره أفسدَ صومه، ولا كفَّاره عليه، كذا في «المحيط». وفي «البدائع»: لو ابتلع ريق حبيبه أو صديقه. قال الحلواني: عليه الكفَّارة؛ لأنَّه لا يعافه، بل يلتذُّ به. وقيل: لا كفَّارة فيه، ولو جمع ريقه في فيه، ثمَّ ابتلعه لم يفطره ويكره، ذكره المرغيناني.
          وفرَّق إبراهيم بين من كان ذاكراً لصومه حال المضمضة، فأوجب عليه القضاء دون النَّاسي. وعن الشَّعبي: إن كان لصلاة فلا قضاء وإلَّا قضى.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصري (وَمُجَاهِدٌ) هو: ابنُ جبر (إِنْ جَامَعَ) حال كونه (نَاسِياً فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ) من فطر ولا غيره، كالأكل ناسياً، فلو تعمَّد بطل إجماعاً.
          ومطابقته للتَّرجمة من حيث إنَّ حكم الجماع ناسياً كحكم الأكل / والشُّرب ناسياً في عدم وجوب شيء عليه. وتعليق الحسن وصله عبد الرَّزَّاق عن الثَّوري عن رجل عن الحسن قال: هو بمنزلة من أكل أو شرب ناسياً.
          وتعليق مجاهد وصله عبد الرَّزَّاق أيضاً عن ابن جريج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: لو وطئ رجل امرأته وهو صائم ناسياً في رمضان لم يكن عليه فيه شيء. وظهر بأثر الحسن مناسبة هذين الأثرين للتَّرجمة.
          قال العيني: وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشَّافعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر، وهو قول عليٍّ وأبي هريرة وابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد وعبيد الله بن الحسن والنَّخعي والحسن بن صالح وأبي ثور وابن أبي ذئب والأوزاعي والثَّوري، وكذلك في الأكل والشرب ناسياً.
          وقال ربيعة واللَّيث ومالك: يفطر، وعليه القضاء. زاد أحمد: والكفَّارة في الجماع ناسياً، وهو أحد الوجهين للشَّافعية. انتهى.
          قال الزَّركشي الحنبليُّ: وهو المشهور عن أحمد، والمختار لعامَّة أصحابه، وهو من مفردات المذهب، وعنه: أنَّه لا يكفِّر، واختاره ابن بطَّة. ولعلَّه مبنيٌّ على أنَّ الكفَّارة ماحية، ومع النِّسيان لا إثم يمحى. وعنه أيضاً: لا يقضي كما ذهب إليه الجمهور كما تقدَّم.
          وروي عن ابن جريج: أنَّه سأل عطاء عن رجل أصاب امرأته ناسياً في رمضان، قال: لا ينسى، هذا كله عليه القضاء. وتابع عطاء على ذلك الأوزاعي واللَّيث ومالك وأحمد، وهو أحد الوجهين للشَّافعية. فرَّق هؤلاء كلهم بين الآكل والمجامع. وعن أحمد في المشهور عنه: يجب عليه الكفَّارة أيضاً، وحجَّتهم قصور حالة المجامع عن حالة الآكل. وألحق به بعض الشَّافعية من أكل كثيراً لندور نسيان ذلك.
          قال ابنُ دقيق العيد: ذهب مالك إلى إيجاب القضاء على من أكل أو شرب ناسياً، وهو القياس، فإنَّ الصَّوم قد فات ركنه، وهو من باب المأمورات، والقاعدة أنَّ النِّسيان لا يؤثِّر في المأمورات. قال: وعمدة من لم يوجب القضاء حديث أبي هريرة ☺؛ لأنَّه أمر بالإتمام، وسمَّى الذي يُتَم صوماً، وظاهره حمله على الحقيقة الشَّرعية، فيتمسَّك به حتَّى يدلَّ دليل على أنَّ المراد بالصَّوم هنا حقيقته اللُّغوية، كأن يشير به إلى قول ابن القصَّار: أنَّ معنى قوله: فليتمَّ صومه؛ أي: الذي كان دخل فيه، وليس فيه نفي القضاء.
          قال: وقوله: فإنَّما أطعمه الله وسقاه، ممَّا يستدلُّ به على صحَّة الصَّوم؛ لإشعاره بأنَّ الفعل الصادر منه مسلوب بالإضافة إليه، فلو كان أفطر لأضيف الحكم إليه. قال: وتعليق الحكم بالأكل والشُّرب للغالب؛ لأنَّ نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما، وذكر الغالب لا يقتضي مفهوماً، وقد اختلف فيه القائلون: بأن أكل النَّاسي لا يوجبها، ومدار ذلك على قصور حالة المجامع ناسياً عن حالة الآكل.
          ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه، فإنَّما طريقه القياس، والقياس مع وجود الفارق متعذر، إلا إن بيَّن القائس أنَّ الوصف الفارق ملغىً. انتهى.
          وأجاب بعض الشَّافعية: بأنَّ عدم وجوب القضاء على المجامع مأخوذ من عموم قوله / في بعض طرق الحديث: ((من أفطر في شهر رمضان))، فالفطر أعمُّ من أن يكون بأكلٍ أو شربٍ أو جماعٍ، وإنَّما خصَّ الأكل والشُّرب بالذِّكر في الطَّريق الأخرى؛ لكونهما أغلب وقوعاً، ولعدم الاستغناء عنهما غالباً.