نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الحجامة والقيء للصائم

          ░32▒ (باب) حكم (الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ) هل يفسدان الصَّوم أو لا؟ وإنَّما أطلق ولم يذكر الحكم لمكان الاختلاف فيه، ولكن الآثار التي أوردها في هذا الباب تشعر بعدم الإفطار بهما عنده، ولذلك عقَّب حديث: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) بحديث أنَّه صلعم احتجم وهو صائم.
          قال الزَّين ابن المنيِّر: جمع بين القيء والحجامة مع تغايرهما، وعادته تفريق التَّراجم إذا نظمهما خبر واحد فضلاً عن خبرين، وإنَّما صنع ذلك لاتِّحاد مأخذهما لأنَّهما إخراج، والإخراج لا يقتضي الإفطار، كما سيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى.
          -(وَقَالَ لِي يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ) هكذا وقع في جميع نسخ الصَّحيح، وعادة البخاري الإتيان بهذه الصِّيغة في الموقوفات إذا أسندها، ويحيى بن صالح هو أبو زكريَّا الوحاظي الحمصي، قال: (حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ) بتشديد اللام، مرَّ في كتاب الكسوف [خ¦1045]، قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هو: ابن أبي كثير (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ) بضم العين من ((عمر))، وفتح الحاء والكاف من الحكم (ابْنِ ثَوْبَانَ) بالمثلثة والموحدة المفتوحتين، الحجازي أبو حفص المدني، مات سنة سبع عشرة ومائة.
          أنَّه (سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺) يقول: (إِذَا قَاءَ) أي: الصَّائم بغير اختياره بأن غلبه (فَلاَ يُفْطِرُ) وذلك لأنَّ القيء (إِنَّمَا يُخْرِجُ) من الخروج (وَلاَ يُولِجُ) من الإيلاج، وهو الإدخال، والمعنى أنَّ الصِّيام لا ينقض إلَّا بشيء يدخل، ولا ينقض بشيء يخرج، وفي رواية الكشميهني: <أنه> أي: القيء <يخرج ولا يولج>. قال الزَّين ابن المنيِّر في «الحاشية»: ويؤخذ من هذا الحديث وأمثاله أنَّ الصَّحابة ♥ كانوا يؤولون الظَّاهر بالقياس، وهذا منقوضٌ بالمني فإنَّه ممَّا يخرج وهو موجبٌ للقضاء والكفَّارة.
          وهذا الحديث رواه الأربعة مرفوعاً من حديث هشام بن حبَّان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة ☺: أنَّ النَّبي صلعم قال: ((من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض)).
          وقال التِّرمذي: حديث أبي هريرة ☺ حديث حسنٌ غريب لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين، عن أبي هريرة ☺ إلَّا من حديث عيسى بن يونس، وسألت محمَّداً عنه فقال: لا أراه محفوظاً. وقال: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة ☺، عن النَّبي صلعم ، ولا يصحُّ إسناده.
          وقال البخاري: لم يصح، وإنَّما يروى / عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبيه عن أبي هريرة ☺، وعبد الله ضعيف.
          ورواه الدَّارمي من طريق عيسى بن يونس، ونقل عن عيسى أنَّه قال: زعم أهل البصرة أنَّ هشاماً وهم فيه. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: ليس من ذا شيء، وقال الخطَّابي: يريد أنَّه غير محفوظ.
          وقال ابن بطَّال: تفرَّد به عيسى، وهو ثقة إلَّا أنَّ أهل الحديث أنكروه عليه، ووهم عندهم فيه. هذا، ورواه الحاكم أيضاً من طريق عيسى بن يونس، وقال: على شرط الشَّيخين.
          وقال أبو علي الطُّوسي: هو حديثٌ غريب، والصَّحيح رواية أبي الدَّرداء وثوبان وفضالة بن عبيد: أنَّ النَّبي صلعم قاء فأفطر. وقال التِّرمذي: حديث أبي الدَّرداء أصحُّ شيء في القيء والرعاف. انتهى.
          ورواه الأربعة، ورواه الطَّحاوي قال: حدَّثنا ابن مرزوق قال: حدَّثنا عبد الصَّمد بن عبد الوارث قال:حدَّثناأبي عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرَّحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد، عن أبيه، عن معدان بن طلحة، عن أبي الدَّرداء ☺: أنَّ النَّبي صلعم قاء فأفطر، قال: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق قلت: إنَّ أبا الدَّرداء ☺ أخبرني أنَّ رسول الله صلعم قاء فأفطرَ فقال: صدق أنا صببت له وضوءه.
          ثمَّ قال الطَّحاوي: فذهب قوم إلى أنَّ الصائم إذا قاء أفطر، واحتجُّوا في ذلك بهذا الحديث. انتهى.
          أراد بالقوم عطاءً والأوزاعي وأبا ثور، ثمَّ قال الطَّحاوي: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: إن استقاء أفطر، وإن ذرعه القيء؛ أي: سبقه وغلب عليه لم يفطر. انتهى.
          وأراد بالآخرين القاسم بن محمَّد والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم النَّخعي وسعيد بن جبير والشَّعبي وعلقمة والثَّوري وأبا حنيفة وأصحابه ومالكاً والشَّافعي وأحمد وإسحاق. ويروى ذلك عن عليٍّ وابن عبَّاس وابن مسعود وعبد الله بن عمر وأبي هريرة ♥ ، وقد قام الإجماع على أنَّ من ذرعه القيء لا قضاء عليه إلَّا في إحدى الرِّوايتين عن الحسن، نقله ابن المنذر.
          ونقل ابن المنذر أيضاً الإجماع على أنَّ الاستقاء يفطر.
          لكن نقل ابن بطَّال / عن ابن عبَّاس وابن مسعود ♥ أنَّه لا يفطر مطلقاً، وهو إحدى الرِّوايتين عن مالك.
          ولكن في «مصنَّف ابن أبي شيبة» بإسناده عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه إذا تقيَّأ أفطر. واستدلَّ الأبهري لإسقاط القضاء عمَّن تقيَّأ عمداً بأنَّه لا كفَّارة عليه على الأصح عندهم قال: فلو وجب القضاء لوجبت الكفَّارة، وعكس بعضهم فقال: هذا يدلُّ على اختصاص الكفَّارة بالجماع دون غيره من المفطرات.
          ونقل العبدري عن أحمد أنَّه قال: من تقيَّأ فاحشاً أفطر، وقال اللَّيث والثَّوري والأربعة بالقضاء، وعليه الجمهور، ونقل ابن التِّين عن طاوس: عدم القضاء قال: وبه قال ابن بكير.
          وقال ابن حبيب: لا قضاء عليه في التطوُّع دون الفرض. وقال الأوزاعي وأبو ثور: عليه القضاء والكفَّارة مثل كفَّارة الأكل عامداً في رمضان، وهو قول عطاء. واحتجُّوا بحديث أبي الدَّرداء ☺ المذكور الذي أخرجه ابن حبَّان والحاكم أيضاً في «صحيحيهما». وأجاب أبو عمر: أنَّه ليس بالقويِّ.
          وقال الطَّحاوي: قد يجوز أن يكون قوله: فأفطر؛ أي: ضعف فأفطر، ونحو هذا في اللُّغة، يعني: يجوز هذا التَّقدير في اللُّغة، يضمر مثل ذلك؛ لعلم السامع به كما في حديث فضالة: ولكنِّي قئت فضعفت عن الصِّيام فأفطرت، وليس فيه أنَّ القيء كان مفطراً.
          وتعقَّبه ابن المنيِّر: بأنَّ الحكم إذا عقب بالفاء دلَّ على أنَّه العلَّة كقولهم: سهى فسجد، فافهم.
          وقال التِّرمذي: معنى هذا الحديث: أنَّ النَّبي صلعم أصبح صائماً متطوِّعاً فقاء فضعف فأفطر لذلك، هكذا روي في بعض الحديث مفسَّراً.
          وأجاب البيهقي: بأنَّ هذا الحديث مختلف في إسناده، فإن صحَّ فمحمول على العامد، وكأنَّه كان صلعم متطوِّعاً بصومه.
          وحديث فضالة رواه الطَّحاوي: حدَّثنا ربيع المؤذِّن قال:حدَّثناأسد قال:حدَّثناابن لهيعة قال:حدَّثنايزيد بن أبي حبيب قال:حدَّثناأبو مرزوق عن حنش، عن فضالة بن عبيد قال: دعا رسول الله صلعم بشراب فقال له بعضنا: ألم تصبح صائماً يا رسول الله؟ قال: ((بلى، ولكنِّي قئت)) وأخرجه البيهقي أيضاً.
          وأبو مرزوق اسمه حبيب بن الشَّهيد، وقيل: زمعة بن سليم، قال العجلي: مصري تابعي ثقة. وروى له أبو داود وابن ماجه.
          وحنش: هو / ابن عبد الله الصَّنعاني؛ صنعاء دمشق، روى له الجماعة غير البخاري.
          فإن قيل: إنَّ ابن لهيعة فيه مقال. فالجواب أنَّ الطَّحاوي أخرجه من أربع طرق:
          أحدها: ما ذكر، وهو الذي فيه ابن لهيعة، وأخرجه أيضاً عن أبي بكرة عن روح، وعن محمَّد بن خزيمة عن حجَّاج، وعن حسين بن نصر، عن يحيى بن حسَّان قالوا: حدَّثنا حمَّاد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن حنش، عن فضالة.. إلى آخره.
          وقال التِّرمذي: والعمل عند أهل العلم على حديث أبي هريرة ☺ أنَّ الصَّائم إذا ذرعه القيء فلا قضاء عليه، وإذا استقاء عمداً فليقض. وبه يقول الشَّافعي وسفيان الثَّوري وأحمد وإسحاق.
          وقال ابنُ المنذر: وهو قول كل من يحفظ عنه العلم قال: وبه أقول.
          قال أصحابنا الحنفيَّة: ويستوي فيه ملأ الفم وما دونه؛ لإطلاق حديث أبي هريرة ☺ المرفوع: ((فإن عاد وكان ملء الفم لا يفسد صومه)) عند أبي حنيفة ومحمَّد.
          قال في «المحيط»: وهو الصَّحيح. وذكره قاضي خان عن محمَّد وحده. وعند أبي يوسف يفسده، وإن عاد وكان أقل من ملء الفم يفسد عند محمَّد وزفر. وهذا إذا تقيَّأ مرَّة أو طعاماً أو ماء، فإن تقيأ ملء فيه بلغماً لا يفسد عندهما خلافاً لأبي يوسف.
          وتفصيل ذلك أنَّ الحنفيَّة قالوا: لا يجب القضاء بغلبة القيء عليه وخروجه من فمه قلَّ أو كثر، لا تعمُّده فإنَّه يفسده وعليه القضاء، ويعتبر أبو يوسف في إفساده امتلاء الفم في التعمُّد، وفي عوده إلى الدَّاخل سواء أعاده أو لم يعده لوجوب القضاء؛ لأنَّه إذا كان ملء الفم يعد خارجاً لانتقاض الطَّهارة به فيفسد الصَّوم، وإذا عاد حال كونه ملء الفم يعدُّ داخلاً، لسبق اتِّصافه بالخروج حكماً، ولا كذلك إذا لم يملأه فلا يفسد.
          واعتبر محمَّد بن الحسن قصد الصَّائم وفعله في ابتداء القيء وفي عوده سواء كان ملء الفم أو لم يكن؛ لقوله صلعم : ((من استقاء عمداً فعليه القضاء)) مِن غير فصْلٍ بين القليل والكثير، وإذا أعاده يوجد منه الصنع في الإدخال إلى الجوف فيفسد به صومه وإن قلَّ القيء.
          وخلاصة ما سبق أنَّ في صورة الاستقاء يفسد الصَّوم عند أبي يوسف إذا كان ملء الفم، سواء كان عاد القيء / بعده أو لم يعد أو أعاده؛ لاتِّصافه بالخروج، وعند محمَّد يفسد على كلِّ الأحوال؛ لوجود التعمُّد فيه.
          وأمَّا إذا غلبه القيء فإن كان ملأ الفم يفسد عند أبي يوسف عاد أو أعاده؛ لما مرَّ، وعند محمَّد لا يفسد عاد أو لم يعد؛ لانعدام الصُّنع منه، ويفسد إذا أعاد، وإن لم يكن ملء الفم لا يفسد عاد أو لم يعد اتفاقاً، ويفسد عند محمَّد إذا أعاده.
          (وَيُذْكَرُ) على البناء للمفعول (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (أَنَّهُ يُفْطِرُ) يعني: إذا قاء الصَّائم يفطر؛ أي: ينتقض صومه، وهذا هو محلُّ الخلاف، وأمَّا الاستقاءة فهي مبطلة للصَّوم اتفاقاً، وقد فصَّلناه تفصيلاً (وَالأَوَّلُ أَصَحُّ) أي: عدم الإفطار أصحُّ، أو الإسناد الأوَّل أصح.
          قال الحافظُ العسقلاني: ويمكن الجمع بين قول أبي هريرة: إذا قاء لا يفطر، وبين قوله: إنَّه يفطر، بما فصل في حديثه المرفوع المروي عند المؤلِّف في «التَّاريخ الكبير».
          وأخرجه أصحاب السُّنن الأربع والحاكم أيضاً أنَّه صلعم قال: ((من ذرعه القيءُ فليس عليه القضاء، وإن استقاء فليقض)) وقد مرَّ آنفاً، فيحمل قوله: أنَّه يفطر على ما إذا تعمَّد القيء، وقوله: لا يفطر على ما إذا غلبه القيء، والله أعلم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ (وَعِكْرِمَةُ: الْفِطْرُ) وفي رواية أبي ذرٍّ وابن عساكر في نسخة: <الصَّوم> بدل قوله: الفطر؛ أي: الإمساك واجب، وأمَّا على الرِّواية الأولى فالمعنى الفطر حاصل (مِمَّا دَخَلَ) في الجوف (وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ) وهذان التَّعليقان رواهما ابن أبي شيبة:
          أمَّا الأوَّل: فقال: حدَّثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عبَّاس ☻ في الحجامة للصَّائم فقال: الفطر ممَّا دخل وليس ممَّا خرج، والوضوء ممَّا خرج وليس ممَّا دخل.
          وأما الثَّاني: فرواه عن هشيم، عن حصين، عن عكرمة مثله. وروي من طريق إبراهيم النَّخعي أنَّه سئل عن ذلك فقال: قال عبد الله؛ يعني: ابن مسعود ☺، فذكر مثله، وإبراهيم لم يلق ابن مسعود ☺، وإنَّما أخذ عن كبار أصحابه.
          (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ☻ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ تَرَكَهُ، فَكَانَ يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ) وهذا التَّعليق وصله مالك في «الموطَّأ» عن نافع، عن ابن عمر ☻ أنَّه احتجم وهو صائم، ثمَّ ترك ذلك فكان إذا صام لم يحتجم حتَّى يفطر.
          وفي نسخة أحمد بن شبيب، عن أبيه، عن يونس، / عن الزُّهري: كان ابن عمر يحتجم وهو صائم في رمضان وغيره، ثمَّ تركه لأجل الضَّعف. هكذا منقطعاً.
          وأخرجه عبد الرَّزَّاق موصولاً عن معمر، عن الزُّهري، عن سالم، عن أبيه وكان ابن عمر ☻ كثير الاحتياط، فكأنَّه ترك الحجامة نهاراً لذلك. ورواه ابن أبي شيبة من طريق نافع بزيادة: فلا أدري لأيِّ شيء تركه.
          (وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعري ☺ (لَيْلاً) وهذا التَّعليق وصله ابن أبي شيبة، عن محمَّد بن أبي عديٍّ، عن حميد الطَّويل، عن بكير بن عبد الله المزني، عن أبي العالية قال: دخلت على أبي موسى وهو أمير البصرة ممسياً فوجدُّته يأكل تمراً وكامخاً، وقد احتجم فقلت له: ألا تحتجم نهاراً قال: أتأمرني أن أهريق دمي وأنا صائم.
          ورواه النَّسائي والحاكم من طريق مطر الوراق عن بكير: أنَّ أبا رافع قال: دخلت على أبي موسى وهو يحتجم ليلاً فقلت: ألا كان هذا نهاراً؟ فقال: أتأمرني أن أريق دمي وأنا صائم، وقد سمعت رسول الله صلعم يقول: ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          قال الحاكم: سمعت أبا علي النِّيسابوري يقول: قلت لعبدان الأهوازي: يصحُّ في إفطار الحاجم والمحجوم شيء؟ فقال: سمعت عبَّاساً العنبري يقول: سمعت علي بن المديني يقول: قد صحَّ حديث أبي رافع عن أبي موسى.
          قال الحافظ العسقلاني: إلا أنَّ مطراً خولف في رفعه.
          (وَيُذْكَرُ) على البناء للمفعول بصيغة التمريض (عَنْ سَعْدٍ) هو: ابن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة ♥ (وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) بن زيد الأنصاري ☺ (وَأُمِّ سَلَمَةَ) أمِّ المؤمنين هند بنت أميَّة ♦ أنَّهم (احْتَجَمُوا) حال كونهم (صِيَاماً) هكذا أخرجه بصيغة التمريض، والسَّبب في ذلك يظهر بالتخريج.
          فأمَّا أثر سعد ☺ فوصله مالك في «الموطَّأ» عن ابن شهاب: أنَّ سعد بن أبي وقَّاص وعبد الله بن عمر ☻ كانا يحتجمان وهما صائمان، وهذا منقطع عن سعد، لكن ذكره أبو عمر بن عبد البرِّ من وجه آخر، عن عامر بن سعد، عن أبيه.
          وأمَّا أثر زيد بن أرقم ☺ فوصله عبد الرَّزَّاق، عن الثَّوري، عن يونس بن عبد الله الجرمي، عن دينار قال: حجمت زيد بن أرقم وهو صائم. ودينار: هو الحجَّام مولى جَرم _بفتح الجيم_ لا يعرف إلَّا في هذا الأثر. وقال أبو الفتح الأزدي: لا يصحُّ حديثه.
          وأمَّا أثر أم سلمة ♦ فوصله ابن شيبة من طريق / الثَّوري أيضاً، عن فرات، عن مولى أمِّ سلمة أنَّه رأى أم سلمة ♦ تحتجم وهي صائمة. وفرات: هو ابن أبي عبد الرَّحمن ثقة، لكن مولى أمِّ سلمة مجهول الحال.
          قال ابن المنذر: وممَّن رخَّص في الحجامة للصَّائم أنس وأبو سعيد ☻ والحسن بن علي وغيرهم من الصَّحابة والتَّابعين، ثم ساق ذلك بأسانيده.
          (وَقَالَ بُكَيْرٌ) بضم الموحدة على صيغة التصغير، هو: ابن عبد الله الأشج (عَنْ أُمِّ عَلْقَمَةَ) اسمها مرجانة سمَّاها البخاري، وذكرها ابن حبَّان في «الثِّقات».
          (كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ) ♦؛ أي: ونحن صيام (فَلاَ تَنْهَى) بفتح المثناة الفوقية؛ أي: فلا تنهى عائشة ♦ عن الاحتجام، ويروى: <فلا نُنهى> بضم النون الأولى التي للمتكلِّم على صيغة المجهول.
          وهذا التَّعليق وصله البخاري في «تاريخه» من طريق مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أمِّ علقمة قالت: كنَّا نحتجم عند عائشة ♦ ونحن صيام وبنو أخي عائشة فلا تنهاهم.
          (وَيُرْوَى) على البناء للمفعول (عَنِ الْحَسَنِ) البصري (عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ) من الصَّحابة ♥ (مَرْفُوعاً) إلى النَّبي صلعم (فَقَالَ) بالفاء، وفي بعض الأصول: <قال> بدون الفاء، وفي رواية أبي ذرٍّ: بإسقاطهما: (أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ) ومن تلك الصَّحابة ♥ : أبو هريرة وثوبان ومعقل بن يسار وعليِّ بن أبي طالب وأسامة ♥ .
          أمَّا حديث أبي هريرة ☺ فرواه النَّسائي قال: أنا محمَّد بن بشار قال: حدَّثنا عبد الوهاب، عن يونس، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النَّبي صلعم قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)). وقال النَّسائي: ذكر اختلاف النَّاقلين لخبر أبي هريرة ☺: فروي من حديث أبي عمرو عن أبيه، عن أبي هريرة ☺، عن النَّبي صلعم قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) ثمَّ قال: وقفه إبراهيم بن طهمان.
          ثمَّ روى من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ☺ قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)). ثمَّ رواه من طرق أخرى من حديث شقيق بن ثور، عن أبي هريرة ☺ قال: يقال: أفطر الحاجم والمحجوم، أمَّا أنا فلو احتجمت / ما باليت أبو هريرة يقول هذا.
          ثمَّ روى من حديث عطاء عن أبي هريرة ☺ قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)). وفي لفظ عن عطاء، عن أبي هريرة ☺ ولم يسمعه منه قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)). وفي لفظ عن عطاء، عن رجل، عن أبي هريرة ☺ قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          وأمَّا حديث ثوبان ☺ فقال علي بن المديني: روى حديث ((أفطر الحاجم والمحجوم)) قتادة عن الحسن عن ثوبان. واختلف على قتادة عن الحسن في الصَّحابي فقيل أيضاً: علي، وقيل: أبو هريرة ☺.
          وأخرج أبو داود والنَّسائي وابن ماجه من رواية أبي قلابة: أنَّ أبا أسماء الرَّحبي حدَّثه أنَّ ثوبان مولى رسول الله صلعم قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)). وأخرجه الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح على شرط الشَّيخين ولم يخرِّجاه.
          وأمَّا حديث معقل بن يسار فرواه النَّسائي من رواية سليمان بن معاذ، عن عطاء بن السَّائب قال: شهد عندي نفر من أهل البصرة منهم الحسن، عن معقل بن يسار: أن رسول الله صلعم رأى رجلاً يحتجم وهو صائم فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          وذكر الدَّارقطني في «العلل» أنَّه اختلف على عطاء بن السَّائب في الصَّحابي فقيل: معقل بن يسار المزني، وقيل: معقل بن سنان الأشجعي.
          وأمَّا حديث عليٍّ ☺ فرواه النَّسائي أيضاً من رواية سعيد بن أبي عروبة، عن مطر، عن الحسن، عن علي ☺، عن النَّبي صلعم قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          وأمَّا حديث أسامة بن زيد ☻ فرواه النَّسائي من رواية أشعث بن عبد الملك، عن الحسن، عن أسامة بن زيد ☻ قال: قال رسول الله صلعم : ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          قال النَّسائي: ولم يتابع أشعث أحد علمناه على روايته.
          وقال الشَّيخ زين الدين العراقي: قد تابعه عليه يونس بن عبيد إلَّا أنه من رواية عبيد الله بن تمام عن يونس رواه البزَّار في «زيادات المسند» قال: وعبيد الله هذا غير حافظ. انتهى.
          وقد اختلف فيه على الحسن فقيل عنه هكذا، وقيل عنه عن أبي هريرة، وقيل عنه عن سمرة.
          قال الشَّيخ زين الدين: ويمكن أن يكون ليس باختلاف؛ فقد روي عن الحسن عن رجال ذوي عدد من أصحاب النَّبي صلعم إلَّا أنَّ بعض من سمِّي من الصَّحابة لم يسمع منه الحسن منهم: علي وثوبان وأبو هريرة ♥ على ما قيل.
          وقال ابن عبد البر: حديث أسامة ومعقل / بن يسار وأبي هريرة ♥ معلول لا يثبت منه شيء من جهة النَّقل.
          واعلم أنَّه قد روي في هذا الباب عن رافع بن خديج ☺ عن النَّبي صلعم قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) رواه التِّرمذي وانفرد به.
          وأخرجه الحاكم في «المستدرك» وروي عن علي بن المديني قال: لا أعلم في الحاجم والمحجوم حديثاً أصحُّ من هذا. وأخرجه البزَّار في «زيادات المسند» من طريق عبد الرَّزَّاق عن معمر وقال: لا يعلم يروى عن رافع عن النَّبي صلعم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وقال أحمد: تفرَّد به معمر.
          وروي أيضاً عن شدَّاد بن أوس ☺ رواه أبو داود والنَّسائي من رواية أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس: أتى علي رجل بالبقيع وهو آخذ بيدي لثماني عشرة خلت من رمضان فقال: إنَّ رسول الله صلعم قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          وعن عائشة ♦؛ رواه النَّسائي من رواية ليث، عن عطاء، عن عائشة ♦، عن النَّبي صلعم قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) وليث هو ابن أبي سليم مختلف فيه.
          وعن ابن عبَّاس ☻ ؛ رواه النَّسائي أيضاً من رواية قبيصة بن عقبة: حدَّثنا فطر، عن عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ قال: قال النَّبي صلعم : ((أفطر الحاجم والمحجوم)). ورواه البزَّار أيضاً قال: ورواه غير واحد عن فطر عن عطاء مرسلاً.
          وعن أبي موسى ☺؛ رواه النَّسائي من حديث أبي رافع قال: دخلت على أبي موسى الحديث وفيه: سمعت رسول الله صلعم يقول: ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          وعن بلال ☺؛ رواه النَّسائي أيضاً من رواية شهر عن بلال ☺ عن النَّبي صلعم قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          وعن أنس ☺؛ رواه البزَّار في «زياداته على المسند» من حديث ثابت عنه: أنَّ النَّبي صلعم قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          وعن ابن عمر ☻ ؛ رواه ابن عديٍّ من رواية نافع عنه قال: قال رسول الله صلعم : ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          وعن ابن مسعود ☺؛ رواه العقيلي في «الضُّعفاء» من رواية الأسود عنه قال: مرَّ بي النَّبي صلعم على رجلين يحجم أحدهما الآخر فاغتاب أحدهما ولم ينكر عليه الآخر فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)). /
          وعن جابر ☺؛ رواه البزَّار من رواية عطاء: أنَّ النَّبي صلعم قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          وعن سمرة ☺؛ رواه البزَّار أيضاً من رواية الحسن عن سمرة: أنَّ النَّبي صلعم قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          وعن أبي زيد الأنصاري؛ رواه ابن عديٍّ من حديث أبي قلابة عنه قال: قال النَّبي صلعم : ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          وعن أبي الدَّرداء ☺؛ ذكره النَّسائي عند ذكر طرق حديث عائشة ♦ في الاختلاف على ليث.
          (وَقَالَ لِي عَيَّاشٌ) بتشديد المثناة التحتية وآخره شين معجمة، هو: ابن الوليد الرقام القطَّان أبو الوليد البصري: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى) هو: ابن عبد الأعلى السَّاميُّ القرشي البصري.
          قال: (حَدَّثَنَا يُونُسُ) هو: ابن عبيد بن دينار البصري التَّابعي، يروي عن الحسن البصري التَّابعي والإسناد كلُّهم بصريون (مِثْلَهُ) أي: مثل ما ذكر من قوله: ((أفطر الحاجم والمحجوم)).
          (قِيلَ لَهُ) أي: للحسن (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ؟) الذي تحدَّث به من أفطر الحاجم والمحجوم (قَالَ: نَعَمْ) عنه صلعم (ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ) أشار به إلى أنَّه تردد في ذلك ولم يجزم بالرفع.
          وقال الكرماني: فإن قلت: هذا؛ يعني ((الله أعلم)) يستعمل في مقام التردُّد، ولفظ ((نعم)) حيث قال أولاً يدلُّ على الجزم. قلت: جزم به حيث سمعه مرفوعاً إلى النَّبي صلعم ، وحيث كان خبر الواحد غير مفيد لليقين أظهر التردُّد فيه أو ظهر له بعد الجزم تردُّد، أو يقال: لا يلزم أن يكون استعماله للتردُّد، والله أعلم.
          وقد أخرجه البخاري في «تاريخه» قال: حدَّثني عياش فذكره. ورواه علي بن المديني في «العلل»، والبيهقي أيضاً من طريقه حدَّثنا المعتمر هو: ابن سليمان التَّيمي عن أبيه عن الحسن عن غير واحد.
          ثم رواية يونس عن الحسن عن أبي هريرة ☺ عند النَّسائي من طريق عبد الوهاب الثَّقفي، عن يونس، عن الحسن، ومن طريق بشر بن المفضَّل عن يونس عن الحسن أيضاً، وذكره الدَّارقطني من طريق عبيد الله بن تمام، عن يونس، عن الحسن عن أسامة.
          والاختلاف على الحسن في هذا الحديث واضح، لكن نقل التِّرمذي في «العلل الكبير» عن البخاري أنَّه قال: يحتمل أن يكون سمعه من غير واحد.
          وكذا قال الدَّارقطني في «العلل»: إن كان قول الحسن عن غير واحد من الصَّحابة محفوظاً صحَّت الأقوال كلها. /
          قال الحافظ العسقلاني: يريد به انتفاء الاضطراب، وإلَّا فالحسن لم يسمع من أكثر المذكورين، ثمَّ الظَّاهر من السِّياق أنَّ الحسن كان يشك في رفعه، فكأنَّه حصل له بعد الجزم.
          ونقل التِّرمذي عن البخاري أنَّه قال: ليس في هذا الباب أصح من حديث شداد وثوبان، قلت: فكيف بما فيهما من الاختلاف؛ يعني: على أبي قلابة قال: كلاهما عندي صحيح؛ لأنَّ يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، وعن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد، روى الحديثين جميعاً؛ يعني: فانتفى الاضطراب وتعيَّن الجمع بذلك. وكذا قال عثمان الدَّارمي: صحَّ حديث: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) من طريق ثوبان وشداد قال: وسمعت أحمد يذكر ذلك.
          وقال المروزي: قلت لأحمد: إنَّ يحيى بن معين قال: ليس فيه شيء يثبت، فقال: هذا مجازفة. وقال ابن خزيمة: صح الحديثان جميعاً، وكذا قال ابن حبَّان والحاكم. وقال أحمد: أصح شيء في باب أفطر الحاجم والمحجوم حديث رافع بن خديج.
          هذا يريد ما أخرجه هو والتِّرمذي والنَّسائي وابن حبَّان والحاكم من طريق معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، عن السَّائب بن يزيد، عن رافع، لكن عارض أحمد يحيى بن معين في هذا فقال: حديث رافع أضعفها.
          وقال البخاري: هو غير محفوظ، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هو عندي باطلٌ.
          وقال التِّرمذي: سألت إسحاق بن منصور عنه فأبى أن يحدِّثني به عن عبد الرَّزَّاق، وقال: هو غلط، قلت: ما علَّته؟ قال: روى هشام الدَّستوائي عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد حديث ((مهر البغي خبيث)). وروي عن يحيى عن أبي قلابة: أنَّ أبا أسماء حدَّثه أنَّ ثوبان أخبره به، فهذا هو المحفوظ عن يحيى، فكأنَّه دخل لمعمر حديث في حديث، والله أعلم.
          وقال الشَّافعي في اختلاف الحديث بعد أن أخرج حديث شداد ولفظه: كنَّا مع رسول الله صلعم في زمان الفتح فرأى رجلاً يحتجم لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان فقال وهو آخذ بيدي: ((أفطر الحاجم والمحجوم))، ثم ساق حديث ابن عبَّاس ☻ أنَّه صلعم احتجم وهو صائم قال: وحديث ابن عبَّاس أمثلهما إسناداً، فإن توقَّى الحجامة كان أحب إلي احتياطاً، والقياس مع حديث ابن عبَّاس ☻ والذي أحفظ عن الصَّحابة والتَّابعين / وعامَّة أهل العلم أنَّه لا يفطر أحد بالحجامة. انتهى.
          وكان هذا هو السر في إيراد البخاري لحديث ابن عبَّاس ☻ عقب حديث: ((أفطر الحاجم والمحجوم)). وحكى التِّرمذي عن الزَّعفراني: كان الشَّافعي يقول ذلك ببغداد، وأمَّا بمصر فمال إلى الرُّخصة والله أعلم.
          ولمَّا روى الطَّحاوي حديث أبي رافع وعائشة وثوبان وشداد بن أوس وأبي هريرة ♥ ؛ قال: فذهب قوم إلى أنَّ الحجامة تفطر الصَّائم حاجماً كان أو محجوماً، واحتجُّوا في ذلك بهذه الآثار؛ أي: بأحاديث هؤلاء. انتهى.
          وأراد بالقوم هؤلاء عطاء بن أبي رباح والأوزاعي ومسروقاً ومحمَّد بن سيرين وأحمد بن حنبل وإسحاق فإنَّهم قالوا: الحجامة تفطر مطلقاً.
          ثمَّ قال الطَّحاوي وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا تفطر الحجامة حاجماً ولا محجوماً. انتهى.
          وأراد بهم عطاء بن يسار والقاسم بن محمَّد وعكرمة وزيد بن أسلم وإبراهيم النَّخعي وسفيان الثَّوري وأبا العالية وأبا حنيفة وصاحبيه ومالكاً والشَّافعي وأصحابه إلا ابن المنذر فإنَّهم قالوا: الحجامة لا تفطر.
          ثمَّ قال: وممَّن روينا عنه ذلك من الصَّحابة سعد بن أبي وقاص والحسين بن علي وعبد الله بن مسعود وابن عبَّاس وزيد بن أرقم وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وعائشة وأم سلمة ♥ .
          ثمَّ أجاب الطَّحاوي عن الأحاديث المذكورة بأنَّه ليس فيها ما يدلُّ على أنَّ الفطر المذكور كان لأجل الحجامة، بل إنَّما ذلك كان لمعنى آخر وهو أنَّ الحاجم والمحجوم كانا يغتابان رجلاً فلذلك قال صلعم ما قال. وكذا قال الشَّافعي ☼ فحمل ((أفطر الحاجم والمحجوم)) بالغيبة على سقوط أجر الصَّوم، وجعل نظير ذلك أنَّ بعض الصَّحابة قال للمتكلِّم يوم الجمعة: لا جمعة لك فقال النَّبي صلعم : ((صدق)) ولم يأمره بالإعادة، فدلَّ على أنَّ ذلك محمول على إسقاط الأجر.
          قال الطَّحاوي: وليس إفطارهما ذلك كالإفطار بالأكل والشُّرب والجماع، ولكنه حبط أجرهما باغتيابهما فصارا بذلك مفطرين لا أنَّه إفطار يوجب عليهما القضاء، وهذا كما قيل: الكذب يفطر الصَّائم ليس يراد به الفطر الذي يوجب القضاء إنَّما هو على حبوط الأجر.
          قال: وهذا كما تقول فسق القائم ليس معناه أنَّه فسق لأجل قيامه، ولكنَّه فسق لمعنىً آخر غير / القيام. ثمَّ روي بإسناده عن أبي سعيد الخدري ☺ قال: إنَّما كرهنا الحجامة للصَّائم من أجل الضَّعف. وروي أيضاً عن حميد قال: سأل ثابت البناني أنس بن مالك ☺: هل كنتم تكرهون الحجامة للصَّائم؟ قال: لا إلَّا من أجل الضَّعف. وروي أيضاً عن جابر عن أبي جعفر، وسالم عن سعيد، ومغيرة عن إبراهيم، وليث عن مجاهد عن ابن عبَّاس ☻ قال: إنَّما كرهنا الحجامة للصَّائم مخافة الضَّعف. انتهى.
          وقد ذكرت وجوه أخرى: منها: ما قاله البغوي في «شرح السنَّة»: معنى قوله: ((أفطر الحاجم والمحجوم))، تعرضا للإفطار، أمَّا الحاجم؛ فلأنَّه لا يأمن وصول شيء من الدَّم إلى جوفه عند المصِّ، وأمَّا المحجوم؛ فلأنه لا يأمن ضعف قوته لخروج الدَّم فيؤول أمره إلى أن يفطر، وهذا كما يقال للرَّجل يتعرض للهلاك: قد هلك فلان، وإن كان سالماً وكقوله: ((من جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكين)) يريد أنَّه قد تعرَّض للذَّبح لا أنَّه ذبح حقيقة.
          ومنها: ما قاله الخطَّابي: أن النَّبي صلعم مرَّ بهما مساء فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) فكأنَّه عذرهما بهذا؛ إذ كانا أمسيا ودخلا في وقت الإفطار.
          ومنها ما قيل: إنَّ هذا على التغليظ لهما كقوله: ((من صام الدَّهر لا صام ولا أفطر)).
          ومنها ما قيل: إنَّ معناه جاز أن يفطرا، كقولك: احصد الزَّرع إذا حان أن يحصد.
          ومنها ما يقرب من هذا من أنَّ معناه أنَّهما سيفطران، كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف:36].
          ومنها ما قيل: إنَّ معناه: فعلا مكروهاً وهو الحجامة، فكأنَّهما صارا متلبِّسين بإبطال العبادة.
          ومنها ما قيل: إنَّه منسوخ بحديث ابن عبَّاس ☻ الذي يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى، وسنفصله إن شاء الله تعالى بتوفيقه وعنايته.