نجاح القاري لصحيح البخاري

باب اغتسال الصائم

          ░25▒ (باب) حكم (اغْتِسَالِ الصَّائِمِ) وهو جوازه. قال الزَّين ابن المُنيِّر: أطلق الاغتسال ليشملَ جميع أنواعه من الفرض والسنَّة والمباح. وقال الحافظ العسقلاني: وكأنَّه يشير إلى ضعف ما روي عن عليٍّ ☺ من النَّهي عن دخول الصَّائم الحمَّام. أخرجه عبد الرَّزَّاق، وفي إسناده ضعف. واعتمده الحنفيَّة فكرهوا الاغتسال للصَّائم. انتهى.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّه لا يصح أن يراد بالإشارة معناها اللُّغوي، ولا معناها الاصطلاحي. وقوله: واعتمده الحنفيَّة غير صحيح على إطلاقه؛ لأنَّه رواية عن أبي حنيفة غير معتمد عليها، والمذهب المختار أنَّه لا يكره، ذكره الحسن عن أبي حنيفة، نبَّه عليه صاحب «الواقعات». وذكر في «الرَّوضة» و«جوامع الفقه»: لا يكره الاغتسال وبلُّ الثَّوب وصبُّ الماء على الرَّأس للحرِّ. وروى أبو داود بسندٍ صحيح عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، عن بعض أصحاب النَّبي صلعم قال: لقد رأيت النَّبي صلعم بالعرج يصبُّ على رأسه الماء وهو صائم من الحرِّ أو من العطش.
          وفي «المصنَّف»: حدَّثنا أزهر، عن أبي عون: كان ابن سيرين لا يرى بأساً أن يبل الثَّوب، ثمَّ يلقيه على وجهه. وحدَّثنا يحيى بن سعيد، عن عثمان بن أبي العاص: أنَّه كان يصبُّ عليه الماء، ويروح عنه، وهو صائم.
          (وَبَلَّ ابْنُ عُمَرَ ☻ ثَوْباً) بالماء (فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَائِمٌ) هذا رواية الكُشميهني، وفي رواية غيره كأبي ذرٍّ وابن عساكرَ: <فألقي عليه> على البناء للمفعول، وكأنَّه أمر غيره فألقاه عليه.
          وهذا التَّعليق رواه ابنُ أبي شيبة من طريق عبد الله / بن أبي عثمان قال: رأيتُ ابن عمر ☻ يبلُّ الثَّوب، ثمَّ يلقيه عليه. ومناسبته للتَّرجمة من جهة أنَّ الثَّوب المبلول إذا أُلقي على البدن بلَّ البدن، فيشبه البدن الذي سكبَ عليه الماء.
          وقال الحافظ العسقلاني: وأراد البخاريُّ بأثر ابن عمر ☻ هذا معارضة ما جاءَ عن إبراهيم النَّخعي بأقوى منه، فإنَّ وكيعاً روى عن الحسن بن صالح عن مغيرة عنه أنَّه كان يكره للصَّائم بلَّ الثِّياب.
          (وَدَخَلَ الشَّعْبِيُّ) هو: عامر بنُ شراحيل (الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ) وقد وصل هذا التَّعليق ابن أبي شيبة، عن الأحوص، عن أبي إسحاق قال: رأيت الشَّعبي يدخل الحمَّام وهو صائم، ومناسبته للتَّرجمة ظاهرة.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ (لاَ بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ الْقِدْرَ) بكسر القاف، ما يطبخ فيه، والمراد: ما يطبخ فيه من الطَّعام (أَوِ الشَّيْءَ) أي: أيَّ شيء من المطعومات، وهو من باب عطف العامِّ على الخاصِّ، والمعنى: لا بأس في إدخال الطَّعام في الفم من غير بلعٍ وإيصالٍ إلى الجوف؛ ليعرف طعمه، فإيصال الماء إلى البشرة بالطَّريق الأولى لا يضرُّ الصَّوم، فيناسب التَّرجمة من هذه الجهة. وهذا التَّعليق وصله ابن أبي شيبة من طريق عكرمة عنه بلفظ: لا بأس أن يتطاعمَ القِدر.
          ورواه البيهقي بإسناده إلى عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ ، ولفظه: لا بأس أن يتطاعم الصَّائم بالشَّيء؛ يعني: المرقة ونحوها.
          وقال ابن أبي شيبة: حدَّثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء عنه قال: لا بأس أن يذوق الخل أو الشَّيء ما لم يدخل حلقه وهو صائم. وعن الحسن: لا بأس أن يتطاعم الصَّائم العسل والسَّمن ونحوه ويمجَّه. وعن مجاهد وعطاء: لا بأس أن يتطعَّم الطَّعام من القدر. وعن الحكم نحوه. وفعله عروة.
          وفي «التَّوضيح»: وعندنا يستحبُّ له أن يحترزَ عن ذوق الطَّعام خوف الوصول إلى حلقه. وقال الكوفيُّون: إذا لم يدخل حلقه لا يفطر، وصومه تام، وهو قول الأوزاعي.
          وقال مالك: أكرهه ولا يفطر إن لم يدخل حلقه، وهو مثل قولنا. وقال ابن عبَّاس ☻ : لا بأس أن تمضغ الصَّائمة لصبيِّها الطَّعام، وهو قول الحسن البصري والنَّخعي، وكرهه مالك والثَّوري والكوفيُّون، إلَّا لمن يجد بدًّا من ذلك، وبه صرَّح أصحابنا الحنفيَّة.
          وفي «المحيط»: ويكره الذَّوق للصَّائم، ولا يفطره، وفيه: لا بأس بأن يذوق الصَّائم العسل، أو الطَّعام ليشتريه ليعرف جيِّده ورديَّه، كيلا يغبن فيه متى لم يذقه، وهو المرويُّ عن الحسن البصري. ولا بأس / للمرأة أن تمضغَ الطَّعام لصبيها إذا لم تجد منه بدًّا.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) البصري: (لاَ بَأْسَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ) وهو أعمُّ من أن يكون في سائر جسده، أو في بعضه، مثل: ما إذا تبرَّد بالماء على وجهه، أو على رجليه. ومناسبته للتَّرجمة من حيث إن المضمضة جزء من الغسل.
          وقال الحافظ العسقلاني: وصله عبد الرَّزَّاق بمعناه، ووقع بعضه في حديث مرفوع أخرجه مالك، وأبو داود من طرق، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، عن بعض أصحاب النَّبي صلعم قال: رأيت النَّبي صلعم بالعرج يصبُّ الماء على رأسه وهو صائمٌ من العطش أو من الحرِّ.
          (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ) ☻ : (إِذَا كَانَ صَوْمُ أَحَدِكُمْ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <إذا كان يوم صوم أحدكم> (فَلْيُصْبِحْ دَهِيناً) أي: مدهوناً، فعيل بمعنى مفعول (مُتَرَجِّلاً) من الترجُّل، وهو تسريح الشَّعر وتنظيفه، وكذلك التَّرجيل، ومنه أخذ المرجل.
          وهو المشطُ ذكر في مطابقته للتَّرجمة وجوه:
          الأوَّل: ما قاله الزَّين ابن المنيِّر: أن الادِّهان باللَّيل يقتضي استصحاب أثره في النَّهار، وهو ممَّا يرطِّب الدِّماغ، ويقوِّي النَّفس، وهو أبلغ من الاستعانة ببرد الاغتسال لحظة من النَّهار، ثمَّ يذهب أثره.
          واستبعده العيني: بأنَّ الأَدْهَان في نفسها متفاوتة، وما كلُّ دهن يرطب الدِّماغ، بل فيها ما يضرُّه يعرفه من ينظر في علم الطِّب. وقوله: أبلغ من الاستعانة... إلى آخره، غير مسلَّم؛ لأنَّ الاغتسال بالماء لتحصيل البرودة، والدهن يقوِّي الحرارة، وهو ضدُّ ذاك، فكيف يكون أبلغ منه؟!
          الوجه الثَّاني: ما قاله الحافظ العسقلاني: أنَّ المانع من الاغتسال لعلَّه سلك به مسلك استحباب التقشُّف في الصِّيام، كما ورد مثله في الحجِّ، فالادهان والترجُّل في مخالفة التقشُّف كالاغتسال.
          واستبعده العيني أيضاً: بأنَّ التَّرجمة في جواز الاغتسال لا في منعه، وكذلك أثر ابن مسعود ☺ في الجواز لا في المنع، فكيف يجعل الجواز مناسباً للمنع؟!
          الوجه الثَّالث: ما قاله ابن المنيِّر الكبير: أنَّه أراد البخاري الرَّد على من كره الاغتسال للصَّائم؛ لأنَّه إن كرهه خشية وصول الماء حلقه، فالعلَّة باطلة بالمضمضة والسِّواك، وبذوق القِدْر ونحو ذلك، وإن كرهه للرَّفاهية فقد استحبَّ السَّلف للصَّائم / الترفُّه والتجمُّل والادهان والكحل ونحو ذلك. ولذلك ساق هذه الآثار في هذه التَّرجمة.
          قال العيني: وهذا أقرب إلى القبول، لكن تحقيقه أن يقال: أنَّ بالاغتسال يحصل التطهُّر والتنظُّف للصَّائم وهو في ضيافة الله تعالى ينتظر المائدة، ومن هذه حاله يحسن له التطهُّر والتنظُّف والتطيُّب، وهذه تحصل بالاغتسال والادهان والترجُّل.
          هذا؛ وروي عن قتادة أنَّه قال: يستحبُّ للصَّائم أن يدهن حتَّى يذهب عنه غبرة الصَّوم. وأجازه الكوفيُّون والشَّافعي، وقال: لا بأس أن يدهن الصَّائم شاربه. وممَّن أجاز الدهن للصَّائم مطرَّف وابن عبد الحكم وأصبغ، ذكره ابن حبيب، وكرهه ابن أبي ليلى.
          (وَقَالَ أَنَسٌ) هو: ابنُ مالك ☺: (إِنَّ لِي أَبْزَنَ) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الزاي وآخره نون، هو الحوض. وقال ابن قَرْقول: مثل الحوض الصَّغير من فخار ونحوه.
          وقال الحافظ العسقلاني: هو حجرٌ منقورٌ يشبه الحوض. وقال أبو ذرٍّ: كالقدر يسخَّن فيه الماء وهو فارسي معرَّب، ولذلك لم يصرف، وهذا على رواية: ((إن لي أبزن))، بالنصب من غير تنوين.
          وفي «المحكم»: هو شيء يتَّخذ من الصفر للماء له جوف. وقيل: هو مستنقعٌ يكون أكثر ذلك في الحمَّام، وقد يكون في غيره، وقد يتَّخذ من صفر وخشب. وقال القاضي عياض: بكسر الهمزة أيضاً. وفي «القاموس»: بتثليثها. وقال صاحب «التَّلويح»: الذي قرأته على جماعة من فضلاء الأطبَّاء، وعدَّ جماعةً: أُبزن، بضم الهمزة. وقال الكرماني: هي كلمة مركَّبة من ((آب))، وهو الماء، ومِن ((زن)) وهو المرأة؛ لأنَّ ذلك تتَّخذه النساء غالباً، وحيث عُرِّب أُعرِبَ. قال في «القاموس»: هو حوض يغتسلُ فيه، وقد يتَّخذ من نحاس. انتهى.
          قال الكرمانيُّ: وفي بعضها بقصر الهمزة. وقال البرماويُّ: وهو يدلُّ على أنَّه بالمدِّ والقصر. وفي رواية أبي ذرٍّ: <إن لي أبزنُ> بالرفع. قال الزَّركشي: على أنَّ اسم ((إنَّ)) ضمير الشَّأن، والجملة بعدها مبتدأ وخبر في موضع رفعٍ على أنَّه خبر ((إن)). وضعَّفه في «المصابيح»، والوجهان في الفرع منوَّناً، وفي غيره بدون تنوين.
          (أَتَقَحَّمُ) بفتح الهمزة والفوقية والمهملة المشددة بعدها ميم؛ أي: ألقي نفسي وأدخل (فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ) وهذا التَّعليق وصله قاسمُ بن ثابت في «غريب الحديث» له من طريق عيسى بنِ طهمان: سمعتُ أنس بن مالك ☺ يقول: إنَّ لي أبزن إذا وجدت الحرَّ تقحَّمت / فيه وأنا صائمٌ، وكأنَّ الأبزن كان ملازماً، فكان أنسٌ ☺ إذا وجد الحرَّ يتبرَّد بذلك.
          (وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ صلعم أَنَّهُ اسْتَاكَ وَهُوَ صَائِمٌ) رواه التِّرمذي قال: حدَّثنا محمَّد بن بشَّار: حدَّثنا عبد الرَّحمن بن مهدي: حدَّثنا سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر، عن أبيه قال: رأيت النَّبي صلعم ما لا أحصي يتسوَّك وهو صائم، ثمَّ قال: حديث عامر بن ربيعة حديث حسنٌ.
          وأخرجه أبو داود أيضاً، عن محمَّد بن الصباح، عن شريك، وعن مسدَّد، عن يحيى، عن سفيان كلاهما عن عاصم ولفظه: رأيت رسول الله صلعم يستاكُ وهو صائم. زاد في رواية: ((ما لا أعدُّ ولا أُحصي)).
          قال صاحب ((الإمام)): ومداره على عاصم بن عبيد الله، قال البخاري: منكر الحديث.
          وقال النَّووي في «الخلاصة» بعد أن حكى عن التِّرمذي أنَّه حسَّنه: لكن مداره على عاصم بن عبيد الله، وقد ضعَّفه الجمهور، فلعلَّه اعتضد. انتهى.
          وقال المزِّي: وأحسن ما قيل فيه قول العجلي: لا بأس به، وقول ابن عدي: هو مع ضعفهِ يكتب حديثه. وقال البيهقي بعد تخريجه: عاصم بن عبيد الله ليس بالقويِّ.
          ومطابقته للتَّرجمة من حيث إنَّه يحصل به تطهير الفم، كما ورد في الحديث: ((السِّواك مطهرة للفم)) [خ¦30/27-3025] كما يحصل التَّطهير للبدن بالاغتسال، فمن هذه الحيثيَّة تحصل المطابقة بينه وبين التَّرجمة.
          فإن قيل: في استياك الصَّائم إزالة الخلوف الذي هو أطيبُ عند الله من ريحِ المسك؟!
          فالجواب: إنَّما مدح النَّبي صلعم الخلوف نهياً للنَّاس عن تقذُّر مكالمة الصَّائمين بسبب الخلوف، لا نهياً للصوَّام عن الاستياك، والله غني عن وصول الرَّائحة الطَّيِّبة إليه، فعلمنا يقيناً أنَّه لم يرد بالنَّهي استبقاء الرَّائحة، وإنَّما أراد نهي النَّاس عن كراهتها، والله أعلم.
          ولمَّا روى التِّرمذي هذا الحديث قال: وفي الباب عن عائشة ♦. انتهى. وهو ما رواه ابنُ ماجه والبيهقي من رواية أبي إسماعيل المؤدِّب، واسمه إبراهيم بنُ سليمان، عن مجالد، عن الشَّعبي، عن مسروق، عن عائشة ♦ قالت: قال رسول الله صلعم : ((من خيرِ خصال الصَّائم السِّواك)).
          ومجالد بن سعيد: ضعَّفه الجمهور، ووثَّقه النَّسائي. وروى له مسلم مقروناً بغيره. وفي الباب أيضاً عن أنس وخبَّاب بن الأرت وأبي هريرة ♥ . /
          أمَّا حديث أنس ☺ فرواه الدَّارقطني والبيهقي من رواية أبي إسحاق الخوارزمي قاضي خوارزم قال: سألت عاصماً الأحول فقلتُ: أيستاك الصَّائم؟ فقال: نعم، فقلت: برطب السِّواك ويابسه؟ قال: نعم، قلت: أوَّل النَّهار وآخره؟ قال: نعم، قلت: عمَّن؟ قال: عن أنس بن مالك ☺ عن النَّبي صلعم .
          قال الدَّارقطني: أبو إسحاق الخوارزميُّ ضعيف يبلغ عن عاصم الأحول بالمناكير لا يُحتج به. انتهى.
          ورواه النَّسائي في كتاب «الأسماء والكُنى» في ترجمة أبي إسحاق، وقال: اسمه إبراهيمُ بن عبد الرَّحمن منكر الحديث.
          وأمَّا حديث خبَّاب بن الأرتِّ ☺ فرواه الطَّبراني والدَّارقطني والبيهقي من رواية كيسان بن عمر القصَّاب، عن عمر بن عبد الرَّحمن، عن خبَّاب، عن النَّبي صلعم : ((إذا صمتُم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي، فإنَّه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشيِّ إلَّا كانتا نوراً بين عينيه يوم القيامة)). قال الدَّارقطني: كيسان بن عمر ليس بالقويِّ. وقد ضعَّفه يحيى بن معين والساجي.
          وأمَّا حديث أبي هريرة ☺ فرواه البيهقي من رواية عمر بن قيس، عن عطاء، عن أبي هريرة ☺ قال: لك السِّواك إلى العصر، فإذا صلَّيت العصر فألقه، فإنِّي سمعت رسول الله صلعم يقول: ((خلوف فمِّ الصَّائم أطيبُ عند الله من ريحِ المسك)) [خ¦5927].
          وعمر بن قيس هو الملقَّب سندل، مكِّي متروك، قاله أحمد والنَّسائي وغيرهما، ولكن الحديث المرفوع منه صحيح أخرجه البخاري ومسلم من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ☺. وأمَّا استدلال أبي هريرة ☺ به على السِّواك، فليس في الصَّحيح.
          فائدة: أمَّا حكم السِّواك للصَّائم فقد اختلف العلماء فيه على ستَّة أقوال:
          الأوَّل: أنَّه لا بأس به للصَّائم مطلقاً قبل الزَّوال وبعده، ويروى عن عليٍّ وابن عمر ♥ أنَّه لا بأس بالسِّواك الرَّطب للصَّائم. وروي ذلك أيضاً عن مجاهد وسعيد بن جُبير وعطاء وإبراهيم النَّخعي ومحمَّد بن سيرين وأبي حنيفة وأصحابه والثَّوري والأوزاعي وابن عليَّة، ورويت الرُّخصة في السِّواك للصَّائم والمفطر والرَّطب واليابس سواء. /
          الثَّاني: كراهته للصَّائم بعد الزَّوال، واستحبابه قبله برطب أو يابس، وهو للشَّافعي في أصحِّ قوليه وقول أبي ثور. وقد روي عن عليٍّ ☺ كراهة السِّواك بعد الزَّوال، رواه الطَّبراني.
          الثَّالث: كراهته للصَّائم بعد العصر فقط. ويروى ذلك عن أبي هريرة ☺.
          الرَّابع: التَّفرقة بين صوم الفرض وصوم النَّفل، فيكره في الفرض بعد الزَّوال، ولا يكره في النَّفل؛ لأنَّه أبعد عن الرِّياء، حكاه المسعودي عن أحمد ابن حنبل، وحكاه صاحب «المعتمد» من الشَّافعية عن القاضي حسين.
          الخامس: أنَّه يكره السِّواك للصَّائم بالسِّواك الرَّطب دون غيره سواء أوَّل النَّهار وآخره، وهو قول مالك وأصحابه. وممَّن روي عنه كراهة السِّواك الرَّطب للصَّائم الشَّعبي وزياد بن حدير وأبو ميسرة والحكم بن عُتيبة وقتادة.
          السَّادس: كراهته للصَّائم بعد الزَّوال مطلقاً، وكراهة الرَّطب للصَّائم مطلقاً، وهو قول أحمد وإسحاق بن راهويه.
          تكميل: قد سقط قوله: <ويذكر> إلى آخره عند ابن عساكرَ.
          (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ (يَسْتَاكُ) أي: الصَّائم (أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، وَلاَ يَبْلَعُ رِيقَهُ) وهذا التَّعليق وصله ابن أبي شيبة، عن حفص، عن عبيد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر ☻ بلفظ: كان يستاك إذا أراد أن يروح إلى الظُّهر وهو صائم. وقوله: <ولا يبلع ريقه> ساقط عند غير أبي ذرٍّ.
          ونسبه الحافظ العسقلاني إلى نسخة الصغَّاني، ومناسبته للتَّرجمة مثل مناسبة الحديث السَّابق، أو مثل مناسبة أثر ابن عبَّاس ☻ في تطعم القدر.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) هو: ابنُ أبي رباح: (إِنِ ازْدَرَدَ) أي: ابتلع الصَّائم، وأصله ازترد افتعل، من زرد، إذا بلع، فقلبت التاء دالاً كما في ازدجر (رِيقَهُ لاَ أَقُولُ يُفْطِرُ) به؛ أي: إذا كان صرفاً طاهراً لعسر التحرُّز عنه خرج بالطَّاهر النَّجس، كما لو دميت لثَّته، وبالصَّرف المخلوط بغيره، وإن كان طاهراً، فلو نزلَ معه؛ أي: مع ريقه الطَّاهر شيءٌ بين أسنانه إلى جوفه بطل صومه عند الشَّافعية إن أمكنه مجُّه؛ لكونه غير صرف.
          وقالت الحنفيَّة: إذا ابتلع قدراً يسيراً من الطَّعام من بين أسنانه ذاكراً لصومه لا يفسد؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه عادة، فصار بمنزلة ريقه، والكثير يمكن الاحتراز عنه. وقد سقط قوله: <وقال عطاء... إلى آخره> في رواية ابن عساكرَ.
          (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ) هو: محمَّد بن سيرين، عالم تعبير الرُّؤيا: (لاَ بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ، قِيلَ: / لَهُ) أي: للسِّواك الرَّطب (طَعْمٌ؟ قَالَ) أي: ابن سيرين: (وَالْمَاءُ لَهُ طَعْمٌ، وَأَنْتَ تُمَضْمِضُ بِهِ) فاك، بضم الفوقية وكسر الميم الثانية، وفي رواية أبي ذرٍّ: <تَمضمَض> بفتح الفوقية والميم.
          وهذا التَّعليق وصله ابنُ أبي شيبة، عن عُبيد بن سهل الغداني، عن عقبة بن أبي حمزة المازني، قال: أتى محمَّد بن سيرين رجل فقال: ما ترى في السِّواك للصَّائم؟ قال: لا بأسَ به، قال: إنَّه جريدة، وله طعمٌ، قال: الماء له طعمٌ وأنت تمضمض به. فإن قيل: لا طعمَ للماء؛ لأنَّه تفِه، فالجواب: أنَّ الله تعالى أثبت له طعماً في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249].
          وقال صاحب «المجمل»: الطَّعام يقعُ على كلِّ ما يطعم حتَّى الماء.
          (وَلَمْ يَرَ أَنَسٌ) هو: ابنُ مالك ☺ (وَالْحَسَنُ) هو البصري (وَإِبْرَاهِيمُ) هو النَّخعي (بِالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ بَأْساً) ومسألة الكحل هنا وقعت استطراداً لا قصداً، فلذلك فلا يطلب فيها المناسبة للتَّرجمة.
          أما التَّعليق عن أنس ☺: فرواه أبو داود في «السُّنن» من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، عن أنس ☺: أنَّه كان يكتحل وهو صائم.
          وروى التِّرمذي، عن أبي عاتكة، عن أنس ☺: جاء رجل إلى النَّبي صلعم قال: اشتكت عيني أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: ((نعم)). قال التِّرمذي: ليس إسناده بالقويِّ، ولا يصحُّ عن النَّبي صلعم في هذا الباب شيء. وأبو عاتكة اسمه: طريف بن سليمان، وقيل: سليمان، وقيل: اسمه سلمان بن طريف.
          قال البخاري: هو منكر الحديث. وقال أبو حاتم الرَّازي: ذاهب الحديث. وقال النَّسائي: ليس بثقة.
          وروى ابن ماجه بسند لا بأسَ به عن عائشة ♦ قالت: اكتحلَ رسول الله صلعم وهو صائم.
          وفي كتاب «الصِّيام» لابن أبي عاصم بسند لا بأس به من حديث نافع عن ابن عمر ☻ : خرج علينا رسول الله صلعم وعيناه مملوءتان من الإثمد في رمضان، وهو صائم.
          فإن قيل: يعارض هذا حديثٌ رواه أبو داود عن عبد الرَّحمن بن نعمان بن معبد بن هوذة، عن أبيه، عن جدِّه، عن النَّبي صلعم : أنَّه أمر بالإثمد المروح عند النَّوم، وقال: ((ليتَّقه الصَّائم)).
          فالجواب: أنَّه قال أبو داود: قال لي يحيى بن معين: هذا حديث منكر. وقال الأثرم عن أحمد: هذا حديث منكر، فلا معارضة حينئذٍ.
          وروى ابن عديٍّ في «الكامل»، والبيهقي / من طريقه، والطَّبراني في «الكبير» من رواية حبَّان بن علي، عن محمَّد بن عبد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ النَّبي صلعم كان يكتحل بالإثمد وهو صائم. ومحمَّد هذا قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء.
          وروى الحارث بن أبي أسامة، عن أبي زكريا يحيى بن إسحاق: حدَّثنا سعيد بن زيد، عن عمرو بن خالد، عن محمَّد بن علي، عن أبيه، عن جدِّه، عن عليِّ بن أبي طالب ☺، وعن حبيب بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر ☻ قال: انتظرنا النَّبي صلعم أن يخرج في رمضان إلينا، فخرج من بيت أمِّ سلمة ♦ وقد كحَّلته، وملأت عينيه كحلاً.
          وليس هذان الحديثان صريحين في الكحل للصَّائم، إنَّما ذكر فيهما رمضان فقط، ولعلَّه كان في رمضان في اللَّيل، والله أعلم.
          وروى البيهقي في «شعب الإيمان» من حديث ابن عبَّاس ☻ قال: قال رسول الله صلعم : ((من اكتحلَ بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً)). قال البيهقي: إسناده ضعيفٌ، وفيه: روى الضَّحاك عن ابن عبَّاس ☻ ، والضَّحاك لم يلق ابن عبَّاس ☻ .
          وروى ابن الجوزي في كتاب «فضائل الشُّهور» من حديث أبي هريرة ☺ في حديث طويل فيه: ((صيام عاشوراء والاكتحال فيه))، قال ابن ناصر: هذا حديث حسنٌ عزيزٌ، رجاله ثقات، وإسناده على شرط صحيح. ورواه ابن الجوزي في «الموضوعات».
          وقال الشَّيخ زين الدِّين العراقي: والحقُّ ما قاله ابن الجوزي، وأنَّه حديث موضوع.
          وروى الطَّبراني في «الأوسط» من حديث بريرة ♦ قالت: رأيت النَّبي صلعم يكتحل بالإثمد، وهو صائمٌ.
          وأمَّا أثر الحسن فوصله عبد الرَّزَّاق بإسنادٍ صحيح عنه قال: لا بأس بالكحل للصَّائم.
          وأمَّا أثر إبراهيم فاختلف عنه، فروى سعيد بن منصور، عن جرير، عن القعقاع بن يزيد: سألت إبراهيم أيكتحل الصَّائم؟ قال: نعم، قلت: أجد طعم الصَّبر في حلقي؟! قال: ليس بشيءٍ.
          وروى ابن أبي شيبة، عن حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: لا بأس بالكحل للصَّائم ما لم يجد طعمه. وروى أبو داود من طريق يحيى بن عيسى عن الأعمش قال: ما رأيت أحداً / من أصحابنا يكره الكحل للصَّائم. وكان إبراهيم يرخِّص أن يكتحلَ الصَّائم بالصَّبر.
          وأمَّا حكم المسألة: فقد اختلفوا فيه، فلم ير به الشَّافعي بأساً سواء وجد طعم الكحل في الحلق أم لا.
          واختلاف قول مالك فيه في الجواز والكراهة.
          وقال في «المدوَّنة»: يفطر ما وصل إلى الحلق من العين. وقال أبو مصعب: لا يفطرُ.
          وذهب الثَّوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق إلى كراهة الكحل للصَّائم. وحكي عن أحمد: أنَّه إذا وجد طعمه في الحلق أفطر.
          وعن عطاء والحسن البصري والنَّخعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور: يجوز بلا كراهة، وأنَّه لا يفطر به سواء وجد طعمه أم لا.
          وحكى ابن المنذر عن سليمان التَّيمي ومنصور بن المعتمر وابن شبرمة وابن أبي ليلى أنَّهم قالوا: يبطل صومه. وقال قتادة: يجوز بالإثمد، ويكره الصَّبر.
          والحاصل: أنَّ مذهب الشَّافعية والحنفيَّة: أنه لا يفطر، ولو تشرَّبته المسام؛ لأنَّه لم يصل في منفذ مفتوح كما لا يبطله الانغماس في الماء، وإن وجد أثره في باطنه. وقالت المالكيَّة والحنابلة: إن اكتحل بما يتحقَّق معه الوصول إلى حلقه من كحل أو صبر أو قطور أو ذرور أو إثمد كثير أو يسير مطيَّب أفطر.