نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الحياء في العلم

          ░50▒ (بابُ الْحَيَاءِ) بالمد، وهو تغيُّرٌ وانكسار يعترى الإنسان عند خوف ما يعاب أو يذم، وقد مر الكلام فيه في باب «من قعد حيث ينتهي به المجلس» [خ¦66].
          (فِي الْعِلْمِ) والمراد بالحياء في العلم: استعماله أو تركه فيه بحسب المواضع، ففي موضع استعماله مطلوب، وفي موضع آخر تركه مطلوب، فالأول: هو الذي أشار إليه بحديث أم سلمة ♦ [خ¦130] وحديث ابن عمر ☻ [خ¦131] والثاني: هو الذي أشار إليه بالأثر المروي عن مجاهد وعائشة ♦ [خ¦130]، فالحياء في القسم الأول ممدوح، وفي الثاني مذموم، بل هو ليس بحياء حقيقة وإنما هو عجز وكسل ومهانة، وسُمِّي حياء لشبهه بالحياء الحقيقي في الترك.
          ووجه المناسبة بين البابين أن المذكور في الباب السابق تخصيص قوم دون قوم بالعلم لمعنَى ذُكِر فيه، وفي هذا الباب أنه لا ينبغي لأحد أن يستحيي من السؤال فيما له فيه حاجة زاعماً أن العلم مخصوص بقوم دون قوم، بل عليه أن يسأل عن كل ما لا يعلمه من أمر دينه ودنياه.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) هو: ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة، أبو الحجاج المفسِّر التابعي الكبير، وقد مر في أول كتاب «الإيمان» [خ¦8] (لاَ يَتَعَلَّمُ) نفي لا نهي (الْعِلْمَ مُسْتَحْىٍ) بإسكان الحاء المهملة على وزن مستفع كما هي لغة أهل الحجاز، وبها جاء القرآن، ويجوز مستحٍ على وزن مستفٍ كما هي لغة بني تميم على ما نقل عن الأخفش.
          (وَلاَ مُسْتَكْبِرٌ) أي متعظِّم في نفسه؛ أي: الذي يتعاظم ويستنكف أن يتعلم العلم وللعلم آفات فأعظمها الاستنكاف وثمرته الجهل والذلة في الدنيا والآخرة، وسئل إمامنا أبو حنيفة ☼ : بمَ حصلت العلم العظيم؟ فقال: (ما بخلت بالإفادة ولا استنكفت عن الاستفادة)، فهذا الحياء مذموم لكونه سبباً لترك أمر شرعي، وهذا التعليق وصله أبو نُعيم في «الحلية» من طريق علي ابن المديني / عن ابن عيينة، عن منصور عن مجاهد، وهو إسناد صحيح على شرط المصنف.
          (وَقَالَتْ عَائِشَةُ) أم المؤمنين ♦: (نِعْمَ) هو من أفعال المدح كما أن (بئس) من أفعال الذم، ويكون فاعلها معرفاً باللام أو مضافاً إلى المعرف بها، ويجوز اتصال تاء التأنيث الساكنة بهما فقط يقال: نعمت وبئست، ويجوز حذفها أيضاً وإن كان الفاعل مؤنثاً حقيقياً كما هاهنا فإن قولها:
          (النِّسَاءُ) فاعله (نِسَاءُ الأَنْصَارِ) هو مرفوع على أنه مخصوص بالمدح، والمراد منها: نساء أهل المدينة (لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ) عن (أَنْ يَتَفَقَّهْنَ) أي: عن التفقه والتعلم (فِي) أمور (الدِّينِ) وهذا التعليق عطف على التعليق الأول.
          وقد تعسف الكرماني حيث جوز أن يكون عطفاً على: قول مجاهد: (لا يتعلم)، فيكون من مقوله على أن مجاهداً سمع من عائشة ♦، والظاهر هو الأول وليس لأحد التعليقين تعلُّق بالآخر، ثم إن هذا التعليق وصله مسلم من طريق إبراهيم بن مهاجر، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة في حديث أوله: «إن أسماء بنت يزيد الأنصارية سألت النبي صلعم عن غسل المحيض».
          وقد رواه أبو داود عن عبيد الله بن معاذ: حدثنا أبي حدثنا شعبة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة ♦ قالت: «نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن عن الدين ويتفقهن فيه».
          ومطابقة التعليقين للترجمة من الوجه الثاني الذي تَرْكُ الحياء فيه مطلوب كما أشرنا إليه.