نجاح القاري لصحيح البخاري

باب كيف يقبض العلم

          ░34▒ (بابٌ) بالتنوين، وفي رواية بالإضافة إلى قوله: (كَيْفَ يُقْبَضُ) أي: يطوى ويرفع (الْعِلْمُ) فكما أن البسط قد يراد به الانتشار، كذلك يراد بالقبض الطي والرفع.
          ووجه المناسبة بين البابين: أن المذكور في الباب السابق الحرص على الحديث الذي هو من أشرف أنواع العلوم، والمذكور في هذا الباب ارتفاع العلوم وانطواؤها، فتناسقا من هذه الجهة، أو أراد بذكر هذا الباب عقيب الباب السابق: التنبيه على الاغتنام بتحصيل العلوم مع الحرص عليها قبل فواتها؛ لأنها مما تقبض وترفع.
          (وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الخليفة الراشد الأموي، وقد مر في كتاب «الإيمان» [خ¦8] (إِلَى أَبِي بَكْرِ) بن محمد بن عمرو (بْنِ حَزْمٍ) بفتح المهملة وسكون الزاي، الأنصاري المدني التابعي الفقيه، ولي القضاء والإمرة والموسم لسليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، وقال الواقدي: لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة ولي أبو بكر إمرة المدينة وقضاءها، فاستقضى أبو بكر ابن عمه على القضاء، وكان يخضب بالحناء والكتم، توفي سنة اثنتين ومئة في خلافة هشام بن عبد الملك، وهو ابن أربع وثمانين سنة، روى له الجماعة إلا الترمذي، ونسبه المؤلف إلى جد أبيه لشهرته به، ولجده عمرو صحبة، ولأبيه محمد رؤية، ولا يعرف له اسم سوى أبي بكر، فقيل: كنيته أبو عبد الملك، واسمه: أبو بكر، وقيل: اسمه كنيته.
          (انْظُرْ مَا كَانَ)؛ أي: اجمع الذي وُجِدَ؛ أي: تجده، وفي رواية: <انظر / ما كان عندك> أي: في بلدك، فعلى الرواية الأولى تكون «كان» تامة، وعلى الثانية ناقصة (مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلعم فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ) بضم الدال من دَرَس يدرُس _من باب نصر ينصر_ دروساً؛ أي: عفى وانمحى (وَذَهَابَ) بفتح الذال المعجمة (الْعُلَمَاءِ) من باب عطف السبب على المسبب.
          ويستفاد من هذا: أن ابتداء تدوين الحديث النبوي كان في أيام عمر بن عبد العزيز ⌂، وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ، فلما خاف عمر ⌂، وكان على رأس المئة الأولى من ذهاب العلم بذهاب العلماء رأى أن في تدوينه ضبطاً له، وإبقاء، وقد روى أبو نُعيم في «تاريخ أصبهان» هذه القصة بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلعم فاجمعوه.
          (وَلاَ يُقْبَلْ) بضم الياء التحتانية، وجزم اللام، وفي بعض النسخ _برفع اللام_ على أن «لا» نافية، وفي نسخة: <ولا تقبل> _بفتح المثناة الفوقية_ على الخطاب مع الجزم (إِلاَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلعم ، وَلْيُفْشُوا) بصيغة الأمر من الإفشاء وهو الإشاعة (الْعِلْمَ) بالنصب مفعوله.
          (وَلْيَجْلِسُوا) بفتح الياء التحتانية وكسر اللام من الجلوس لا من الإجلاس، ويجوز فيهما تسكين اللام وكسرها، والضمير فيهما راجع إلى العلماء المفهوم من فحوى الكلام، وفي رواية: <ولتفشوا ولتجلسوا> بالخطاب فيهما.
          (حَتَّى يُعَلَّمَ) على صيغة المجهول من التعليم، وفي رواية: على صيغة المعلوم من العلم، وعلى الوجهين محل قوله: (مَنْ لاَ يَعْلَمُ) بصيغة المعلوم من العلم مرفوع، أما على الأول؛ فعلى أنه مفعول ناب مناب الفاعل، وأما على الثاني فعلى أنه فاعل.
          (فَإِنَّ الْعِلْمَ لاَ يَهْلِكُ) بفتح أوله وكسر ثالثه وقد يفتح ثالثه، وقرأ الحسن البصري وأبو حَيْوة وابن أبي إسحاق: ((ويَهلك الحرث والنسل)) بفتح الياء واللام ورفع الثاء؛ أي: لا يضيع / (حَتَّى يَكُونَ سِرّاً) أي: خفية كاتخاذه في الدور المحجورة التي قد لا يتأتَّى فيها نشر العلم، بخلاف المساجد والجوامع والمدارس ونحوها.
          قال ابن بطَّال: في أمر عمر ⌂ بكتابة حديث النبي صلعم خاصة، وأن لا يقبل غيره: الحض على اتباع السنن وضبطها، إذ هي الحجة عند الاختلاف.
          وفيه أنه ينبغي للعالم نشر العلم وإذاعته لا جمعه وإضاعته، ثم إن هذا التعليق وقع موصولاً عنه في غير رواية الكشميهني وكريمة وابن عساكر ولفظه: <حدثنا> وفي رواية الأَصيلي: <قال أبو عبد الله> أي البخاري.
          (حَدَّثَنَا الْعَلاَءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ) أبو الحسن العطار البصري الأنصاري الثقة ساكن مكة.
          قال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال العجلي: ثقة، وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن رجل عنه، ولم يخرج له مسلم شيئاً، مات سنة اثنتي عشرة ومائتين.
          (قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ) الخراساني القَسْمَلي _بفتح القاف وسكون المهملة وفتح الميم_ نسبة إلى القساملة، وقيل لهم ذلك؛ لأنهم من ولد قسملة، ولهم محلة بالبصرة معروفة بالقسامل، وقيل: نزل فيهم فنسب إليهم، سكن البصرة. قال يحيى بن إسحاق: كان من الأبدال، توفي سنة سبع وستين ومئة، روى له الجماعة إلا ابن ماجه.
          (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ) القرشي المدني مولى ابن عمر ☻ ، وقد مرَّ في باب «أمور الإيمان» [خ¦9] (بِذَلِكَ) متعلق بـ«حدثنا» (يَعْنِي حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، إِلَى قَوْلِهِ: ذَهَابَ الْعُلَمَاءِ) أشار بذلك إلى أنه روى أثر عمر بن عبد العزيز موصولاً، ولكن إلى قوله: إلى ذهاب العلماء، ولذا فسر ذلك بقوله: يعني...إلى آخره.
          قال الحافظ العسقلاني: (يحتمل أن يكون ما بعده؛ يعني قوله: «ولا يقبل... إلى قوله: حتى يكون سراً» ليس من كلام عمر، أو من كلامه، ولكن لم يدخل في هذه الرواية الموصولة، والأول أظهر، وبه صرح أبو نُعيم في ((المستخرج)) قال: ولم أجده في مواضع كثيرة إلا كذلك، فإذا كان كذلك يكون هذا من كلام البخاري أورده عقيب كلام عمر بن عبد العزيز، ثم بين بعد ذلك غاية ما انتهى إليه كلام عمر ⌂، وإنما أخَّر إسناد عمر عن كلامه، والعادة تقديم الإسناد للفرق بين إسناد الخبر، وإسناد الأثر، كذا قال الكرماني، وفيه: أنه غير مطرد، ويحتمل أن يكون قد ظفر بإسناده بعد وضع هذا الكلام، فألحقه بالآخر، على أن هذا الإسناد ليس بموجود عند جماعة كما عرفت).