نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر

          ░16▒ (باب مَا ذُكِرَ)؛ وفي نسخة: <يُذكر> بصيغة المضارع المجهول (فِي ذَهَابِ) بفتح الذال المعجمة (مُوسَى) وزِيد في رواية: < صلعم > موسى بن عمران بن يَصْهَر (1) بن قاهَث ابن لاَوَى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ╫، ولد وعمران ابن سبعين سنة، وعمَّر عمران مئة وسبعاً وثلاثين سنة، وعمَّر موسى ╕ مئة وعشرين سنة، وكانت وفاته في التِّيه في سابع آذار لمضي ألف سنة وستمائة وعشرين سنة من الطوفان في أيام منوجهر الملك، وكان عمره لمـَّا خرج ببني إسرائيل من مصر ثمانين سنة، وأقام في التِّيه أربعين سنة. وقال الفربري: مات موسى وعمره مئة وستون سنة.
          وهو صاحب فرعون الذي هو الوليد بن مصعب بن ريَّان بن الوليد، وريَّان بن الوليد هو الذي ولَّى يوسف ◙ على / خزائن مصر، وأسلم على يديه، وملَك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف ◙ إلى الإسلام فأبى، وكان جباراً، وقبض الله يوسف ◙ وطال ملكه، ثم هلك، وملَك بعده أخوه الوليد بن مصعب بن ريَّان، وكان أغنى من قابوس، وامتدت أيام ملكه حتى كان فرعون موسى ╕، ولم يكن في الفراعنة أغنى منه ولا أطول عمراً في الملك منه، عاش أربعمائة سنة.
          وموسى معرَّب موشِي _بالشين المعجمة_ سمَّته به آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، لمـَّا وجدوه في التابوت، وهو اسم اقتضاه حاله؛ لأنه وجد بين الماء والشجر فمُوْ بلغة القِبط: الماء، وشِي: الشجر فعُرِّب فقيل: موسى. وقال الصاغاني: هو عبراني عُرِّب، وسائر مباحثه مستوفى في كُتُب الصرف.
          (فِي الْبَحْرِ)؛ خلاف البر سمي بذلك؛ لعمقه واتساعه، (إِلَى الْخَضِرِ)؛ بفتح الخاء المعجمة وكسر الضاد المعجمة، ويجوز _إسكان الضاد مع كسر الخاء وفتحها_ كما في نظائره، هو بَلْيا _بفتح الموحدة وسكون اللام وبالياء_ آخر الحروف.
          ويقال: إبليا بزيادة الهمزة في أوله، وقيل: اسمه خضرون كما ذكره أبو حاتم السجستاني، وقيل: إرميا. وقال مقاتل: اسمه اليسع سُمِّي بذلك؛ لأن علمه وسع ستَّ سماوات وستَّ أرضين.
          ووهَّاه ابن الجوزي بأن اليسع اسم أعجمي ليس بمشتق، وقيل: اسمه أحمد حكاه القشيري، ووهَّاه ابن دِحية: بأنه لم يسمَّ أحد قبل نبينا صلعم بذلك، وقيل: عامر، حكاه ابن دحية في كتاب «مرج البحرين» والمشهور هو الأول؛ أي: بليا بن مَلكان _بفتح الميم وسكون اللام_ بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ◙، وقيل: ابن قابيل بن آدم، ذكره أبو حاتم السجستاني، وقيل: إنه كان ابن فرعون صاحب موسى ◙، وهو غريب جداً، وقيل: ابن ملك وهو أخو إلياس، قاله السدي، وقيل: ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه.
          وعن ابن عباس ☻ فيما رواه الدارقطني أنه قال: الخضر ابن آدم ◙ لصلبه، ونُسِئَ له في أجله حتى يكذِّب الدجال، وهذا منقطع غريب.
          وقال الطبري: أنه الرابع من أولاده، وروى الكلبي عن ابن عباس ☺: أنه من سبط هارون ◙، وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم. /
          والخضر لقبه لقِّب به؛ لِما جاء في هذا «الصحيح» في كتاب «الأنبياء» [خ¦3400] ‰: أن النبي صلعم قال: ((إنما سمي الخَضِر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء)). والفروة: وجه الأرض، وقيل: النبات المجتمع اليابس، وقيل: سمي به؛ لأنه كان إذا صلَّى اخضر ما حوله، ذكره مجاهد، وقال الخطابي: (إنما سمي به؛ لحسنه وإشراق وجهه وكنيته أبو العباس).
          واختلف في أنه في أيِّ وقت كان، فقال الطبري: (كان في أيام أفريدون) قال: (وقيل: كان مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان أيام إبراهيم الخليل ◙، وذو القرنين عند قوم هو أفريدون، ويقال: كان وزير ذي القرنين وأنه شرب من ماء الحياة).
          وذكر الثعلبي اختلافاً أيضاً: هل كان في زمن إبراهيم ◙ أو بعده بقليل أم كثير؟ وذكر بعضهم: أنه كان في زمن سليمان ◙، وأنه المراد بقوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل:40] حكاه الداودي، وقيل غير ذلك.
          واختُلف أيضاً في أنه هل كان ولياً أو نبياً؟ وبالأول جزم القُشيري، واختُلف أيضاً هل كان نبياً مرسلاً أو غير مرسل؟ على قولين، وأغرب ما قيل فيه: إنه من الملائكة، قيل: والصحيح أنه نبي وجزم به جماعة.
          وقال الثعلبي: (هو نبي على جميع الأقوال، معمَّر محجوب عن الأبصار)، وصححه ابن الجوزي؛ لقوله تعالى حكاية عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، فإنه يدل على أنه نبي يوحى إليه، ولأنه كان أعلم من موسى في علم مخصوص، ويبعد أن يكون وليٌّ أعلم من نبي، وإن كان يحتمل أن يكون أوحي إلى نبي في ذلك العصر أن يأمر الخضر بذلك، ولأنه أقدم على قتل ذلك الغلام، وما ذلك إلا للوحي إليه فيه؛ لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفس بمجرد ما يُلقَى في خَلَدِه؛ لأن خاطره ليس بواجب العصمة، ولأنه قال تعالى: {آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف:65]، والمراد بالرحمة: الوحي والنبوة كذا قالوا، والله تعالى أعلم.
          واختلف أيضاً في حياته؛ فالجمهور على أنه باقٍ إلى يوم القيامة، قيل: لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة، وقيل: لأنه شرب من ماء الحياة، وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: (هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، والعامة معهم في ذلك، وإنما شذَّ بإنكاره بعض المحدثين (2))، وقال النووي: (الأكثر من العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح، / وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه في المواضع الشريفة أكثر من أن تحصى)، وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حتى يرتفع القرآن، وفي «صحيح مسلم» في حديث الدجال: ((أنه يقتل رجلاً ثم يحييه)). قال إبراهيم ابن سفيان راوي «كتاب مسلم»: يقال: إنه الخضر، وكذلك قال مَعْمَر في «مسنده».
          ثم إن ظاهر التبويب: أن موسى ◙ ركب البحر لمـَّا توجه في طلب الخضر مع أن الذي ثبت عند البخاري وغيره: أنه إنما ذهب في البر وركب البحر في السفينة هو والخضر بعد أن التقيا [خ¦4725]، فالجواب عنه بوجهين:
          أحدهما: أن المقصود في الذهاب إنما حصل بتمام القصة، ومن تمامها أنه ركب مع الخضر البحر فأطلق على جميعها (ذهاباً)؛ مجازاً من إطلاق اسم الكل على البعض، أو من قَبيل تسمية السبب باسم ما تسبَّب عنه.
          والآخر: أن قوله: ((في البحر)) في قوله: ((وكان يتتبع أثر الحوت في البحر)) يحتمل أن يكون لموسى، ويحتمل أن يكون للحوت، فلعله قَوِيَ عنده أن يكون لموسى بما روى عبد ابن حُميد عن أبي العالية: أن موسى ◙ التقى بالخضر في جزيرة من جزائر البحر. انتهى.
          ولا يخفى أن التوصل إلى جزيرة في البحر لا يقع إلا بسلوك البحر غالباً، وبما رواه أيضاً من طريق الربيع بن أنس قال: انجاب الماء عن مسلك الحوت، فصارت طاقة مفتوحة، فدخلها موسى ◙ على أثر الحوت حتى انتهى إلى الخضر، فهذان الأثران الموقوفان برجال ثقات يوضحان أنه ركب البحر متوجهاً إليه، وحمل ابن المنير كلمة إلى «على» معنى: مع، وقال الحافظ العسقلاني: (يحمل قوله: «إلى الخضر» على أن فيه حذفاً؛ أي: إلى مقصد الخضر؛ لأن موسى ◙ لم يركب البحر لحاجة نفسه، وإنما ركبه تبعاً للخضر). وتعقبه محمود العيني: بأنه لا يقع جواباً عن الإشكال المذكور، ولا يخفى أنه غير مسلم، وقال الحافظ أيضاً: (ويحتمل أن يكون التقدير ذهاب موسى في ساحل البحر).
          ووجه المناسبة بين البابين: أن المذكور في الباب السابق هو الاغتباط في العلم، وهذا الباب معقود؛ للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم، / وما يغتبط فيه يحتمل فيه المشقة، ولها وجه آخر: وهو أن المغتبط شأنه الاغتباط وإن بلغ المحل الأعلى من الفضائل، وهذا الباب مشتمل على أن موسى صلعم لم يمنعه بلوغه من السيادة المحل الأعلى من طلب العلم حتى قاسى تعب البر والبحر.
          (وَقَوْلِهِ)؛ بالجر عطفاً على ما أضيف إليه الباب (تَعَالَى) حكاية عن موسى ◙ ({هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى}) شرط ({أَنْ تُعَلِّمَنِي}) فالجار والمجرور في موضع الحال من الكاف (الآيةَ) بالنصب على تقدير اقرأ الآية، أو بالرفع على أنها مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: الآية بتمامها، أو بالجر على تقدير: إلى آخر الآية.
          وقد ذكر الأَصيلي في روايته باقي الآية وهو قوله تعالى: < {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] >؛ أي: علماً ذا رُشد وهو إصابة الخير، فقوله تعالى: {رُشْداً} مفعول {تُعَلِّمَنِي} ومفعول {عُلِّمْتَ} محذوف، ويجوز أن يكون علة لـ {أَتَّبِعُكَ} أو مصدراً بإضمار فعله.
          سأل موسى ◙ الخضر أن يعلمه من العلم الذي عنده مما لم يقف عليه موسى ◙. وكان له ذلك ابتلاء من الله تعالى حيث لم يكل العلم إلى الله تعالى، ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره نبياً كان أو لا ما لم يكن شرطاً في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقاً، وقد راعى في ذلك غاية الأدب والتواضع فاستجهل نفسه، واستأذن أن يكون تابعاً له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه، وفي هذه الترجمة إشارة إلى شرف العلم حتى جازت المخاطرة في طلبه بركوب البحر، وقد ركبه الأنبياء ‰ في طلبه، بخلاف ركوب البحر في طلب الدنيا فإنه يكره عند جماعة، وإلى اتباع العلماء؛ لأجل تحصيل العلوم التي لا توجد إلا عندهم.


[1] في هامش الأصل: يصهر: بفتح الياء والهاء وسكون الصاد بينهما، وقاهث: بالقاف وفتح الهاء وبالثاء المثلثة كذا ضبطه المولى السعدي في سورة القصص. منه.
[2] في هامش الأصل: منهم البخاري وإبراهيم الحربي وابن المبارك وابن الجوزي. منه.