نجاح القاري لصحيح البخاري

باب العلم قبل القول والعمل

          ░10▒ (بابٌ)؛ بالتنوين وعدمه وهو ساقط في رواية الأَصيلي، (الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ)؛ يعني: أن الشيء يُعلم أولاً ثم يُقال ويُعمل به، فالعلم مقدَّم عليهما بالذات وكذا بالشرف؛ لأنه عمل القلب وهو أشرف أعضاء البدن.
          قال ابن المـُنيِّر: (أراد أن العلم شرط في صحة القول والعمل فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل)، فنبه المؤلف ☼ على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: إن العلم لا ينفع إلا بالعمل، تهوينُ أمرِ العلم والتساهل في طلبه.
          وقال ابن بطال: (العمل لا يكون مقصوداً إلا بمعنى متقدم عليه، وهو علم ما وعد الله عليه من الثواب).
          (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى)؛ وفي رواية: <╡>، ({فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} فَبَدَأَ)؛ أي: الله تعالى، (بِالْعِلْمِ)؛ حيث قال أولاً: / {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] ثم قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] إشارة إلى القول والعمل، والمعنى: إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية، وتكميل النفس بإصلاح أحوالها وأفعالها وهضمها بالاستغفار لذنبك ولذنوب المؤمنين والمؤمنات بالدعاء لهم، والتحريض على ما يستدعي غفرانهم، أو الخطاب وإن كان للنبي صلعم لكنه يدخل الناس معه صلعم فيه كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] فافهم.
          وسئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فأمره بالعمل بعد العلم وينتزع من الآية دليل ما يقوله المتكلمون من وجوب المعرفة ولا نزاع فيه، وإنما النزاع في أنه هل يجب معرفة الأدلة أم لا؟، قال الأكثرون: يكفي الاعتقاد الجازم وإن لم تعرف الأدلة وهو المعروف من سيرة السلف، وقال طائفة: إن إيمان المقلد في أصول الدين غير صحيح، وقال محيي السنة: يجب على كل مكلف معرفة علم الأصول ولا يسع فيه التقليد لظهور دلائله.
          ووجه المناسبة بين البابين: أن المذكور في الباب الأول هو حال المبلغ والسامع، والمبلغ بكسر اللام والمبلَّغ بفتحها لا يقدران على التعليم والتعلم إلا بالعلم، والمذكور في هذا الباب أن العلم قبل القول والعمل.
          (وَأَنَّ) بفتح الهمزة عطفاً على ما قبله وبكسرها على سبيل الحكاية (الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ) جمع وارث (الأَنْبِيَاءِ) كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32].
          (وَرَّثُوا) بتشديد الراء المفتوحة ؛ أي: الأنبياء، ويروى _بتخفيفها مع الكسر_ أي: العلماء، ويجوز _ضم الواو وتشديد الراء المكسورة_ وحينئذ يرجع الضمير إلى العلماء أيضاً (الْعِلْمَ، مَنْ أَخَذَهُ) أي: العلم (أَخَذَ) من ميراث النبوة (بِحَظٍّ) أي: نصيب.
          (وَافِرٍ) كثير كامل (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً) نكَّر قوله: «طريقاً» ليتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم حال كونه (يَطْلُبُ بِهِ) أي: بذلك الطريق أو بذلك السلوك (عِلْماً) نكر قوله: «علماً» أيضاً ليتناول أنواع العلوم الدينية وليندرج فيه القليل والكثير (سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ) في الآخرة أو في الدنيا بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة.
          وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه؛ لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة بل / أقربها، ثم إن قوله: «وإنَّ العلماء هم ورثة الأنبياء» إلى هنا من حديث طويل أخرجه الترمذي عن محمود بن خداش، عن محمد بن يزيد الواسطي، عن عاصم بن رجاء بن حَيْوة، عن قيس بن كثير، عن أبي الدرداء ☺ أن رسول الله صلعم قال: ((من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)).
          والجملة الأخيرة أعني قوله: ((ومن سلك طريقاً...إلى آخره)) أخرجها مسلم أيضاً من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ☺ في حديث غير هذا أوله: ((من نفَّس عن مؤمن كربة...)) الحديث، وأخرجه الترمذي أيضاً وقال: حديث حسن قال: ولم نَقُل له: صحيح؛ لأنه يقال: إن الأعمش دلس فيه فقال: (حُدِّثت عن أبي صالح)، ولكن في رواية مسلم، عن أبي أسامة، عن الأعمش (حدثنا أبو صالح)، فانتفت تهمة تدليسه، وإنما لم يذكره المؤلف ☼ موصولاً؛ لأنه ليس على شرطه، ووجه مناسبته للترجمة ظاهر.
          (وَقَالَ)؛ هذا في المعنى عطف على قوله: «لقول الله تعالى»، أو حال بتقدير «قد»؛ أي: وقد قال الله (جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّه}) أي: يخاف ({مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]) أي: الذين علموا قدرته وسلطانه، فمن كان أعلم به كان أخشى منه، ولذلك قال ◙: ((أنا أخشاكم لله وأتقاكم له))، وقال أيضاً: ((أعلمكم بالله أشدكم له خشية))، وقال رجل للشعبي: أفتني أيها العالم، فقال: العالم من خشي الله، وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق ☺، وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت، وقُرئ برفع لفظة الجلالة ونصب العلماء وهي قراءة عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة ⌐، ووجهها: أنَّ الخشية مجاز عن الإجلال والتعظيم إذ هما من لوازم الخشية فيكون من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم.
          قال محمود العيني: (وفي أيام اشتغالي على الإمام العلامة شرف الدين عيسى حضر شخص من أهل العلم وقت الدرس وسأله عن هذه الآية فقال: خشية الله تعالى مقصورة / على العلماء بقضية الكلام، وقد ذكر الله تعالى في آية أخرى أن الجنة لمن يخشى وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8]، فيلزم من ذلك أن لا تكون الجنة إلا للعلماء خاصة، فسكت جميع من كان هناك من الفضلاء الأذكياء الذين كان يزعم كل منهم أنه المـُفِلق في العلمين التفسير والحديث، فأجاب الشيخ ☼ : إن المراد من العلماء الموحدون، وإن الجنة ليست إلا للموحدين الذين يخشون الله تعالى)، ومناسبة هذه الآية وما يتلوها للترجمة من حيث إن الباب في العلم وتقديمه والآية في مدح العلماء ولم يستحقوا هذا المدح إلا بالعلم.
          (وَقَالَ) تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} يعني هذا المثل المذكور فيما قبل الآية ونظائره {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} تقريباً لما بَعُدَ من أفهامهم، وقوله: {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} يجوز أنْ تكون خبر تلك، و{الْأَمْثَالُ} صفة له أو بدل أو عطف بيان، وأن تكون {الْأَمْثَالُ} خبراً و{نَضْرِبُهَا} حالاً أو خبراً ثانياً.
          ({وَمَا يَعْقِلُهَا}) أي: الأمثال المضروبة وحسنها وفائدتها ({إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]) الذين يعقلون عن الله فيتدبرون الأشياء على ما ينبغي. وروى جابر ☺ أن النبي صلعم لمـَّا تلا هذه الآية قال: ((العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه))، ومعناه: أن العالم الكامل من يعقِل ويعرِف ما صدر عن الله تعالى، وقال تعالى حكاية عن قول الكفار الذين ألقوا في جهنم فسألهم خزنتها ألم يأتكم نذير يخوفكم هذا العذاب؟! فقالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبناهم وأفرطنا في التكذيب حتى نفينا الإنزال والإرسال رأساً، وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال.
          ({وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ})؛ كلام الرسل سماع طالبين للحق فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش؛ اعتماداً على ما لاح من صدقهم بالمعجزات، ({أَوْ نَعْقِلُ})؛ عقل متأملين فنتفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين، ({مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10])؛ في عدادهم ومن جملتهم، وإنما جمع بين السمع والعقل؛ لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل. وقال الزَّجَّاج: (معناه: لو كنا نسمع سمع من يعي ويفهم أو نعقل عقل من يميز، ولا شك أن ذلك أوصاف أهل العلم، فالمعنى: لو كُنَّا من أهل العلم لعلمنا ما يجب علينا فعملنا به فنجونا وما كنا من أهل النار)، وروى أبو سعيد الخدري مرفوعاً: / ((إن لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر ما يعقل يعبد ربه))، ولقد ندم الفجار يوم القيامة فقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.
          وروى أنس ☺ مرفوعاً: ((إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم)).
          ومناسبة هذه الآية للترجمة من حيث إن المراد من العقل هاهنا العلم، فإن الكفار تَمنَّوا أن لو كان لهم العلم لما دخلوا النار.
          (وَقَالَ) تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ}؛ قائم بوظائف الطاعات، {آَنَاءَ اللَّيْلِ}؛ ساعاته و{أَمْ} متصلة بمحذوف تقديره: الكافر خير أم من هو قانت، أو منقطعة، والمعنى بل {أَمْ} من هو قانت كمن يلتبس بضد القنوت وهو يشمل الكافر والعاصي، ومن لا يجتهد في الطاعات اجتهاد القانت الموصوف، وفي قراءة {أَمَنْ} بتخفيف الميم بمعنى أمن هو قانت كمن جعل لله أنداداً {سَاجِداً وَقَائِماً} حالان من ضمير «قانت» والواو للجمع بين الصفتين {يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} في موقع الحال أو الاستئناف للتعليل، قل:
          ({هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]) نفي لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيه باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ؛ لمزيد فضل العلم، وفيه: إشارة إلى أن العلم يثمر العمل وكل علم يخلو عنه فهو كالعدم، وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم، ثم لا يقنتون ويفتنون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة حيث جعل القانتين هم العلماء، وقيل: تقرير للأول على سبيل التشبيه؛ أي: كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون، ومناسبة هذه الآية للترجمة أن فيها: مدح العلم وذم الجهل.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً) منفعة وكمالاً (يُفَقِّهْه) من باب التفعيل؛ أي: <يفهمه> كما في رواية المستملي، والفقه: الفهم قال تعالى: {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء:78] ؛ أي: يفهمون، والمراد: الفهم في الأحكام الشرعية، ويمكن أن يكون المعنى: يجعله فقيهاً عالماً بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، والأول: هو الأَوْلى؛ لرواية (يفهمه) وليتناول فهم كل علم من علوم الدين من التفسير والحديث والفقه، ويشهد لذلك قوله: (فِي الدِّيْنِ) كما لا يخفى، ثم إن المؤلف ☼ ذكره معلقاً، لكنه في حكم المتصل عنده؛ لما أورده بصيغة الجزم، وقد ذكره موصولاً وبوب عليه بعد بابين [خ¦71].
          (وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ)؛ بتشديد اللام، وفي نسخة: <بالتعليم> أي: ليس العلم المعتبر / إلا المأخوذ عن الأنبياء ╫ وورثتهم على سبيل التعلم والتعليم، فيفهم منه أن العلم المعتبر ليس إلا علم الشريعة، ولهذا لو أوصى رجل للعلماء لا يصرف إلا على أصحاب الحديث والتفسير والفقه، ثم إن هذا حديث مرفوع أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية ☺ بلفظ: ((يا أيها الناس تعلموا إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) إسناده حسن، والمبهم الذي فيه اعتضد بمجيئه من وجه آخر، وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود ☺ موقوفاً، ورواه أبو نعيم الأصفهاني مرفوعاً، وفي الباب عن أبي الدرداء مرفوعاً: ((إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه)) فلا عبرة بقول الكرماني: يحتمل أن يكون هذا من كلام البخاري.
          (وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ)؛ جُندب بن جُنادة _بضم الجيم فيهما_ الغفاري، وقد مر ذكره في باب «المعاصي من أمر الجاهلية» [خ¦30]، وهذا التعليق رواه الدارمي موصولاً في ((مسنده)) من طريق الأوزاعي: حدثني مرثد بن أبي مرثد عن أبيه قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه فأتاه رجل فوقف عليه، ثم قال: ألم تُنهَ عن الفتيا فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت علي؟!
          (لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ)؛ بالمهملتين، وكذا الصَّمْصَام: السيف الصارم الذي لا ينثني على ما قال الجوهري، أو الذي له حد واحد (عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ) وفي رواية: <إلى القفا> وهو مقصور، مؤخر العنق يذكر ويؤنث (ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ) بضم الهمزة وكسر الفاء؛ أي: أمضي (كَلِمَةً) نكر «كلمة» تشمل القليل والكثير.
          (سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ)؛ وفي رواية: <من رسول الله> ( صلعم ) أي: ظننت أني أقدر على إنفاذها وتبليغها (قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا) بضم التاء المثناة التحتية وكسر الجيم؛ أي: الصَّمْصَامة (عَلَيَّ) أي: على قفاي أراد به قبل أن تقطعوا رأسي (لأَنْفَذْتُهَا) أي: لأمضيت تلك الكلمة.
          وفي رواية أحمد بن منيع، عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن مرثد بن أبي مرثد، عن أبيه قال: (جلست إلى أبي ذر الغفاري إذ وقف عليه رجل فقال: ألم ينهكَ أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فقال أبو ذر: والله لو وضعتم الصَّمْصَامة على هذه وأشار إلى حلقه، على أن أترك كلمة سمعتها من رسول الله صلعم لأنفذتها قبل أن يكون ذلك).
          وحاصل المعنى: أنه يبلِّغ ما تحملَّه في كل حال، ولا ينثني عن ذلك ولو عرض عليه القتل أو وضع على قفاه السيف، حرصاً على تعليم العلم؛ طلباً لعظيم الثواب.
          قال الحافظ العسقلاني: ورويناه في «الحلية» وفيه أن الذي خاطبه رجل من قريش، وأن الذي نهاه عن الفتيا عثمان ☺، وكان سبب ذلك: أن أبا ذر كان بالشام / فاختلف مع معاوية في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34] فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب خاصة، وقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا، فكتب معاوية إلى عثمان ☺ فأرسل إلى أبي ذر فحصلت منازعةٌ أدت إلى انتقال أبي ذر عن المدينة فسكن الرَبَذة _بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة_ إلى أن مات، وفيه دليل على أن أبا ذر ☺ كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا؛ لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه؛ لأمر النبي صلعم بالتبليغ عنه كما تقدم.
          ولعله أيضاً سمع الوعيد في حق من كتم علماً يعلمه، وفيه: أنه يجوز للعالم أن يأخذ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالشدة، ويتحمل المشقة والأذى؛ طلباً لثواب الله تعالى، ويباح له أن يسكت إذا خاف الأذى كما قال أبو هريرة ☺: (لو حدثتكم بكل ما سمعت من رسول الله صلعم لقطع هذا البلعوم)، وعنه: (لو حدثتكم بكل ما في جوفي لرميتموني بالبعر)، قال الحسن: (صدق)، وكأنه أراد _والله أعلم_ ما يتعلق بالفتن مما لا يتعلق بذكره مصلحة شرعيَّة.
          فائدة نحوْية: كلمة «لو» في قوله: ((لو وضعتم)) إنما هي لمجرد الشرط من غير أن يلاحظ كونها لامتناع الثاني لامتناع الأول، أو هي مثل قوله ◙: ((نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه)) في كون الحُكْمِ ثابتاً على تقدير النقيض بالطريق الأولى، فالمراد أن الإنفاذ حاصل على تقدير الوضع، وعلى تقدير عدمه حصوله أولى، هذا وفي نسخة هنا زيادة وهي قوله: <وقول النبي صلعم : ليبلغ الشاهد الغائب> وقد تقدم قريباً [خ¦67].
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ)؛ ☻ ، ({كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79])؛ الرباني نسبة إلى الرب وأصله رَبِّي فزيدت فيه الألف والنون؛ للتأكيد والمبالغة في النسبة واختلف في المراد به، فقال أبو المعالي: (الرباني المتأله العارف بالله)، وعن ابن الأعرابي: لا يقال للعالم رباني حتى يكون عالماً معلماً عاملاً ويقال: هو العالي الدرجة في العلم.
          وقال الإسماعيلي: (كأنه الذي يَقْصِد ما أمره الرب)، وعن مجاهد: الربانيون الفقهاء وهم فوق الأحبار، وقال ثعلب: (قيل للعلماء ربانيون؛ لأنهم يربون العلم؛ أي: يقومون به)، وقيل: هم الذين يصحبون الأنبياء ‰ ويصبرون معهم، وقد فسره / ابن عباس ☻ بقوله:
          (حُلمَاء)؛ باللام جمع: حليم، والحلم هو الطمأنينة عند الغضب، وفي رواية: <حكماء> بالكاف جمع: حكيم، والحكمة: صحة القول والفعل، ويقال: الحكمة: الفقه في الدين، وقيل: الحكمة: معرفة الأشياء على ما هي عليه.
          (فُقَهَاءَ) جمع: فقيه والفقه: الفهم لغة، والعلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية اصطلاحاً، وفي رواية: <علماء>، وقال المؤلف ☼ حكاية عن بعضهم:
          (وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي) من التربية (النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ) أي: بجزئياته قبل كلياته، أو بفروعه قبل أصوله، أو بمقدماته قبل مقاصده، أو ما وضح من مسائله قبل ما دق منها، ثم إن هذا التعليق وصله ابن أبي عاصم بإسناد حسن، والخطيب بإسناد آخر حسن أيضاً، واقتصر المؤلف في هذا الباب على ما أورده من غير أن يورد فيه حديثاً موصولاً على شرطه، فإما أن يكون بَيَّض له؛ ليورد فيه ما يثبت على شرطه ولم يتفق له ذلك، أو يكون تعمَّد ذلك؛ اكتفاء بما ذكره تعليقاً؛ لأن المقصود من الباب بيان فضيلة العلم، ويعلم ذلك مما ذكر من الآيات والأحاديث، والله أعلم.