نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الاغتباط في العلم والحكمة

          ░15▒ (بابُ الاِغْتِبَاطِ)؛ هو بالغين المعجمة افتعال من غبطه يغبطه من باب ضرب أو سمع غبطاً وغِبْطة، وهي أن يتمنى المرء مثل ما للمغبوط من غير أن يريد زواله عنه بخلاف الحسد، إذ فيه تمني الزوال عنه، وبناء باب الافتعال منها يدل على التصرف والسعي فيها، (فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ) هي معرفة الأشياء على ما هي عليه، قيل: فهي مرادفة للعلم، فيكون من باب العطف التفسيري، وقد يفسر العلم بالمعنى الأعم الشامل للظن أيضاً، والحكمة بما يتناول سداد العمل أيضاً، فافهم.
          ووجه المناسبة بين البابين: أن المذكور في الباب السابق هو الفهم في العلم، وفي هذا الباب الاغتباط في العلم، وكلما زاد فهم الرجل في العلم زادت غبطته فيه؛ لأن من زاد فهمه وقوي يزداد نظره فيمن هو أقوى فهماً منه، ويتمنى أن يكون مثله.
          (وَقَالَ عُمَرُ) بن الخطاب ☺ فيما رواه ابن أبي شيبة وغيره بسند صحيح من طريق محمد بن سيرين عن الأحنف بن قيس قال: قال عمر ☺: (تَفَقَّهُوا) وفي بعض النسخ: <تفهَّموا> وكلاهما بمعنى، لكن المشهور من الرواية «تفقهوا»؛ أي: تكلفوا في تحصيل علم الفقه، وهو حث على تحصيل الفقه، وعن ابن مسعود ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((أفضل الناس أفضلهم عملاً إذا فقهوا في دينهم))، وعن علي ☺ قال: قال رسول الله صلعم : / ((ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه؟)) قالوا: بلى، قال: ((من لم يقنِّطِ الناس من رحمة الله، ولم يؤيِّسهم من رَوْح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه، ألا لا خير في عبادة ليس فيها فقه، ولا علم ليس فيه تفهم، ولا قراءة ليس فيها تدبر)).
          قال أبو عمر: لم يأت هذا الحديث مرفوعاً إلا من هذا الوجه وأكثرهم يوقفونه على علي ☺، وعن شداد بن أوس يرفعه: ((لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ولا يفقه العبد كل الفقه حتى يرى القرآن وجوهاً كثيرة)).
          وقال أبو عمر: لا يصح مرفوعاً، وإنما الصحيح أنه من قول أبي الدرداء، وقال قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم الفقه بأنفه، وقال ابن أبي عَروبة: لا نعده عالماً، وكذا قاله عثمان بن عطاء عن أبيه، وقال الحارث بن يعقوب: الفقيه: من فقه في القرآن وعرف مكيدة الشيطان.
          (قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا) بضم المثناة الفوقية وفتح المهملة وتشديد الواو؛ أي: قبل أن تصيروا سادة، يقال: ساد يسود سوداً وسؤدَداً وسيادة وسيدودة، واستادهم كسادهم وسوَّده هو، والسؤدد وقد يهمز: الشرف والسيد: الرئيس، والمسوَّد هو الذي جعل سيداً، وقال الفراء: (يقال: هذا سيد قومه اليوم، فإذا أخبرت أنه يكون عن قليل سيدهم، قلت: هو سائد قومه عن قليل، وإنما سمي الرئيس سيداً؛ لأن الناس يلتجئون إلى سواده؛ أي: شخصه).
          وقيل: السيد: الزوج، قال الله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] أي: زوجها، وقال عكرمة: السيد: الذي لا يغلب غضبه، وقال قتادة: السيد: العابد، وقال الأصمعي: العرب تقول: السيد: كل مقهور مغمور بحلمه، وقال الفراء: السيد: المالك، وفلان أسود من فلان أعلى سؤدداً منه، وساودت الرجل من سواد اللون ومن السؤدد جميعاً غالبته.
          والمعنى: تعلموا العلم ما دمتم صغاراً قبل السيادة والرئاسة، وقبل أن ينظر إليكم، فإن لم تتعلموا قبل ذلك استحييتم أن تتعلموا بعد الكبر فبقيتم جهَّالاً، وذلك لأن من سوَّده الناس يستحيي أن يقعد مقعد المتعلمين؛ خوفاً على رئاسته عند العامة، ولهذا قال مالك ☼ : مِن عَيب القضاء أن القاضي إذا عزل عن القضاء لا يرجع إلى مجلسه الذي كان يتعلم فيه، وقال يحيى بن معين: من عاجل الرئاسة فاته علم كثير؛ لأنه يأنف عن الأخذ عمن دونه.
          وقيل: معناه: تعلموا العلم قبل أن تزوَّجوا فتصيروا أرباب بيوت، قيل: ولا سيما إن وُلد له، وذلك لأن من تزوج صار سيد أهله فيشغله مؤنة أهله عن التعلم غالباً، وبه جزم البيهقي، لكن السيادة أعم؛ لأنها تكون بالتزويج وبغيره من الأشياء الشاغلة لأصحابها عن الاشتغال بالعلم، وقيل: إن الرئاسة تحصل بالعلم، وكلما ازداد العلم زادت السيادة، فقصد عمر ☺ بذلك الكلام الحث على الزيادة منه قبل السيادة؛ لتعظم السيادة به، أقول: هذا كان في الزمان الأول، وقيل: أراد عمر ☺ بذلك الكف عن طلب الرئاسة؛ لأن الذي يتفقه يعرف ما بها من الغوائل فيجتنبها، وهو حمل بعيد، وجوز أن يكون من السواد في اللحية فيكون / أمراً للشباب بالتفقه قبل أن تَسَودَّ لحيتهم، أو أمراً للكُهول به قبل أن يُسوِّدوا لحيتهم بالخضاب، ولا يخفى تكلفه، وقيل: معناه: لا تأخذوا العلم من الأصاغر فيزري بكم ذلك، وهذا شبه بحديث عبد الله: ((لن يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم))، وليس قول عمر ☺ من تمام الترجمة، إذ لم يذكر بعده شيء يتعلق به إلا أن يقال: الاغتباط في الحكمة على القضاء لا يكون إلا قبل كون الغابط قاضياً، ويؤول حينئذ قوله: ((وقال عمر)) بالمصدر؛ أي: باب الاغتباطِ وقولِ عمر ☺ كذا قال الكرماني.
          وقال ابن المـُنيِّر: مطابقة قول عمر ☺ للترجمة: أنه جعل السيادة من ثمرات العلم وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة، وذلك تحقيق استحقاق العلم بأن يغبط صاحبه، فإنه سبب لسيادته.
          وقال الحافظ العسقلاني: والذي يظهر لي: أن مراد المؤلف ☼ : أن الرئاسة وإن كانت مما يغبط صاحبها، لكن الحديث دل على أن الغبطة لا تكون إلا بأحد أمرين: العلم أو الجود، ولا يكون الجود محموداً إلا إذا كان بعلم، فكأنه ☺ قال: تعلموا العلم قبل حصول الرئاسة؛ لتغبطوا إذا غبطتم بحق، وإن تعجلتم الرئاسة التي من عادتها أن تمنع صاحبها من طلب العلم، فاتركوا تلك العادة وتعلموا العلم؛ لتحصل لكم الغِبطة الحقيقية، وهذا معنى قول البخاري ⌂.
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ)؛ يريد نفسه، (وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا)؛ عطفه المؤلف ☼ على قول عمر ☺ قبل أن تُسوَّدوا؛ لئلا يُفهم منه أن السيادة مانعة من التفقه، وذلك لأنه لا يجوز ترك التفقه بعد السيادة إذا فات قبلها، وأكَّد ذلك بقوله: (وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلعم فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ)؛ لأن أكثر الناس الذين آمنوا بالنبي صلعم كانوا كباراً ما تفقهوا إلا في كِبَرِ سنهم، ومن هذا أخذ بعضهم فقال: ولابد من مقدر يتعلق به قوله: «وبعد أن تُسوَّدوا»، والمناسب أن يقدر قولنا: تفهموا قبل أن تُسوَّدوا وبعد أن تُسوَّدوا (1) ؛ أي: تعلموا قبل أن تسودَّ لحيتكم؛ أي: في كبركم وبعده؛ أي: في زمان شيبكم، ولا يذهب عليك أنه تعسُّفٌ خارج عن مقصود المؤلف ⌂. /


[1] ((قوله: والمناسب أن يقدر قولنا تفهموا قبل أن تسودوا وبعد أن تسودوا)): ليس في (خ).