نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما جاء في العلم وقوله تعالى {وقل رب زدني علمًا}

          ░6▒ (بابٌ الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ) متعلق بالقراءة والعرض على سبيل التنازع، وقيل: بـ«القراءة»، ثم المفهوم من كلام الكرماني أن بين القراءة والعرض مساواة؛ لأن المراد بالعرض على ما قاله هو عرض القراءة بقرينة ما يذكر بعد الترجمة، فعطفه على القراءة من قبيل العطف التفسيري، والمفهوم من كلام العسقلاني أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً؛ لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض ومن غيره، ولا يقع العرض إلا بالقراءة؛ لأن العرض عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه معه أو مع غيره بحضرته فهو أخص من القراءة.
          وتعقبه محمود العيني بما لا طائل تحته، ثم قال: والتحقيق أن العرض بالمعنى الأخص مساوٍ للقراءة، وبالمعنى الأعم أعم منها مطلقاً، وإنما قلنا ذلك؛ لأن العرض له معنيان: لأنه إما أن يكون بقراءة أو لا، والأول: يسمى عرض قراءة، والثاني: عرض مناولة، وهو أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب فيعرضه عليه فيتأمله الشيخ وهو عارف متيقظ، ثم يعيده إليه ويقول له: وقفت على ما فيه وهو حديثي عن فلان فأجزت لك روايته عني ونحوه، وأقول: بل الحق أن القراءة بالمعنى الأعم، والعرض بالمعنى الأعم بينهما عموم وخصوص من وجه على ما لا يخفى وجهه، لكن الظاهر أن المراد بهما هاهنا معنيان متساويان، فإن العرض إذا أطلق يراد به عرض / القراءة، وأما العرض بالمعنى الثاني فإنما يطلق بالتقييد لا الإطلاق، ثم عرض القراءة أعم من أن يقرأ عليه الطالب بنفسه من حفظه، أو كتاب، أو يسمعه عليه بقراءة غيره من كتاب أو حفظ.
          ووجه المناسبة بين البابين: أن المذكور في الباب الأول هو قراءة الشيخ، والمذكور في هذا الباب هو القراءة على الشيخ والسماع، ولما كان قراءة الشيخ أقوى من القراءة على الشيخ، والأقوى يستحق التقديم قدم الباب الأول على هذا الباب، وأما وجه تقديم باب «طرح المسألة» على هذا الباب فقد عرف من بيان وجه المناسبة بينه وبين الباب الأول فتأمل.
          والمقصود من وضع هذا الباب هو الرد على طائفة لا يعتدُّون إلا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ دون ما يُقرأ عليهم، ولذا أورد فيه قول الحسن: «لا بأس بالقراءة على العالم»، وأسنده إليه بعد أن علَّقه، وكذا ذكر عن سفيان الثوري ومالك موصولاً أنهما سوَّيا بين السماع من العالم والقراءة عليه.
          (وَرَأَى الْحَسَنُ)؛ أي: البصري، (وسفيان) الثوري (وَمَالِكٌ) أي: ابن أنس إمام دار الهجرة (الْقِرَاءَةَ) بالنصب على أنها مفعول «رأى» الأول، (جَائِزَةً)؛ بالنصب أيضاً على أنها مفعول ثان له؛ أي: رأوا القراءة على المحدث جائزةً في صحة النقل عنه خلافاً لأبي عاصم النبيل وعبد الرحمن بن سلام الجُمحي ووكيع، والمعتمد هو الأول، بل قال القاضي عياض بعدم الخلاف في صحة الرواية بها، وقد كان الإمام مالك ☼ ينكر أشد الإنكار على المخالف ويقول: كيف لا يجزئك هذا في الحديث، ويجزئك في القرآن والقرآن أعظم؟، وقال بعض أصحابه: صحبته سبع عشرة سنة فما رأيته قرأ ((الموطأ)) على أحد، بل يقرؤون عليه، وفي رواية: <قال أبو عبد الله> أي: المؤلف <سمعت أبا عاصم> يذكر<عن سفيان الثوري ومالك> الإمام <أنهما كانا يريان القراءة والسماع جائزاً> وفي رواية: <جائزة> لأن السماع لا نزاع فيه، وفي رواية <حدثنا عبيد الله بن موسى عن سفيان قال: إذا قَرأ على المحدث فلا بأس أن يقول حدثني> بالإفراد <وسمعت>.
          (وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ)؛ هو الحُميدي شيخ المؤلف أو أبو سعيد الحداد كما في ((المعرفة)) للبيهقي من طريق ابن خزيمة قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: قال أبو سعيد الحداد: عندي خبر عن النبي صلعم في القراءة على العالم فقيل له، فقال قصة ضِمام بن ثعلبة / قال: «آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم».
          (فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ) أي: في صحة النقل عنه (بِحَدِيثِ ضِمَامِ) بكسر الضاد المعجمة (بْنِ ثَعْلَبَةَ) بالمثلثة وسيأتي تفصيله [خ¦63] (قَالَ) أي: إنه قال كما في رواية (لِلنَّبِيِّ صلعم : آللَّهُ) بهمزة الاستفهام مرفوع مبتدأ خبره قوله:
          (أَمَرَكَ أَنْ) أي: بأن (تُصَلِّيَ) بالمثناة الفوقية، وفي رواية: بنون الجمع (الصَّلَوَاتِ؟) أي: الخمس المفروضة، وفي رواية: <الصلاة> بالإفراد على إرادة الجنس (قَالَ) صلعم : (نَعَمْ) الله أَمَرَ بأن نصلي (قَالَ) ذلك البعض المحتج المذكور (فَهَذِهِ) أي: هذه الرواية (قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صلعم ) وفي رواية: <قراءة النبي صلعم > بدون كلمة «على»، فإن صحت تكون الإضافة للمفعول بتقدير «على»، وفي رواية: <على العالم> بدل <على النبي صلعم >.
          (أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ) الخبر (فَأَجَازُوهُ) أي: قبلوه من ضمام، وليس المراد الإجازة المصطلحة بين أهل الحديث، والضمير راجع إلى «القوم»، وجوز الكرماني رجوع الضمير إلى النبي صلعم وصحابته، وهو بعيد لفظاً ومعنى، والجملة مستأنفة لتعيين مقام الاستدلال لا يقال إجازة قومه لا حجة فيها؛ لأنهم كفرة؛ لأن المراد الإجازة بعد إسلامهم أو كان فيهم مسلمون يومئذ، وليس في المتن الذي ساقه المؤلف بعد من حديث أنس ☺ في قصة ضمام أنه أخبر قومه بذلك فأجازوه.
          لكنْ رُوِي ذلك عند أحمد وغيره من طريق ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن الوليد ابن نويفع، عن كُريب، عن ابن عباس ☻ قال: بعث بنو سعدِ بنِ بكر ضمامَ بن ثعلبة فذكر الحديث بطوله، وفي آخره: ((أن ضماماً قال لقومه عندما رجع إليهم: إن الله قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه)) قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره (1) رجل ولا امرأة إلا مسلماً، وقال ابن عباس ☻ : (ما سمعنا بوافد قط أفضل من ضمام بن ثعلبة).
          (وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ)؛ الصك الكتاب وهو فارسي معرب، والجمع: صكاك وصكوك، كذا قال الجوهري، وليلة الصك: ليلة البراءة؛ لأنه يكتب فيها صكوك، والمراد هنا المكتوب الذي يكتب فيه / إقرار المقر.
          (يُقْرَأُ)؛ بصيغة المجهول، (عَلَى الْقَوْمِ، فَيَقُولُونَ: أَشْهَدَنَا فُلاَنٌ، وَيُقْرَأُ)؛ بالواو الحالية وعلى صيغة المجهول أيضاً (ذَلِكَ عَلَيْهِمْ قِرَاءَةً) وفي رواية: <وإنما ذلك قراءة عليهم> يعني: فتسوغ الشهادة لهم عليه بقوله: نعم بعد قراءة المكتوب مع عدم تلفظه بما هو مكتوب، قال ابن بطال: (وهذه حجة قاطعة؛ لأن الإشهاد أقوى حالات الإخبار).
          (وَيُقْرَأُ) بصيغة المجهول أيضاً (عَلَى الْمُقْرِئِ) أي: المعلم للقرآن (فَيَقُولُ الْقَارِئُ) أي: عليه (أَقْرَأَنِي فُلاَنٌ) روى الخطيب البغدادي في ((كفايته)) من طريق ابن وهب قال: سمعت مالكاً وسُئِل عن الكتب التي تُعرض عليه أيقول الرجل حدثني؟ قال: نعم كذلك القرآن أليس الرجل يقرأ على الرجل فيقول: أقرأني فلان، فكذلك إذا قرأ على العالم صح أن يروى عنه، وقد مر آنفاً ما يتعلق به.
          تنبيه: كما يجوز أن يقول القارئ: أقرأني فلان كذلك يجوز أن يقول من يسمع قراءة غيره على شيخ: أقرأني فلان، نبه عليه الكرماني، ولما أراد المؤلف ☼ ذكر إسناده فيما ذكره عن الحسن أولاً معلقاً قال:
          (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ) بتخفيف اللام على الأصح البيكندي، وقد مر في باب قول النبي صلعم : ((أنا أعلمكم بالله))، [خ¦20] (قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ) بن عمران (الْوَاسِطِيُّ) قاضيه المزني، أخرج له المؤلف هذا الأثر خاصة هنا، وثقه ابن معين، وقال أبو زرعة وأبو حاتم وأحمد: ليس به بأس، توفي سنة تسع وثمانين ومئة.
          يَروي: (عَنْ عَوْفٍ)؛ بفتح المهملة، هو ابن أبي جميلة المعروف بالأعرابيِّ، وقد مر في «اتباع الجنائز من الإيمان» [خ¦47] (عَنِ الْحَسَنِ) أي: البصري (قَالَ: لاَ بَأْسَ) أي: في صحة النقل عن المحدث (بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ) أي: الشيخ، وروى الخطيب هذا الأثر أتم سياقاً مما هنا من طريق أحمد بن حنبل، عن محمد بن الحسن الواسطي عن عوف الأعرابي: أن رجلاً سأل الحسن فقال: يا أبا سعيد منزلي بعيد والاختلاف يشق علي، فإن لم تكن ترى بالقراءة بأساً قرأت عليك قال: ما أبالي قرأتُ عليكَ أو قرأتَ عليَّ قال: فأقول حدثني الحسن؟ قال: نعم قل: حدثني الحسن.
          وروى أبو الفضل السليماني في كتاب ((الحث على طلب الحديث)) من طريق سهل ابن المتوكل قال: حدثنا محمد بن سلام بلفظ: قلنا للحسن: هذه الكتب التي تقرأ عليك إيش نقول فيها؟ قال: قولوا حدثنا الحسن، ولما أراد ذكر إسناده / فيما ذكره عن سفيان الثوري ومالك أولاً معلقاً قال:
          (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) بصيغة التصغير (بْنُ مُوسَى) بن باذام العبسي بالمهملتين والموحدة التحتية، وقد مر في أول حديث من كتاب الإيمان [خ¦8] (عَنْ سُفْيَانَ) الثوري أنه (قَالَ: إِذَا قُرِئَ) بضم القاف وكسر الراء، وفي رواية: <إذا قرأت>، وفي أخرى: <إذا قرأ>.
          (عَلَى الْمُحَدِّثِ فَلاَ بَأْسَ) على القارئ (أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي) كما جاز أن يقول (أخبرني)، وفيه إشعار بأن لا تفاوت عنده بين حدثني وأخبرني، وبين أن يقرأ على الشيخ أو يقرأ الشيخ عليه.
          (قَالَ) أي: المؤلف ☼ (وَسَمِعْتُ) وفي رواية: <قال أبو عبد الله سمعت> بغير واو، وليس فيه إشعار بأنه حدث له؛ لجواز أنه حدث قاصداً لسماع غير البخاري فسمع البخاري منه، ولهذا قيل: سمعت أحطُّ مرتبةً من حدثني وأخبرني.
          (أَبَا عَاصِمٍ)؛ هو الضحاك بن مَخلد _بفتح الميم_ الشيباني نسبة إلى أحد أجداده البصري المشهور بالنَّبِيل _بفتح النون وكسر الموحدة_ لقب به؛ لأنه قَدِمَ الفيلُ البصرة فذهب الناس ينظرون إليه فقال له ابن جريج: ما لك لا تنظر؟ فقال: لا أجد منك عوضاً فقال: أنت نبيل. وقيل: لُقِّب به؛ لكبر أنفه، أو لأنه كان يلازم زفر ☼ ، وكان حسن الحال في كسوته، وكان أبو عاصم آخر رثُّ الحالِ ملازماً له أيضاً فجاء النبيل يوماً إلى بابه فقال الخادم لزفر: أبو عاصم بالباب فقال له: أيهما؟ فقال: ذلك النبيل، وقيل: لقَّبه المهدي، مات بالبصرة في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومائتين عن تسعين سنة وستة أشهر، روى عنه: البخاري بواسطة وبغير واسطة وقال: سمعت أبا عاصم يقول: مذ عقلت أن الغيبة حرام ما اغتبت أحداً قط.
          (يَقُولُ عَنْ مَالِكٍ)؛ إمام دار الهجرة، (وَ) عن (سُفْيَانَ) الثوري (الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ)؛ في صحة النقل، وجواز الرواية.
          اعلم أنه قد اختلف العلماء في مساواتها للسماع من لفظ الشيخ في الرتبة أو دونه أو فوقه على ثلاثة أقوال:
          الأول: أنه أرجح من قراءة الشيخ وسماعه، قاله أبو حنيفة وابن أبي ذئب ومالك في رواية عنه وآخرون، واستحب مالك القراءة على العالم، وذكر الدارقطني في كتاب ((الرواة عن مالك)) أنه كان يذهب إلى أنها أثبت من قراءة العالم، واستدلوا بأن الشيخ لو سها لم يتهيأ للطالب الرد عليه، / وعن ابن عبيد قال: القراءة علي أثبت وأفهم لي من أن أتولى القراءة أنا.
          الثاني: أن قراءة الشيخ بنفسه أرجح من القراءة عليه ما لم يعرض عارض يصير القراءة عليه أولى، ومن ثمة كان السماع من لفظه في الإملاء أرفع الدرجات؛ لما يلزم منه من تحرز الشيخ والطالب، وهذا ما عليه الجمهور، وقيل: إنه مذهب جمهور أهل المشرق.
          الثالث: أنهما سواء وهو قول أبي الزناد وجماعة حكاه عنهم ابن سعد، وقيل: إنه مذهب معظم علماء الحجاز والكوفة، ومذهب مالك وأتباعه من علماء المدينة، ومذهب البخاري وغيرهم، ولما ذكر احتجاج بعضهم في القراءة على العالم بحديث ضِمام بن ثعلبة أخرجه هاهنا بتمامه فقال:


[1] في هامش الأصل: وفي رواية: ((وفي حاضريه)) أي في حاضري ذلك اليوم. منه.