نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا

          ░4▒ (بابُ: قَوْلِ الْمُحَدِّثِ)؛ الذي يحدث غيره لا الذي يشتغل بالحديث النبوي صلى الله على قائله وسلم (حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا)؛ هل بينها فرق أو الكل بمعنى واحد وفي رواية: سقط «أنبأنا»، وفي أخرى: «أخبرنا».
          ووجه المناسبة بين هذا الباب والباب السابق: أنَّ المذكور في الباب السَّابق رفع العالم صوته بالعلم؛ ليتعلم الحاضرون ذلك ويعلمونه غيرهم بالرواية عنه، فعند الرواية عنه لابد من ذكر لفظة من الألفاظ المذكورة فيحتاج إلى معرفتها لغة واصطلاحاً، وهل فرَّق بينها أو لا، ومن هذا ظهر وجه ذكره في كتاب «العلم»، هذا وفيه تنبيه على أن المؤلف بنى كتابه على المسندات المروية عن النبي صلعم .
          (وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ)؛ بضم المهملة وفتح الميم، أحد مشايخ البخاري وقد مر ذكره [خ¦1]، وفي رواية: <وقال لنا الحميدي>، وقوله: ((قال الحميدي)) لا يدل جزماً على أنه سمعه منه، فيحتمل الواسطة وهو أحط مرتبة من «حدثنا» ونحوه سواء كان بزيادة «لنا» أو لا؛ لأنه يقال على سبيل المذاكرة بخلاف حدثنا ونحوه فإنه يقال على سبيل النقل والتحميل، وقال جعفر بن أحمد النيسابوري: (إن كلَّ ما في البخاري من: «قال لي فلان» فهو عرض ومناولة).
          (كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ)؛ وهو سفيان؛ (حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِداً) لا فرق بين هذه الألفاظ الأربعة فهو تنبيه من المؤلف على أنه اختار هذا القول حيث ذكره عن شيخه من غير ذكر ما يخالفه، وهو مروي أيضاً عن مالك، والحسن البصري، والزهري، ويحيى القطان، ومعظم الكوفيين والحجازيين.
          وقال القاضي عياض: (لا خلاف أنه يجوز في السماع من لفظ الشيخ أن يقول السامع فيه: «حدثنا وأنبأنا وأخبرنا»، وسمعته يقول: وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان)، وإليه مال الطحاوي وصحح هذا المذهب ابن الحاجب، ونقل هو وغيره عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة، وقال آخرون بالمنع في القراءة على الشيخ إلا مقيداً مثل: حدثنا فلان قراءة عليه، وأخبرنا قراءة عليه، وهو مذهب عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل ويحيى بن يحيى التميمي والمشهور عن النسائي، وصححه الآمدي والغزالي وهو مذهب المتكلمين، وقيل بالمنع في «حدثنا»، وبالجواز في «أخبرنا» وهو مذهب الشافعي وأصحابه، ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق ونقل عن أكثر المحدثين منهم ابن جريج والأوزاعي والنسائي وابن وهب.
          وقيل: إن عبد الله بن وهب أول من أحدث هذا الفرق بمصر، / ثم أحدث المتأخرون تفصيلاً آخر وهو أنه [مَن] سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال: «حدثني» أو «سمعت»، ومتى سمع مع غيره جمع فقال: «حدثنا»، ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد فقال: «أخبرني»، ومن سمع بقراءة غيره جمع فقال: «أخبرنا»، وكذا خصصوا الأنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يخبره، وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل؛ اصطلاحاً منهم، وإنما خصوا قراءة الشيخ بـ«حدثنا»؛ لقوة إشعاره بالنطق والمشافهة، وينبغي ملاحظة هذا الاصطلاح عند المتأخرين؛ لئلا يختلط المسموع بالمجاز فيؤمن من التدليس، والله أعلم.
          واختلف في المعنعن فقال بعضهم: هو مرسل، والصحيح الذي عليه الجماهير أنه متصل إذا أمكن لقاء الراوي المرويّ عنه، وقال النووي: (ادعى مسلم إجماع العلماء على أن المعنعن: وهو الذي فيه فلان عن فلان محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضاً؛ يعني: مع براءتهم من التدليس، ونقل؛ أي: مسلم عن بعض أهل عصره أنه قال: لا يحمل على الاتصال حتى يثبت أنهما التقيا في عمرهما مرة فأكثر، ولا يكفي إمكان تلاقيهما) وقال: (هذا قول ساقط، واحتج عليه بأن المعنعن محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال، وكذا إذا أمكن التلاقي).
          قال النووي: والذي رده هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن من البخاري وغيره فهو من جملة مرجحات ((صحيح البخاري)) على ((صحيح مسلم))، وقد زاد جماعة عليه فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه إدراكاً بيناً، وأبو المظفر السمعاني طول الصحبة بينهما، ودليل المذهب المختار الذي عليه البخاري وموافقوه: أن المعنعن عند ثبوت التلاقي إنما حمل على الاتصال؛ لأن الظاهر ممن هو ليس بمدلس أنه لا يطلق ذلك إلا على السماع، ثم الاستقراء يدل عليه؛ فإن عادتهم أنهم لا يطلقون ذلك إلا فيما سمعوه إلا المدلس، فإذا ثبت التلاقي غلب على الظن الاتصال، والباب مبني على غلبة الظن فاكتفى به، وليس في هذا المعنى موجوداً فيما إذا أمكن التلاقي ولم يثبت فإنه لا يغلب على الظن الاتصال، ثم إن المؤلف ☼ أورد ثلاث تعاليق يؤيد بها مذهبه من عدم الفرق بين الصيغ فقال:
          (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ)؛ عبد الله ☺، (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلعم وَهُوَ الصَّادِقُ)؛ في نفس الأمر، (الْمَصْدُوقُ)؛ بالنسبة إلى الله تعالى، أو إلى الناس؛ أي: المصدق أو بالنسبة إلى ما قاله غيره؛ أي: جبريل له، وهذا طرف من حديث وصله المؤلف في «القدر» [خ¦6594].
          (وَقَالَ شَقِيقٌ) أبو وائل وقد سبق ذِكره في «باب خوف المؤمن أن يحبط عمله» [خ¦48] (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أي: ابن مسعود ☺ فإنه إذا أطلق كان هو المراد (سَمِعْتُ النَّبِيَّ) وفي رواية: <من النبي> ( صلعم كَلِمَةً) وقد وصله المؤلف في «الجنائز» [خ¦1238].
          (وَقَالَ حُذَيْفَةُ) بن اليمان ☺، واسم اليمان: حِسْلٌ _بكسر الحاء وسكون السين المهملتين_ ويقال: حُسَيْل بالتصغير واليمان لقبه وهو عيسى حليف بني عبد الأشهل من الأنصار، أسلم هو وأبوه وشهدا أُحداً وقتل أبوه يومئذ، قتله المسلمون خطأ فوهب لهم دمه، وأسلمت أم حذيفة وهاجرت وأرادا أن يشهدا بدراً فاستحلفهما المشركون أن لا يشهدا مع النبي صلعم فحلفا لهم، ثم سألا النبي صلعم فقال النبي صلعم : ((نفي لهم بعهدهم ونستعين بالله عليهم))، وكان صاحب سر النبي صلعم في المنافقين يعلمهم وحده، وسأله عمر ☺ هل في عُمَّاله أحد منهم؟ قال: نعم واحد، قال: من هو؟ قال: لا أذكره فعزله عمر ☺ وكأنما دُلَّ عليه، وكان عمر ☺ إذا مات ميت / فإن حضر الصلاة عليه حذيفة صلى عليه عمر ☺ وإلا فلا.
          وحديثه ليلة الأحزاب مشهور فيه معجزات، وكان فتح همدان والري والدينور على يده، وولاه عمر ☺ المدائن، وكان كثير السؤال لرسول الله صلعم عن الفتن والشر؛ ليجتنبهما ومناقبه كثيرة، روي له عن رسول الله صلعم عشرون حديثاً كذا قال الكرماني، لكن قال الشيخ قطب الدين: (أخرجا له اثني عشر حديثاً اتفقا عليها، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بسبعة عشر)، فهذا يدل على سقوط عدد في شرح الكرماني إما منه وإما من النساخ، هذا توفي بالمدائن سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان ☺ بأربعين ليلة.
          (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلعم حَدِيثَيْنِ)؛ وقد وصلهما المؤلف ☼ في «الرقاق» [خ¦6497] [خ¦7086]، وهذه التعاليق الثلاثة تدل على أن الصحابي تارة يقول: «حدثنا»، وتارة يقول: «سمعت» فتدل على عدم الفرق بينهما، ثم عطف على هذه ثلاثة أخرى؛ تنبيهاً على حكم العنعنة، وأن حكمها الوصل عند ثبوت اللقي، وفيه تنبيه على أن رواية النبي صلعم إنما هي عن ربه ╡ سواء صرح بذلك الصحابي أم لا، فإن ابن عباس ☻ روى عنه حديثه المذكور في موضع آخر ولم يذكر فيه عن ربه فقال(1) : (وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ) بالمهملة وأبو العالية اثنان:
          أحدهما: رُفَيع _بضم الراء وفتح الفاء_ ابن مِهران الرياحي أعتقته امرأة من بني رياح _بالياء الأخيرة_ حي من بني تميم، أدرك الجاهلية وأسلم بعد موت رسول الله صلعم بسنتين، مات سنة تسعين.
          والآخر: هو البرَّاء _بتشديد الراء_ : زيادُ بنُ فيروز البصري القرشي مولاهم، سمع: ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وغيرهم، قال أبو زرعة: ثقة، توفي سنة تسعين أيضاً، روى له البخاري ومسلم وإنما قيل له البَّراء؛ لأنه كان يبري النبل، ومثله أبو معشر البَّراء واسمه يوسف وقيل: يبري النبل أيضاً، وقيل: يبري (2) العود ومن عداهما البراء بالتخفيف وكله ممدود.
          وأبو العالية المذكور هاهنا هو الرياحي، فإن الحديث المذكور معروف برواية الرياحي دون البَّراء، وقد وصله المؤلف ☼ في «التوحيد» [خ¦7539] بروايته دون البراء، فافهم.
          (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ☻ / (عَنِ النَّبِيِّ صلعم : فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ. وَقَالَ أَنَسٌ) ابن مالك ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم : يَرْوِيهِ) وفي رواية: <فيما يرويه> (عَنْ رَبِّهِ ╡) وفي رواية: <تبارك وتعالى> بدل قوله: «╡».
          (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم : يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ)؛ بكاف الخطاب مع ميم الجمع، وهذه التعاليق الثلاثة وصلها المؤلف في كتاب «التوحيد» [خ¦7538]، لا يقال ذِكر العنعنة لا تعلق له بالترجمة، وكذا لفظ الرواية حيث قال: «يرويه عن ربه»؛ لأن لفظ الرواية شامل لجميع الأقسام المذكورة من التحديث، والأنباء، والأخبار، والسماع وكذا لفظ العنعنة لاحتماله كلّاً منها.


[1] في هامش الأصل: قوله: فقال عطف على قوله ثم عطف. منه.
[2] ((من قوله: ومثله... إلى قوله: وقيل يبري)): ليس في (خ).