نجاح القاري لصحيح البخاري

باب فضل العلم

          ░1▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ بابُ فَضْلِ الْعِلْمِ) هكذا في بعض النسخ، وفي بعضها تقديم البسملة على كتاب العلم، ولكل وجه على ما تقدم في كتاب «الإيمان» [خ¦2/1-10]، وفي بعضها لم يوجد ذلك بل الموجود كتاب العلم.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ)؛ بالجر عطفاً على فضل العلم على رواية من أثبت الباب، أو على العلم على رواية من حذفه، وقال الحافظ العسقلاني: ضبطناه بالرفع؛ عطفاً على كتاب أو على الاستئناف، فافهم(1) .
          (تَعَالَى)؛ وفي رواية: <╡> في سورة المجادلة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} [المجادلة:11] توسعوا فيه، وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم: افسح عني؛ أي: تنح، والمراد بالمجلس الجنس كما يدل عليه قراءة عاصم بالجمع، أو مجلس رسول الله صلعم فإنهم كانوا يتضامون به تنافساً على القرب منه، وحرصاً على استماع كلامه، وقيل: المراد مجالس القتال وهي مراكز الغزاة كقوله تعالى: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران:121]، قيل: كان الرجل يأتي الصف فيقول: تفسحوا، فيأبون؛ لحرصهم على الشهادة ({فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11]) فيما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق والصدر وغيرها.
          ({وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} (2) [المجادلة:11]) انهضوا للتوسعة أو لما أمرتم به كصلاة، أو جهاد، أو ارتفعوا من المجلس ({فَانْشُزُوا}) وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بخلفه، وحفص بضم الشين فيهما.
          ({يَرْفَعِ}) بكسر العين لأنه مجزوم في جواب الأمر ({اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}) بالنصر وحسن الذكر في الدنيا، وإيوائهم غرف الجنان في الآخرة ({والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}) نصب على التمييز؛ أي: ويرفع العلماء منكم خاصة درجات بما جمعوا من العلم والعمل، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة، ولذلك يقتدى بالعالم في أفعاله ولا يقتدى بغيره.
          وقد جاء في الآثار: إن درجات العلماء تتلو درجات الأنبياء، فإن العلماء ورثة الأنبياء ورثوا العلم وبيَّنوه للأمة وحموه من تحريف الجاهلين، وعن ابن عباس ☻ : ((للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبع مئة درجة ما بين الدرجتين خمسمائة عام))، وروى ابن وهب عن مالك قال: كان زيد بن أسلم يقول في قوله تعالى: / {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} بالعلم. وقال ابن مسعود ☺ في قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ} الآية مدح الله العلماء في هذه الآية، والمعنى: يرفع الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا فقط ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به، وقيل: يرفعهم في الثواب والكرامة، وقيل: يرفعهم في الفضل والمنزلة في الدنيا (3)، والأولى أن الرفع يشمل المعنوي في الدنيا أعني: علو المنزلة، وحسن الصيت، والحسنى في الآخرة أعني: علو الدرجات في الجنة.
          وفي ((صحيح مسلم)) عن نافع بن عبد الحارث الخزاعي: وكان عامل عمر على مكة أنه لقيه بعسفان فقال له: من استخلفت؟ فقال: استخلفت ابن أبزى مولى لنا، فقال عمر ☺: استخلفت مولى قال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، فقال عمر ☺: أما إن نبيكم قد قال: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)).
          ({وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]) تهديد لمن لم يمتثل الأمر أو استكرهه (وَقَوْلِهِ ╡) ({رَبِّ}) وفي رواية: <وقل رب> ({زِدْنِي عِلْماً}) أي: سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال فإن ما أوحي إليك تناله لا محالة، وإنما فسر هكذا؛ لأن ما قبله نهي عن الاستعجال في تلقي الوحي من جبريل ومساوقته؛ أي: متابعته في القراءة حتى يتم وحيه، وكان كلما نزل شيء من القرآن ازداد به النبي صلعم علماً.
          وقيل: ما أمر الله تعالى رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم، وقد طلب موسى ◙ الزيادة فقال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] وكان ذلك لما سئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، واكتفى المؤلف ☼ في بيان فضيلة العلم بذكر هاتين الآيتين؛ لأن القرآن من أقوى الحجج القاطعة، والاستدلال به أقوى من الاستدلال بغيره، أو لأنه لم يقع له حديث من هذا النوع على شرطه، واخترمته المنية قبل أن يلحق بالباب حديثاً يناسبه؛ لأنه كان كتب الأبواب والتراجم، ثم كان يلحق بكل باب ما يناسبه من الحديث على شرطه.
          وأما حديث أبي هريرة ☺ رفعه: ((من التمس طريقاً / يلتمس فيه علماً سهَّل الله له طريقاً إلى الجنة)) فهو وإنْ صحَّ لكنه اختلف فيه على الأعمش، والراجح أن بينه وبين أبي صالح فيه واسطة فلذا لم يخرجه المؤلف ☼ (4) .
          والأحاديث في فضل العلم كثيرة ولو لم يكن من فضيلة العلم إلا أنه شهد الله فبدأ تعالى بنفسه وثنى بملائكته، وثلَّث بأهل العلم كفى بذا شرفاً، وأن العلماء ورثة الأنبياء وإذا لم يكن رتبة فوق النبوة فلا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة، لكن العلم الممدوح هو المقرون بالعمل؛ لأنه ثمرته، وفائدة العمر، وزاد الآخرة من ظفر به سَعِد، ومن فاته خسر، وأما العلم بلا عمل فلا يسمى علماً حقيقة.
          قال القسطلاني: (وينقسم العلم بانقسام المعلومات فمنها: الظاهر وهو المراد بالعلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه، وقد عد الشيخ عز الدين بن عبد السلام تعلم النحو، وحفظ غريب الكتاب والسنة، وتدوين أصول الفقه من البدع الواجبة ومنها: علم الباطن وهو نوعان):
          الأول: علم المعاملة وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة، فالمعرض عنه هالك بسطوة مالك الملوك في الآخرة، كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا، وحقيقة النظر في تصفية القلب، وتهذيب النفس باتقاء الأخلاق الذميمة التي ذمها الشارع كالرياء، والعجب، والغش، وحب العلو، والثناء، والفخر، والطمع ليتصف بالأخلاق الحميدة المحمدية كالإخلاص والشكر والصبر والزهد والتقوى والقناعة، فيصلح عند إحكامه ذلك للعمل بعلمه فيرث ما لم يعلم، فعِلْمٌ بلا عمل وسيلة بلا غاية، وعكسه جناية وإتقانهما بلا ورع كلفة بلا أجرة، فأهم الأمور زهد واستقامة لينتفع بعلمه وعمله.
          وأما الثاني: فهو علم المكاشفة: وهو نور يظهر في القلب عند تزكيته فيظهر به المعاني المجملة فيحصل له المعرفة بالله، وأسمائه، وصفاته، وكتبه، ورسله، وتنكشف له الأستار عن مخبآت الأمور والأسرار، فافهم وسلِّم تسلم، ولا تكن من المنكرين فتهلك مع الهالكين. /
          قال بعض العارفين: من لم يكن له من هذا العلم شيء أخشى عليه من سوء الخاتمة وأدنى النصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله. هذا انتهى كلام القسطلاني ☼ .


[1] في هامش الأصل: وجه الفهم الإشارة إلى الاشتباه في وجه الاستئناف إما البياني فواضح أن المقام ليس محله، وإما النحوي فلأنه يقتضي خيراً ولا خير مذكوراً فيحتاج إلى التقدير، ولا قرينة على تعيين المقدر فتدبر. منه.
[2] في هامش الأصل: (({وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} أي: انهضوا للتوسعة على المقبلين أو انهضوا عن مجلس رسول الله صلعم إذا أمرتم بالنهوض ولا تملوا رسول الله صلعم بالارتكاز فيه، أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير إذا استنهضتم ولا تثبطوا ولا تفرطوا)). كشاف.
[3] ((من قوله: في دينهم... إلى قوله: في الدنيا)): ليس في (خ).
[4] في هامش الأصل: وفي ((الكشاف)): وعن عبد الله بن مسعود ☺ أنه كان إذا قرأها يعني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا} الآية قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية، ولترغبكم في العلم، وعن النبي صلعم: ((بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة))، وعنه صلعم: ((فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب))، وعنه صلعم: ((يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء)) فأعظم درجة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلعم، وعن ابن عباس ☻: ((خير سليمان ◙ بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه))، وفي رواية: ((لاختياره العلم))، وعنه صلعم: ((أوحى الله تعالى إلى إبراهيم ◙ يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم))، وعن بعض الحكماء: ليت شعري: أي شيء أدرك من فاته العلم، وأي شيء فات من أدرك العلم، وعن الأحنف: كاد العلماء يكونون أرباباً، وكل عِزٍّ لم يؤكد بعلم فإلى ذل يصير، وعن الزهري: العلم ذكر لا يحبه إلا ذكورة الرجال. منه.