نجاح القاري لصحيح البخاري

باب رفع العلم وظهور الجهل

          ░21▒ (بابُ رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ)؛ الأول مستلزم للثاني، لكنه أتى به لزيادة الإيضاح.
          ووجه المناسبة بين البابين: أن المذكور في الباب الأول فضل العالم والمعلم، وفيه مع الترغيب في تحصيل العلم والإشارة إلى فضيلته ومزية تعليمه، فإنه لا يرفع إلا بقبض العلماء كما سيأتي صريحاً، وما دام من يتعلم العلم وجوداً لا يحصل الرفع، وفي هذا الباب رفع العلم المستلزم لظهور الجهل، وفيه التحذير وذم الجهل، وأنه من علامات الساعة، وبضدها تتبين الأشياء.
          (وَقَالَ رَبِيعَةُ)؛ هو المشهور بربيعة الرأي _بإسكان الهمزة_ وإنما قيل له ذلك؛ لكثرة اشتغاله بالرأي والاجتهاد، وهو أبو عثمان بن أبي عبد الرحمن فرُّوخ _بالفاء وبالراء المشددة المضمومة وبالخاء المعجمة_ القرشي المدني التابعي الفقيه شيخ مالك بن أنس.
          روى عن الأعلام منهم الإمام الأعظم أبو حنيفة ⌂، وكان يكثر الكلام ويقول: الساكت بين النائم والأخرس.
          قال يحيى بن سعيد(1) : ما رأيت أعقل من ربيعة، وكان صاحبَ معضلاتِ أهل المدينة ورئيسهم في الفتوى، قال مالك ⌂: ذهبت حلاوة الفقه مذ مات ربيعة، توفي سنة ست وثلاثين ومئة بالمدينة، وقيل: بالأنبار في دولة أبي العباس.
          (لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ) أي: هو الفهم، وقابلية العلم أو المعلوم (أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ) وفي رواية: <يُضَيِّعُ نفسه> / بأن يهمل نفسه ويترك الاشتغال بالعلم، بل ينبغي أن يجتهد فيه، ولا يضيع فهمه؛ لئلا يؤدي إلى رفع العلم، فإنه إذا لم يتعلم أفضى إلى رفع العلم؛ لأن البليد لا يقبل العلم فهو عنه مرتفع، فلو لم يتعلم الفهم؛ لارتفع عنه العلم أيضاً، فيرتفع عنه عموماً، وذلك من أشراط الساعة، أو بأن لا يفيد الناس ولا يسعى في تعليم الغير، وقد قيل: ومن مَنَعَ المستوجبين فقد ظلم.
          وقال التيمي: (قال الفقهاء: يلزم متعيِّن البلد للقضاء طلبه لحاجته إلى رزق من بيت المال، أو لخمول ذكره وعدم شهرة فضيلته إن انتشر علمه إذا ولي القضاء، وحاصله: ينبغي أن يُشهِرَ العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه؛ لئلا يضيع علمه)، وعلى كل معنى فمناسبة هذا القول للترجمة ظاهرة.
          وقيل: معناه: إنه ينبغي للعالم تعظيم العلم وتوقيره، فلا يهين نفسه بأن يجعله غرضاً للدنيا، ويأتي بعلمه أهل الدنيا، ويتواضع لهم وهو معنى حسن، لكن لا يناسب تبويب المؤلف، إلا أن يقال: إنه يؤدي إلى قلة الاشتغال بالعلم والاهتمام به؛ لما يرى من ابتذال أهله، وقلة الاحترام لهم، فعلى هذا يناسب التبويب، والله أعلم، ثم إن هذا تعليق من المصنِّف، لكن قد عرفت أن ما يذكره بصيغة الجزم صحيح عنده، بخلاف ما يذكره بصيغة التمريض كقوله: يذكر ويروى، وهذا بصيغة الجزم حيث قال: قال ربيعة، وقد وصله الخطيب في «الجامع»، والبيهقي في «المدخل» من طريق عبد العزيز الأويسي، عن مالك، عن ربيعة.


[1] في الأصل: «معين»، وهو وهم، ووفاة ابن سعيد144، ووفاة ابن معين233.