التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من رفع صوته بالعلم

          ░3▒ بَاب مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعِلْمِ.
          60- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حدَّثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عبد الله بْنِ عَمْرٍو قَالَ: (تَخَلَّفَ النَّبِيُّ صلعم عنا فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ)، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
          الكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه قريبًا في العلم عن مُسدَّدٍ، وفيه: ((قد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر))، وفي الطَّهارة عن موسى، وفيه: ((فأدركنا وقد أرهقتنا العصر))، وأخرجه مسلمٌ في الطَّهارة: عن شيبان وأبي كاملٍ عن أبي عَوَانة به.
          ثانيها: في التعريف برجاله:
          أمَّا أبو النُّعمان: محمَّدٌ [خ¦58]، وأبو عَوَانة: الوضَّاح [خ¦5]، فقد سلفا، وكذا عبد الله بن عمرٍو [خ¦10].
          وأمَّا الرَّاوي عنه فهو: يوسف بن ماهَكَ، بفتح الهاء والكاف، لا ينصرف للعجمة والعلميَّة، فارسيٌّ مكِّيٌّ تابعيٌّ ثقةٌ، سمع ابن عمر وعائشة وغيرهما، وسمع والده مَاهَك، واسم أمِّه: مُسَيكة، وقال الدَّارَقُطنيُّ: بل مَاهك / ، ويُذكر عن أبي داود وعليِّ بن المدينيِّ أنَّ يوسف بن مَاهَك ويوسف بن مَاهَان واحدٌ، مات سنة ثلاث عشرة ومائةٍ، وقيل: سنة عشرٍ ومائةٍ.
          وأمَّا الرَّاوي عنه فهو: أبو بشرٍ جعفر بن أبي وَحْشيَّة، واسمه إياسٌ، واسطيٌّ بصريٌّ ثقةٌ، كثير الحديث، لقي مِنَ الصَّحابة عبَّاد بن شُرَحْبِيل اليَشكُريَّ، وهو مِنْ قومه، روى عنه: شعبة وهشيمٌ، مات سنة خمسٍ وعشرين ومائةٍ.
          ثالثها: لَمَّا ذكر ابن ماجه مِنْ حديث جابرٍ: ((ويلٌ للعراقيب)) قال: هذا أعجب إليَّ مِنْ حديث عبد الله بن عمرٍو، يعني الذي ذكره البخاريُّ ومسلمٌ، وقد أخرجه مسلمٌ مِنْ حديث أبي هريرة أيضًا أنَّ رسول الله صلعم رأى رجلًا لم يغسل عقبه فقال: ((وَيْلٌ للأَعْقَابِ مِنَ النَّار))، وقد أخرجه البخاريُّ عنه في الطَّهارة كما سيأتي.
          رابعها: هذه السَّفرة قد جاءت مبيَّنةً في بعض طرق روايات مسلمٍ: ((رجعنا مع رسول الله صلعم مِنْ مكَّة إلى المدينة، حتَّى إذا كنَّا في الطَّريق تعجَّل قومٌ عند العصر فتوضَّؤوا وهم عجالٌ فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسَّها الماء، فقال النَّبيُّ صلعم: وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النَّار، أسبغوا الوضوء)).
          خامسها: قوله: (وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ)، هو برفع الصَّلاة على أنَّها الفاعل أي أعجلتنا، لضيق وقتها، ورُوي: أرهقنا الصَّلاة، بالنَّصب على أنَّها مفعولةٌ، أي: أخَّرنا الصَّلاة حتَّى كادت تدنو مِنَ الأخرى، قال القاضي: وهذا أظهر.
          قال صاحب «الأفعال»: أرهقتُ الصَّلاة: أخَّرتُها، وأرهقتُه: أدركتْهُ، وقال الخليل: أرهقنا الصَّلاة: استأخرنا عنها، وقال أبو زيدٍ: رهقنا الصَّلاة إذا حانت، وقال أبو عبيدٍ: رَهَقْتُ القوم غشيتُهم ودنوتُ منهم، وقال ابن الأعرابيِّ: رهقتُه وأرهقتُه بمعنى دنوتُ منه. /
          وقال الجوهري: رهِقَه _بالكسر_ يرهَقه رَهْقًا غشيه، قال تعالى: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس:26] وقال أبو زيدٍ: أرهقه عسرًا، إذا كلَّفه إيَّاه، يُقال: لا ترهقني لا أرهقَك الله، أي لا تُعسرني لا أعسرَك الله.
          وقيل في قوله تعالى: {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:73] أي: تلحق بي، مِنْ قولهم: رهِقه الشَّيء إذا غشيه، وقيل: لا تعجلني، ويجيء على قول أبي زيدٍ: لا تكلِّفني.
          سادسها: (وَيْلٌ) مِنَ المصادر التي لا أفعال لها، وهي كلمة عذابٍ وهلاكٍ، وهي مقابل ويحٍ، يُقال لمن وقع فيما لا يستحقُّه: ويحه، ترحُّمًا عليه، وعن أبي سعيد الخدريِّ: ويلٌ وادٍ في جهنَّم لو أُرسلت عليه الجبال لماعت مِنْ حرِّه، وقيل: ويلٌ صديد أهل النَّار.
          سابعها: (الأَعْقَابُ): جمع عقبٍ، وهي مؤخِّر القدم، وعقب كلِّ شيءٍ آخره، وهي مؤنَّثةٌ، وقال الأصمعيُّ: العقب هو: ما أصاب الأرض مِنْ مؤخِّر الرِّجل إلى موضع الشِّراك، وقال ثابتٌ: العقب: ما فضل مِنْ مؤخِّر القدم إلى السَّاق، ويُقال: عقِب وعقْب، بكسر القاف وسكونها.
          ثامنها: خصَّ صلعم الأعقاب بالعِقَاب لأنَّها التي لم تُغسل، ويحتمل أن يريد صاحبها، ففيه حذف المضاف، والألف واللَّام في الأعقاب الظَّاهر أنَّها عهديَّةٌ، ويحتمل أن تكون للعموم.
          تاسعها: هذا الحديث ممَّا ورد على سببٍ؛ وفيه كثرةٌ يحتمل إفراده بالتأليف.
          عاشرها: في أحكامه:
          الأوَّل: وجوب استيعاب غسل الرِّجلين، وأنَّ المسح غير كافٍ ولا يجب مع الغسل المسح، وهو إجماعُ مَنْ يُعتدُّ به.
          وقد ترجم عليه البخاريُّ في الطَّهارة، باب غسل الرَّجلين، ولا يمسح على القدمين، ففهم منه أنَّ القدمين لا يُمسحان، بل يُغسلان، لكن رواية مسلمٍ السَّالفة: ((وأعقابهم تلوح لم يمسَّها الماء))، قد تُفسَّر الرِّواية هنا: ((فجعلنا نمسح على أرجلنا))، ولا شكَّ أنَّ هذا موجبٌ / للوعيد بالاتِّفاق، وقد يُؤوَّل على أنَّ المراد: لم يمسَّها الماء للغسل وإن مسَّها بالمسح، فيكون الوعيد وقع على الاقتصار على المسح فقط، وفي: «صحيح ابن خزيمة» مِنْ حديث عمرو بن عنبسة الطَّويل: ((ثمَّ يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله تعالى))، وهو دالٌّ على أنَّ الله تعالى أمر بغسلهما فلا عبرة إذًا بقول الشِّيعة: إنَّ الواجب المسح، ولا بقول ابن جريرٍ، والجُبَّائي مِنَ المعتزلة: إنَّه مخيَّرٌ بينه وبين الغَسل، ولا بإيجاب بعض الظَّاهريَّة الجمع بينهما، وقراءة الجرِّ في الآية محمولةٌ على النَّصب أو مِنْ باب عطف الجِوار.
          الثَّاني: وجوب تعميم الأعضاء بالمطهِّر، وأن تَرك البعض منها غير مجزئٍ.
          الثَّالث: تعليم الجاهل وإرشاده.
          الرَّابع: أنَّ الجسد يُعذَّب، وهو مذهب أهل السُّنَّة.
          الخامس: جواز رفع الصَّوت في المناظرة بالعلم.
          السادس: أنَّ العالم يُنكر ما يرى مِنَ التَّضييع للفرائض والسُّنن ويُغْلظ القول في ذلك ويرفع صوته للإنكار، كما ذكرنا.
          السَّابع: تكرار المسألة توكيدًا لها، ومبالغةً في وجوبها، وسيأتي ذكره في باب: مَنْ أعاد الحديث ثلاثًا ليُفهم، واعلم أنَّ الصَّحابة إنَّما أخَّروا الصَّلاة عن الوقت الفاضل طمعًا في صلاتها مع الشَّارع صلعم، فلمَّا خافوا فوتها استعجلوا فأنكر عليهم نقصهم الوضوء.