التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين

          ░13▒ بَاب مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ
          71- حدَّثنا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حدَّثنا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ ☺ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاللهُ معْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ).
          الكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه البخاريُّ هنا عن سعيدٍ كما ترى، وأخرجه في الاعتصام عن إسماعيل بن أبي أويسٍ كلاهما عن ابن وهبٍ، وفي الخمس عن حِبَّان بن موسى عن ابن المبارك، وأخرج مسلمٌ في الزَّكاة الفصلين الأوَّلين، عن حرملة عن ابن وهبٍ كلاهما عن يونس عن الزُّهريِّ عن حميدٍ.
          والفصل الثَّالث: وهو قوله: (ولنْ تَزَال) إلى آخره، عن عمر بن هانئٍ عن معاوية بألفاظٍ. وفي البخاريِّ فقال معاذٌ هم بالشَّام.
          ولمسلمٍ / أيضًا: ((لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحقِّ حتَّى يأتي أمر الله)).
          ورواه غير معاوية مِنَ الصَّحابة ستَّةٌ: عمر وابنه عبد الله وابن مسعودٍ وأبو هريرة وابن عبَّاسٍ وأنسٌ، ذكرهم الخطيب في كتاب «الفقيه والمتفقِّه».
          ورواه عن معاوية جماعةٌ عدَّدهم هو وابن عبد البرِّ في «جامع بيان العلم»، منهم معبدٌ الجهنيُّ بزيادة: ((ويزهِّده في الدُّنيا ويبصِّره بعيوبه)).
          ثانيها: قوله: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كذا وقع هنا في جميع النُّسخ بلفظ (قَالَ) لم يذكر فيه لفظ السَّماع، وجاء في «صحيح مسلمٍ» فيه عن ابن شهابٍ حدَّثني حميدٌ، بلفظ التَّحديث، وأثبته الدِّمياطيُّ نسخةً هنا.
          وقد اتَّفق أصحاب الأطراف وغيرهم على أنَّه مِنْ حديث ابن شهابٍ عن حميدٍ، فتنبَّه لذلك، وقد وقع للبخاريِّ مثل هذا في كتاب التَّوحيد في باب قوله ◙: ((رجلٌ آتاه الله القرآن))، وقال فيه: حدَّثنا عليُّ بن عبد الله حدَّثنا سفيان قال الزهريُّ، وذكر الحديث ثمَّ قال: سمعت مِنْ سفيان مرارًا لم أسمعه يذكر الخبر، وهو مِنْ صحيح حديثه، لكن يمكن أن يُقال: سفيان مدلِّسٌ، فنبَّه عليه البخاريُّ لأجل ذلك.
          ثالثها في التَّعريف برواته غير ما سلف:
          أمَّا معاوية فهو خال المؤمنين، أبو عبد الرَّحمن بن أبي سفيان، صخر بن حربٍ، الخليفة الأمويُّ، كاتب الوحي، أسلم عام الفتح، وعاش ثمانِيًا وسبعين سنةً، ومات سنة ستِّين في رجب ومناقبه جمَّةٌ، وليس في الصَّحابة معاوية بن صخرٍ غيره، وفيهم: معاوية فوق العشرين.
          وأمَّا حميدٌ فقد سلف [خ¦49].
          وأمَّا ابن وهبٍ فهو: الإمام أبو محمَّدٍ عبد الله بن وهبٍ الفِهريُّ مولاهم المصريُّ، أحد الأعلام، طُلِب للقضاء فجنَّن نفسه وانقطع، وهو أفقه مِنَ ابن القاسم.
          روى عن: يونس وابن جريجٍ وغيرهما، وعنه: أحمد بن صالحٍ والرَّبيع وخلقٌ.
          مات سنة سبعٍ وتسعين ومائةٍ، وولد سنة خمسٍ وعشرين، وقيل: سنة أربعٍ، وفيها مات الزُّهريُّ، ولم يكتب مالكٌ الفقيه لأحدٍ إلَّا إليه.
          وقال / ابن أبي حاتمٍ: نظرت في نحو ثمانين ألف حديثٍ مِنْ حديثه فلا أعلم أنِّي رأيت حديثًا لا أصل له، وقال أحمد بن صالحٍ: حدَّث بمائة ألف حديثٍ، قال الخليليُّ: و«موطَّؤه» يزيد على كلِّ مَنْ روى عن مالكٍ، وعنده الفقه الكثير، ونظر الشَّافعيُّ في كتبه ونسخ منها.
          فائدةٌ: ليس في الصَّحيحين عبد الله بن وهبٍ غيره، فهو مِنْ أفرادهما، وفي التِّرمذيِّ وابن ماجه عبد الله بن وهبٍ الأسديُّ تابعيٌّ، وفي النَّسائيِّ عبد الله بن وهبٍ عن تميمٍ الدَّاريِّ، وصوابه ابن موهبٍ، وفي الصَّحابة عبد الله بن وهبٍ خمسةٌ فاعلم ذلك.
          وأمَّا سعيد بن عُفيرٍ فهو: الحافظ أبو عثمان سعيد بن كثير بن عُفيرٍ _بالعين المهملة المضمومة ثمَّ فاءٍ_ الأنصاريُّ المصريُّ، يروي عن مالكٍ واللَّيث، وعنه البخاريُّ، وروى مسلمٌ والنَّسائيُّ عن رجلٍ عنه، قال أبو حاتمٍ: صدوقٌ ليس بالثَّبت، كان يُقرئ مِنْ كتب النَّاس، عاش ثمانين سنةً ومات سنة ستٍّ وعشرين ومائتين.
          رابعها: الفقه الفهم، يقال فَقَه _بفتح القاف_ إذا سبق غيره إلى الفهم، وبكسرها إذا فهم، وبضمِّها إذا صار له سجيَّةً، ومنه فقيهٌ فعيلٌ بمعنى: فاعلٍ، وقوله: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّيْنِ) هو شرطٌ وجزاؤه، وهما مجزومان، ومَنْ لا يريد به خيرًا فلا يُفقِّهه فيه، وأتى بالخير منكَّرًا، لأنَّه أبلغ، فكأنَّه قال على النَّفي لا يريد به خيرًا مِنَ الخير، والمراد (بِالدِّينِ): الإسلام، ومنهم مَنْ فسَّر الفقه في الدِّين بالفقه في القواعد الخمس ويتَّصل بها الفروع.
          خامسها: معنى قوله ◙: (وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ): لم أستأثر بشيءٍ مِنْ مال الله، وهو كقوله في الحديث الآخر: ((ما لي ممَّا أفاء الله عليكم إلَّا الخمس، وهو مردودٌ عليكم))، وإنَّما قال ذلك تطييبًا لنفوسهم لمفاضلته بالعطاء، فالمال لله والعباد لله وأنا قاسمٌ _بإذنه_ ماله بينكم، وهو معنى قوله بعده: ((والله / يعطي فمَنْ قسمت له كثيرًا أو قليلًا فبقضاء الله))، وفيه إيماءٌ _كما قال الدَّاوديُّ_ إلى أنَّه يعطي بالوحي، ويجوز أن يكون باجتهاده ولا يخطَّأ اجتهاده.
          سادسها: قوله: (وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ)، يريد أنَّ هذه الأمَّة آخر الأمم، وأنَّ عليها تقوم السَّاعة وإن ظهرت أشراطها، وضعف الدِّين فلا بدَّ أن يبقى مِنْ أمَّته مَنْ يقوم به، لقوله: (لَا يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفْهُم)، والمراد بأمر الله قيل: إنَّه الرِّيح، إذ في الصَّحيح مِنْ حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((إنَّ اللهَ تعالى يبعثُ رِيحًا مِن اليمن ألينَ مِنَ الحرير، فلا تدعُ أحدًا في قلبهِ مثقال حبَّةٍ مِنْ إيمانٍ)).
          وأمَّا الحديث الآخر: ((لا تقوم السَّاعة حتَّى لا يُقَال في الأرض: الله، الله)) وحديث: ((لا تقوم السَّاعة إلَّا على شرار الخلق))، فالمراد حتَّى يقرب قيامها، وهو خروج الرِّيح، وجوَّز الطَّبريُّ أنْ يضمر في هذين الحديثين بموضع كذا فالموصوفون بأنَّهم شرار الخلق غير الموصوفين بأنَّهم على الحقِّ، ويؤيِّده أنَّه جاء في بعض طرق الحديث قيل: مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: ((ببيت المقدس أو أكناف بيت المقدس)).
          وقد سلف قول معاذٍ في البخاريِّ أنَّهم بالشَّام، وقال مطرِّفٌ: كانوا يرون أنَّهم أهل الشَّام، ورواية مسلمٍ السَّالفة: ((لا يزال أهل المغرب))، قال ابن المدينيِّ: المراد بهم العرب لأنَّهم مِنْ أهل الغرب وهو: الدَّلو، وقيل المراد: المغرب مِنَ الأرض، وقيل: المراد بهم أهلُّ الشِّدَّة والجَلَد، وغرب كلِّ شيءٍ: حدُّهُ.
          وفي «الصَّحيح» أيضًا: ((لا تزال طائفةٌ مِنْ أمَّتي ظاهرين على الحقِّ))، قال البخاريُّ: هم أهل العلم، وقال أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فما أدري مَنْ هم؟
          قال عياضٌ: وأراد أحمد بأهل الحديث أهل السُّنَّة والجماعة، ومَنْ يعتقد مذهبهم.
          قال النَّوويُّ: ويحتمل أن تكون هذه الطَّائفة متفرِّقةٌ مِنْ أنواع المؤمنين / فمنهم: شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدِّثون ومنهم زهَّادٌ ومنهم آمرون بالمعروف، وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواعٍ مِنَ الخير، ولا يلزم اجتماعهم بل يكونوا متفرِّقين.
          ويؤيِّد ما ذكره ما جاء في بعض الرِّوايات: ((لا تزال عصابةٌ مِنَ المسلمين يقاتلون))، وشبهه.
          وقيل: معنى قوله: ((ولن تزال هذه الأمَّة...)) إلى آخره، أنَّ الله يحمي إجماعها عن الخطأ حتَّى يأتي أمر الله، ولا يُسمَّى أمَّةً إلَّا مَنْ يُعتدُّ بإجماعه.
          سابعها في فوائده:
          الأولى: فضل العلماء على سائر النَّاس، وفضل الفقه على سائر العلوم، لأنَّهم الذين يخشونه تعالى مِنْ عباده فيتجنبُّون معاصيه، ويديمون طاعته، لمعرفتهم بالوعد والوعيد وعظم النِّعمة، وقال ابن عمر للذي قال له فقيهٌ: إنَّما الفقيه الزَّاهد في الدُّنيا، الرَّاغب في الآخرة.
          الثانية: أنَّ الإسلام لا يذلُّ وإن كثر مطالبوه.
          الثَّالثة: أنَّ الإجماع حُجَّةٌ، وحديث: ((لا تجتمع أُمَّتي على ضلالةٍ)) ضعيفٌ.
          الرَّابعة: فيه إخباره ╕ بالمغيَّبات، وقد وقع ما أخبر به، ولله الحمد، فلم تزل هذه الطَّائفة مِنْ زمنه وهلُّم جرًّا، ولا تزول حتَّى يأتي أمر الله تعالى.