التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا

          ░4▒ باب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ: أَخْبَرَنا وَحَدَّثَنا وأَنْبَأَنَا
          وَقَالَ لَنَا الحُمَيْدِيُّ: كَانَ عِندَ ابنِ عُيَيْنَة أَخْبرَنا وَحَدَّثَنا وَأَنْبَانَا وَسَمِعْتُ وَاحِدًا، قَالَ ابنُ مسْعُودٍ: حَدَّثَنا رَسُولُ اللهِ وَهُو الصَّادِقُ المصْدُوقُ، وقال شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ سَمِعْتُ مِنَ النَّبيِّ كَلِمةً، وقال حُذَيفَةُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللِه صلعم / حَدِيثَيْن، وَقَالَ أَبُو العَالِيَةَ: عَنِ ابنِ عبَّاسٍ عَنِ النَّبيِّ فيما يَروي عَنْ رَبِّهِ، وَقَالَ أَنَسٌ عَنِ النَّبيِّ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ ╡، وَقَالَ أَبُو هُرَيرَة عَنِ النَّبيِّ صلعم يَرْويهِ عَنْ ربِّكُم تباركَ وتعالى.
          61- حَدَّثَنِي قُتَيبةُ، حَدَّثَنا إِسْماعِيلُ بنُ جَعْفرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ دِينارٍ، عَنِ ابنِ عُمَر قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلعم: (إنَّ مِنَ الشَّجَر شَجَرةً لا يَسْقُطُ وَرَقُها وإنَّها مَثَلُ الْمُسلِمِ فَحَدِّثُوني مَا هِيَ؟ فَوَقعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي، قَالَ عَبدُ اللهِ: ووَقَع في نَفْسِي أنَّها النَّخْلةُ، فاسْتَحييتُ، ثمَّ قالوا: حَدَّثَنا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ).
          الكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: حديث ابن عمر، أخرجه البخاريُّ في العلم في مواضع عن قتيبة كما ترى، وعن خالد بن مخلدٍ عن سليمان عن ابن دينارٍ به، وعن عليٍّ عن سفيان عن ابن أبي نَجِيحٍ عن مجاهدٍ، وعن إسماعيل عن مالكٍ عن ابن دينارٍ به، وفيه فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها.
          وأخرجه في البيوع في باب: بيع الجمَّار وأكله عن أبي الوليد عن أبي عَوانة عن أبي بشرٍ عن مجاهدٍ عن ابن عمر.
          وفي الأطعمة عن عمر بن حفصٍ عن أبيه عن الأعمش عن مجاهدٍ به.
          وعن أبي نعيمٍ عن محمَّد بن طلحة عن زُبيدٍ عن مجاهدٍ به، ولفظ رواية عمر بن حفصٍ: ((بينما نحنُ عند رسول الله صلعم جُلُوسٌ، إذ أُتي بجُمَّار نخلةٍ، فقال: إنَّ مِنَ الشَّجَر لَمَا بَرَكتُهُ كَبَركةِ المسْلِم، فظَنَنتُ أنَّه يعني النَّخْلَة، فأردتُ أن أقولَ: هي النَّخْلَة يا رسولَ الله، ثمَّ التفتُّ فإذا أنا عاشِرُ عَشَرةٍ أنا أحْدَثُهم، فسكتُّ، فقال النَّبيُّ صلعم: هِيَ النَّخْلةُ)).
          وفي أوَّل بعض طرقه: ((كنتُ عند رسول الله صلعم وهو يأكل الجمَّار)).
          وأخرجه في الأدب: في باب: لا يُستحيا مِنَ الحقِّ عن آدم عن شعبة عن محاربٍ / عن ابن عمر مرفوعًا: ((مَثَلُ المؤمِنِ كمَثَل شجرةٍ خضراءَ لا يَسْقطُ وَرَقُها ولا يَتَحاتُّ)) فقال القوم: هي شَجَرة كذا، هي شَجَرة كذا، فأردتُ أن أقولَ هي النَّخْلةُ وأنا غلامٌ شابٌّ فاستحييت، فقال: ((هِيَ النَّخْلَةُ)).
          وعن شعبة عن خبيبٍ عن حفصٍ عن ابن عمر مثله، وزاد: ((فحدَّثت به عمر فقال: لو كُنْتَ قُلْتها لكان أحبَّ إليَّ مِنْ كَذَا وكَذَا)).
          وأخرجه في التَّفسير عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافعٍ عن ابن عمر، وأخرجه مسلمٌ تلو كتاب التَّوبة، عن محمَّد بن عبيدٍ عن حمَّادٍ عن أيُّوب عن أبي الخليل، وعن أبي بكرٍ وابن أبي عمر عن سفيان عن ابن أبي نَجيحٍ، وعن ابن نُميرٍ عن أبيه، عن سيف بن سليمان _وقال ابن أبي سليمان_ كلُّهم عن مجاهدٍ به.
          وعن قتيبة وابن أيُّوب وابن حجرٍ، عن إسماعيل به، وفي بعضها: قال ابن عمر: ((فألقى الله في روعي أنَّها النَّخْلة)) الحديث، وفيه مِنْ رواية مجاهدٍ عن ابن عمر: ((فأَخْبِروني))، وقد سلف، وعند البخاريِّ ((فحدِّثوني)).
          ثانيها: في التعريف برواته:
          وقد سلفوا، وفيه مِنَ الأسماء غير ما مرَّ: حذيفة بن اليمان حِسلٍ _بكسر الحاء وإسكان السِّين المهملتين_ العبسيِّ، حليف بني عبد الأشهل مِنَ الأنصار، حديثه ليلة الأحزاب مشهورٌ فيه معجزاتٌ، ومناقبه جمَّةٌ، مات بالمدائن سنة ستٍّ وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلةً، أخرجا له اثني عشر حديثًا بالاتِّفاق، وانفرد البخاريُّ بثمانيةٍ، ومسلمٌ بسبعة عشر.
          وليس في الصَّحابة حذيفة بن اليمان سواه، وإن كان فيهم حذيفة ستَّةٌ.
          وفيه شقيق بن سلمة أبو وائلٍ الأسديُّ وقدْ سلف [خ¦48]، وليس في الكتب السِّتَّة شقيق بن سلمة سواه، وإن كان فيهم مَنْ تسمَّى بهذا الاسم أربعة غيره.
          وفيه أبو العالية البرَّاء _بالرَّاء المشددة_ واسمه زياد بن فيروز، أو أذينة، أو كلثوم، أو زياد بن أذينة، أقوالٌ، البصريُّ القرشيُّ مولاهم التَّابعيُّ الثِّقة.
          سمع ابن عمر وغيره، / مات سنة تسعين، وإنَّما قيل له: البرَّاء، لأنَّه كان يبري النَّبل.
          ومثله أبو معشرٍ البَّراء، واسمه يوسف، وكان يبري النَّبل وقيل: العود، ومَنْ عَداهما البراء مخفَّفٌ، وكلُّه ممدودٌ كما سلف في القواعد أوَّل هذا الشَّرح بزيادةٍ.
          ثالثها: اختلف العلماء في هذه المسألة التي عقد لها البخاريُّ الباب على ثلاثة مذاهب:
          أحدها: ما ذكره البخاريُّ وهو جواز إطلاق (حَدَّثَنا، وَأَخْبَرَنَا) في قراءة الشَّيخ والقراءة عليه، وهو مذهب جماعةٍ مِنَ المحدِّثين منهم: الزُّهريُّ ومالكٌ وابن عيينة ويحيى القطَّان وجماعةٌ مِنَ المتقدِّمين، وقيل: إنَّه قول معظم الحجازيِّين والكوفيِّين.
          وقال القاضي عياضٌ: لا خلاف أنَّه يجوز في السَّماع مِنْ لفظ الشَّيخ أنْ يقول السَّامع فيه: (حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنا، وَأَنْبَأَنا)، وسمعته يقول: وقال لنا فلانٌ وذكر لنا فلانٌ.
          وكذا قال الطَّحاويُّ: لم يفرِّق القرآن بين الخبر والحديث ولا السُّنَّة، قال تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23]، وقال: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، فجعل الحديث والخبر واحدًا، وقال تعالى: {قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة:94]، وهي الأشياء التي كانت بينهم، و{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [البروج:17]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا} [النساء:42].
          وقال ◙: ((ألا أُخْبِركُم بخيرِ دُورِ الأَنْصارِ؟))، و((أخبرني تميمٌ الدَّاريُّ))، وذكر قصَّة الجسَّاسة، وقال هنا: (فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟)، وفي روايةٍ: ((فأخبروني))، وقال في الحديث السَّالف: ((وأخبروا به مَنْ وراءكم))، وصحَّح هذا المذهب ابن الحاجب الأصوليُّ، ونقل هو وغيره عن الحاكم أنَّه مذهب الأئمَّة الأربعة.
          المذهب الثَّاني: المنع فيهما في القراءة عليه إلَّا مقيَّدًا مثل: حدَّثنا فلانٌ قراءةً عليه، وأخبرنا قراءةً عليه، وهو مذهب ابن المبارك، ويحيى بن يحيى التَّميميُّ وأحمد بن حنبلٍ، والمشهور عن النَّسائيِّ، وصحَّحه الآمديُّ والغزاليُّ، وهو مذهب المتكلِّمين. /
          والمذهب الثَّالث الفرق: فالمنع في حدَّثنا والجواز في أخبرنا، وهو مذهب الشَّافعيِّ وأصحابه ومسلم بن الحجَّاج، وجمهور أهل المشرق، ونُقل عن أكثر المحدِّثين منهم: ابن جريجٍ والأوزاعيُّ والنَّسائيُّ وابن وهبٍ، وقيل: إنَّه أوَّل مَنْ أحدث هذا الفرق بمصر وصار هو الشَّائع الغالب على أهل الحديث، وخير ما يُقال فيه: إنَّه اصطلاحٌ منهم أرادوا به التَّمييز بين النَّوعين وخصَّصوا قراءة الشَّيخ بحدَّثنا، لقوَّة إشعاره بالنُّطق والمشافهة.
          رابعها: معنى قوله: (فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي) ذهبت أفكارهم إلى ذلك، وذهِلوا عن النَّخلة، وقوله: (مَثَلُ المُسْلِمِ) هو بفتح الثَّاء، ويجوز إسكانها.
          خامسها: في فوائده:
          الأولى: استحباب إلقاء العالم المسائل ليختبر أفهامهم، وضرب الأمثال، وتوقير الأكابر كما فعل ابن عمر، أمَّا إذا لم يتنبَّه لها الكبار فللصَّغير أن يقولها.
          الثانية: فضل النَّخل، وقد قال المفسِّرون في قوله تعالى: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ}: إنَّها النَّخلة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} في الأرض {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أي: رأسها {تُؤْتِي أُكُلَهَا} أي: ثمرها {كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم:24-25] فشبَّه عمل المؤمن في كلِّ وقتٍ بالنَّخلة التي تُؤتي أكلها كلَّ وقتٍ.
          الثَّالثة: أشبهت النَّخلة المسلم في كثرة خيرها ودوام ظلِّها وطيب ثمرها، ووجوده على الدَّوام، فإنَّه مِنْ حين يطلع ثمرها لا يزال يُؤكل منه حتَّى ييبس وبعدَه، ويُتَّخذ منه منافع كثيرةٌ مِنْ خشبها وورقها وأغصانها، فتُستعمل جذوعًا وحطبًا وعصيًّا وحُصرًا ومخاصر وحبالًا وأواني وغير ذلك، ثمَّ يُنتفع بنواها علفًا للإبل وغيرها، ثمَّ كمال نباتها وحسن ثمرته، وهي كلُّها منافع وخيرٌ وجمالٌ، والمؤمن خيرٌ كلُّه مِنْ كثرة طاعاته ومكارم أخلاقه ومواظبته على عبادته وصدقته وسائر الطَّاعات.
          هذا هو الصَّحيح في وجه الشَّبه للمسلم، وقد جاء في حديث ذكره الحارث بن أبي / أسامة أنَّه صلعم قال: ((هي النَّخلة لا تسقط لها أنملةٌ وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوةٌ)).
          وفيه وجه ثانٍ: أنَّ النَّخلة إذا قُطع رأسها ماتت بخلاف باقي الشَّجر.
          وثالثٌ: مِنْ كونها لا تحمل حتَّى تُلقح، وفيهما نظرٌ، لأنَّ التَّشبيه إنَّما وقع بالمسلم وهذان المعنيان يشملان المسلم والكافر، وقيل: لأنَّها فضلة تربة آدم على ما يُروى، وإن كان لا يثبت، وعلوُّ فروعها كارتفاع عمل المؤمن، وقيل: لأنَّها شديدة الثُّبوت كثبوت الإيمان في قلب المؤمن.