التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب حفظ العلم

          ░42▒ بَاب حِفْظِ الْعِلْمِ
          118- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عبدِ الله حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيرَة قَالَ: ((إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيرَة، وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ تعالى مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا ثُمَّ يَتْلُو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِن الْبَيِّنَاتِ والهدى} إِلَى قَوْلِهِ: {الرَّحِيمُ} [البقرة:159-160] وإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُم الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِن الْأَنْبصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُم الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيرَة كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ لشِبَعِ بطنه، وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ)).
          119- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ، حدَّثنا محمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بنِ دِينارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيرَة: ((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ قَالَ: ابْسُطْ رِدَاءَكَ، فَبَسَطْتُهُ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَ)).
          حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنذِر قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ بِهَذَا، قَالَ: يحذِفُ بيَدهِ إلى فيهِ.
          120- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيرَة قَالَ: ((حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ وِعَاءَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وأمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لقُطِعَ منِّي هَذَا الْبُلْعُومُ)). قال أبو عبد الله: البُلعوم مجرى الطَّعام.
          الكلام على ذلك من أوجهٍ:
          أحدها: الحديث الأوَّل أخرجه البخاريُّ أيضًا في المزارَعة عنْ موسى بنِ إسماعيلَ عنْ إبراهيمَ، وفي الاعتصام عنْ عليٍّ، عنْ سفيانَ.
          وأخرجه مسلمٌ في الفضائل عنْ قُتَيبةَ وأبي بكرٍ وزُهَيرٍ عنْ سفيانَ، وعنْ عبدِ اللهِ بنِ جَعفرِ بنِ يحيى عنْ مالكٍ، وعنْ عبدِ الرزَّاقِ عنْ مَعْمَرٍ، كلُّهم عنه، وله طرقٌ مِن غير رواية الأعرج.
          والحديث الثَّاني: أخرجه في علامات النُّبوَّة كما ستعرفه.
          ثانيها: في التَّعريف برُواته غير مَن سَلف: وعبدُ العزيزُ سلَفَ، وكرَّره شيخنا قطب الدِّين في شرحه.
          وأحمدُ بنُ أبي بكرٍ: هو أبو مصعبٍ الزُّهريُّ العَوفيُّ قاضي المدينة وعالمها، سمع مالكًا وطائفةً، وعنه السِّتَّةُ لكنِ النَّسائيُّ بواسطةٍ، وأخرج له مسلمٌ حديث أبي هُرَيرَة: ((السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ)) فقط، واسم أبي بكرٍ: القاسمُ، وقيل: زُرارةُ بنُ الحارثِ بنِ زُرارةَ بنِ مصعبِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ.
          وهو أحد مَن حمل «الموطَّأ» عن مالكٍ، مات سنة اثنتين وأربعين ومئتين عن اثنتين وتسعين سنةً.
          وأمَّا ابنُ أبي ذئبٍ: فهو الإمام محمَّدُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ المُغِيرةِ بنِ أبي ذئبٍ، أبو الحارثِ المدنيُّ العامريُّ الثقةُ كبيرُ الشأنِ، روى عن عِكرِمَة وخلقٍ، وعنه: مَعمرٌ وخلقٌ، مات سنة تسعٍ وخمسين ومئةٍ، ووُلِد سنة ثمانين.
          قال الشَّافعيُّ: ما فاتني أحدٌ فأسفتُ عليه ما أسفتُ على اللَّيث وابنِ أبي ذئبٍ، وعن بعضهم: في حديثه عن الزُّهريِّ شيءٌ، قيل: للاضطِّراب، وقيل: إنَّ سماعه منه عَرْضٌ وهذا ليس بقادحٍ.
          وأمَّا محمَّدُ بنُ إبراهيمَ بنِ دِينارٍ: فهو المدنيُّ الحمصيُّ، الثِّقة الفقيه، مفتي المدينة بعد مالكٍ ومعه، روى عن موسى بنِ عقبةَ وجماعةٍ، وعنه أبو مصعبٍ، مات سنة اثنتين وثمانين ومئةٍ.
          ثالثها: في ألفاظه ومعانيه:
          قوله: (يَشْغَلُهُمْ) هو بفتح الياء ثلاثيٌّ، وحُكي ضمُّها وهو ضعيفٌ.
          قال الهَرويُّ: يقال: أصفقَ القوم على الأمر وَصَفَقُوا بالبيع والبيعة، قال غيره: أصله مِن تصفيق الأيدي بعضِها على بعضٍ مِن المتبايعين عند العقد.
          و(السُّوق) يذكَّر ويؤنَّث، سمِّيت بذلك لقيام النَّاس فيها على سُوقهم.
          وكان أبو هُرَيرَة من ضعفاء المسلمين ومن أهل الصُّفَّة كما سلف في ترجمته.
          وقوله: (فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ)، وفي غير«الصَّحيح»: ((فَغَرَفَ فِيْهِ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ضُمَّهُ...)) الحديث، وفي بعض طرقه عند البخاريِّ: ((لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَهُ إِلَى صَدْرِهِ، فَيَنْسَى مِنْ مَقَالَتِي شَيْئًا أَبَدًا، فَبَسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْبٌ غَيْرَهَا، حَتَّى قَضَى مَقَالَتَهُ، ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيْتُ مِنْ مَقَالَتِه تِلْكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا)).
          وفي «مسلمٍ»: ((أَيُّكُمْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ فَيَأْخَذُ)) فذكره بمعناه، ثمَّ قال: فما نسيتُ بعد ذلك اليوم شيئًا حدَّثني به، وهذه الرِّواية دالَّةٌ على العموم، وأنه بعد ذلك لم ينسَ شيئًا سمعه منه، لا أنَّه خَاصٌّ بتلك المقالة كمَا تُشعر به الرِّواية السالفة، فإنَّه شكا النِّسيان، ففعلَ ذلك ليزولَ عنه.
          وفيه فضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي هُرَيرَة.
          وفيه حفظُ العلم والدُّؤوبُ عليه والمواظبةُ على طلبه.
          وفيه ظهورُ بركة دعائه.
          وفيه فضلُ التَّقليل مِن الدُّنيا وإيثارُ طلب العلم على طلب المال.
          وفيه أنَّه يجوز للإنسان أن يخبرَ عن نفسه بفضله إذا اضطُرَّ إلى ذلك لاعتذارٍ منْ شيءٍ أو ليبيِّن ما لزمه تبيينُه إذا لم يقصد بذلك الفخرَ.
          وقوله: (ضُمَّه): يجوز ضمُّ مِيْمِه وفتحها وكسرها، وقال / بعضهم: لا يجوز إلا الضَّمُّ لأجل الهاء المضمومة بعده، واختاره الفارسيُّ، وجوَّزه صاحب«الفصيح» وغيرُه.
          والوِعاء: بكسر الواو، ويجوز ضمُّها، وما حفظه _☺_ من السُّنن المذاعة لو كُتِب لاحتمل أنْ يملأ منها وعاءً، وما كتمه مِنْ أخبار الفتن كذلك.
          ومعنى (بَثَثْتُهُ): أذعتُه وأشهرتُه، قيل: هو أشراطُ السَّاعة وفساد الدِّين وتضييع الحقوق وتغيير الأحوال؛ لقوله _صلعم_: ((يَكُوْنُ فَسَادُ الدِّيْنِ عَلَى يَدِ أُغَيْلِمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ)) وكان أبو هُرَيرَة يقول: لو شئت أن أسمِّيَهم بأسمائهم، لكنَّه خشي على نفسه ولم يصرِّح.
          وجاء في غير «البخاريِّ»: ((حفظتُ ثلاثةَ جُرُبٍ، بَثَثْتُ مِنْهَا جِرَابَيْنِ، وَلَوْ بَثَثْتُ الثَّالِثَ لَقُطِعَ هَذَا)) يعني البُلعوم _وهو بضمِّ الباء الموحَّدة_ وهو مجرى النَّفَس إلى الرِّئة، وقال الجوهريُّ والقاضي: مجرى الطعام في الحلق، وهو المريء.
          وقد فسَّره البخاريُّ به كما سلف [خ¦120]، وجاء: ((خمسةً))، يعني: أجرُبٍ.
          وفيه: أنَّ كلَّ من أمر بمعروفٍ إذا خاف على نفسه في التَّصريح أن يُعرِّض، ولو كانت الأحاديث الَّتي لم يحدِّث بها من الحلال والحرام ما وسعه كتمُها؛ لأنَّه قال: ((لَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا))، ثمَّ يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} [البقرة:159] كما سلف.