التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إثم من كذب على النبي

          ░38▒ بَابُ إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صلعم
          106- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أخبرنا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ قَالَ: سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: / قَالَ رسول الله _صلعم_: ((لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ)).
          107- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عبدِ الله بْنِ الزُّبَير عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ)).
          108- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حدَّثنا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: قال أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ قَالَ: ((مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)).
          109- حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حدَّثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ _صلعم_ يَقُولُ: ((مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)).
          110- حَدَّثَنَا مُوسَى حدَّثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيرَة: عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قَالَ: ((تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ)).
          الكلامُ على هذه القطعة مِن وجوهٍ:
          أحدها: حديثُ عليٍّ _☺_ أخرجه مسلمٌ في المقدِّمة من حديث غُنْدَرٍ عن شُعْبةَ به.
          وحديثُ ابن الزُّبَير من أفراده، وزاد أبو داودَ فيه: ((مُتَعَمِّدًا))، والمحفوظُ في «البخاريِّ» و«النَّسائيِّ» حذفُها.
          وحديثُ أنسٍ أخرجه مسلمٌ عن زهيرٍ عن ابن عُلَيَّةَ عن عبد العزيز به، ودعوى الحُمَيديِّ في«جمعه» أنَّه من أفراد مسلمٍ غريبٌ، فإنَّه في «البخاريِّ» كما تراه.
          وحديثُ سلَمةَ مِن ثلاثيَّاتِ البخاريِّ وهو مِن أفراده، وحديث أبي هُرَيرَة سيأتي واضحًا في الأدب إن شاء الله تعالى، وأخرجه مسلمٌ أيضًا، وأخرجه مع البخاريِّ أيضًا من حديث المُغيرة أيضًا.
          الوجه الثَّاني: التَّعريف برواتها غيرِ مَنْ سَلَفَ:
          أمَّا حديث عليٍّ فراويه أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالبٍ _واسمه عبدُ مَنافٍ_ ابنِ عبدِ المطَّلب بنِ هاشمٍ، ابنُ عمِّ النبيِّ _صلعم_ وصهرُه، وأحدُ العَشَرَةِ المشهودُ لهم بالجنَّة، وأحدُ السِّتَّة، كنَّاه النبيُّ _صلعم_ أبا تُرابٍ، وأمُّه فاطمةُ بنتُ أسدِ بنِ هاشمٍ، وهي أوَّلُ هاشميَّةٍ ولدت هاشميًّا، أسلمت وهاجرت إلى المدينة وتُوفِّيت وصلَّى عليها النبيُّ _صلعم_ ونزل قبرَها، وكان عليٌّ أصغرَ مِن جعفرٍ وعقيلٍ وطالبٍ، وهو أوَّلُ النَّاس إسلامًا في قولِ جماعةٍ، قيل: إنَّه أسلم وهو ابنُ عَشْرِ سنين، وقيل خمسَ عشْرةَ.
          وهاجر إلى المدينة وشهد بدرًا والمشاهدَ كلَّها إلا تَبُوكًا، فإنَّه _صلعم_ خلَّفه على أهله، وآخاه رسولُ الله _صلعم_ مرَّتين، وقال في كلٍّ منهما: ((أَنْتَ أَخِيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ))، وفضائلُه مشهورةٌ وسيأتي بعضها حيث ذكره البخاريُّ إن شاء الله تعالى.
          وحديثُ: ((أَنَا مَدِيْنَةُ الْعِلْمِ)) وفي لفظٍ: ((أَنَا دَارُ الْحِكْمَةِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا)) مُنكَرٌ كما قاله التِّرمذيُّ، وليَ الخلافةَ خمسَ سنين، وقيل: إلا شهرًا، بويع له بعدَ عثمانَ لكونِه أفضلُ الصَّحابة حينئذٍ.
          رُوي له خمسُ مئةٍ حديثٍ وستةٌ وثمانون حديثًا، اتَّفقا منها على عشرين، وانفرد البخاريُّ بتسعةٍ ومسلمٌ بخمسةَ عشرَ، روى عنه بنوه الثَّلاثة: الحسنُ والحسينُ ومحمَّدُ ابنُ الحنفيَّة، وخلقٌ.
          ضَربه عبد الرَّحمن بنُ مُلجَمٍ الْمُراديُّ _وهو من حِميَرٍ_ بسيفٍ مسمومٍ فأوصله دماغَه، في ليلة الجمعة، ومات بالكوفة ليلةَ الأحد تاسعَ عشرَ رمضانَ سنةَ أربعين.
          ولمَّا ضربه ابن مُلجَمٍ قال: فزتُ وربِّ الكعبة! ولمَّا فرغ مِن وصيَّته قال: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثمَّ لم يتكلَّم إلَّا بلا إله إلَّا الله حتَّى مات عن ثلاثٍ وستِّين في قول الأكثر، وكان آدمَ اللون أصلعَ رَبْعةً أبيضَ الرأس واللِّحية وربَّما خضب لحيته.
          وأولادُه: الحسن والحسين ومُحسِنٌ وأمُّ كلثومٍ من فاطمةَ ♦، ومحمَّدُ ابن الحنفيَّة وغيرُه مِن غيرها ♥، وليس في الصَّحابة من اسمه عليُّ بنُ أبي طالبٍ غيرُه، وإن كان في الرُّواة عليُّ بن أبي طالبٍ ثمانيةٌ سواه ذكرتُهم في«العُدَّة» في «معرفة رجال العُمدة» وبسطت فيه ترجمتَه، وقد أُفرِدَت بالتَّأليف.
          وأمَّا الرَّاوي عنه فهو ربِعِيُّ بنُ حِراشِ _بكسر الحاء المهملة_ بنِ جحشِ بنِ عَمرِو بنِ عبدِ اللهِ بنِ مالكِ بنِ غالبِ بنِ قطيعةَ بنِ عَبْسِ بنِ بَغِيضِ بنِ رَيْثِ بنِ غَطَفانَ بنِ سعدِ بنِ قيسِ عَيلانَ بنِ مُضرَ الغَطَفانيُّ العَبْسيُّ _بالموحَّدة_ أبو مريمَ الكوفيُّ، أخو مسعودٍ الَّذي تكلَّم بعد الموت وأخوهما ربيعٌ.
          قال الكَلبيُّ: كتب النبيُّ _صلعم_ إلى حِراشِ بنِ جحشٍ، فحرَّق كتابَه، وليس لرِبعِيٍّ عَقِبٌ، والعَقِب لأخيه مسعودٍ.
          قال ابنُ سعدٍ: روى عن عمرَ وعليٍّ، وخَرَشَةَ بنِ الحُرِّ، قال: قيل لشُعْبَةَ: أدرك رِبعِيٌّ عليًّا؟ قال: نعم حدَّث عن عليٍّ ولم يقل: سمع، وعن أبي الحسن القابِسيِّ أنَّه لم يصحَّ لرِبعِيٍّ سماعٌ مِن عليٍّ غيرَ هذا الحديث، وقدم الشَّام وسمع خُطبة عمرَ بالجابية.
          قال العِجليُّ: تابعيٌّ ثقةٌ لم يكذب كذبةً قطُّ، وكان له ابنان يعصيان على الحجَّاج، فقيل للحجَّاج: إنَّه لم يكذب كذبةً قطُّ، فلو أرسلت إليه فسألتَه عنهما، فأرسل إليه فقال: أين ابناك؟ فقال: هما في البيت، فقال: قد عفونا عنهما بصدقك.
          وقيل: إنَّه آلَى ألَّا يفترَّ ضاحكًا حتى يعلمَ أين مصيرُه، فما ضحك إلَّا بعدَ موته، توفِّي في خلافة عمرَ بن عبد العزيز، وقيل: توفِّي سنة أربعٍ ومئةٍ.
          وأمَّا الرَّاوي عنه فهو منصورُ بنُ المُعتمِرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ رُبَيعةَ _بضم الراء_ أبو عَتَّابٍ، ويقال: ابنُ المعتمرِ بنِ عتَّابِ بنِ عبدِ اللهِ، ويقالُ: ابنُ المعتمِرِ بنِ عبَّادِ بنِ فَرقدٍ، الكوفيُّ السُّلَميُّ، المجمَع على جلالته وتوثيقه وفضله وصلاحه وعبادته.
          روى عن أبي وائلٍ وغيره، وعنه السُّفيانانِ وخَلْقٌ، قال: ما كتبت حديثًا قطُّ، ومناقبُه جمَّةٌ وهو أتقنُ مِن الأَعْمَشِ، أُكْرِه على قضاء الكوفة، وكان فيه تشيُّعٌ.
          ويقال: إنَّه صام أربعين سنةً وقام ليلَها وعَمِش مِن البكاء، مات سنةَ اثنتين وثلاثين ومئةٍ.
          وأمَّا حديثُ الزُّبَير فراويهِ حَواريُّ النبيِّ _صلعم_ وابنُ عمَّته الزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ بنِ خُوَيلدِ بنِ أسدِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ قُصيِّ بنِ كِلابٍ، يلتقي مع النبيِّ _صلعم_ في الأب الخامس، وهو أوَّل مَن سلَّ سيفَه في سبيل الله، وأمُّه صفيَّةُ بنتُ عبدِ المطَّلبِ هاجرت إلى المدينة، وهو أحد العشَرةِ، و أحدُ السِّتَّة الشُّورى.
          آخى رسولُ الله _صلعم_ بينَه وبينَ عبد الله بنِ مسعودٍ مِن المهاجرين، وبينه وبينَ سَلَمةَ بنِ سَلامةَ بنِ وَقَشٍ مِن الأنصار، شَهِدَ بدرًا والمشاهدَ كلَّها واليرموكَ وفَتْحَ مِصْرَ، وهاجر الهجرتين، وأسلمَ وهو ابنُ ستَّ عشْرةَ سنةً، وكان أسمرَ وقيل: أبيضَ، رَبعةً معتدِلَ اللَّحمِ، أشعرَ الكَتِفِ، طويلًا / تخطُّ رجلاه بالأرض إذا ركب الدَّابَّة.
          روى عنه ابناه عبدُ الله وعُروَةُ، ونافعُ بنُ جُبَيرٍ، استُشهد يومَ الجمل في جمادى الأولى سنة ستٍّ وثلاثين، وكان تركَ القتالَ وانصرف بوادي السِّباع بناحية البصرة، فقتله عَمرُو بن جُرْمُوزٍ بغيًا وظلمًا وقبرُه هناك، وسِنُّه بضعٌ وستُّون، وقيل: خمسٌ وسبعون، وكان له ألفُ مملوكٍ يؤدُّون الخَراج إليه فيتصدَّق به في مجلسه ما يقوم منه بدرهمٍ، رُوي له ثمانيةٌ وثلاثون حديثًا، اتَّفقا منها على حديثين، وانفرد البخاريُّ بسبعةٍ.
          وراويه عنه ولدُه عبد الله أبو بكرٍ وأبو خُبَيبٍ أميرُ المؤمنين، روى عنه أخوه عُروَةُ وابنُه عامرٌ وكان نهايةً في الشَّجاعة، غايةً في العبادة، استخلف سنة أربعٍ وستين، ومات شهيدًا في حَصْرِ الحجَّاج له بالبيت العتيق سنة ثلاث وسبعين
          وراويه عنه ولدُه عامرُ بنُ عبدِ الله، أبو الحارثِ المدنيُّ أخو عبَّادٍ وحمزةَ وثابتٍ وخُبَيبٍ وموسى وعمرَ، كان عابدًا فاضلًا ثقةً، مات قبلَ هشامٍ أو بعدَه بقليلٍ، ومات هشامٌ سنة أربعٍ وعشرين ومئةٍ.
          والرَّاوي عنه جامعُ بنُ شدَّادٍ المحاربيُّ، أبو صَخْرَةَ، وقيل: أبو صخرٍ الكوفيُّ الثِّقة، روى عنه شُعْبةُ وغيرُه، وهو قليل الحديث، له نحو عشرين حديثًا، مات سنة ثماني عشْرَةَ ومئةٍ، وقيل: سنة ثمانٍ وعشرين.
          وأمَّا حديث أنسٍ: ففيه عبدُ العزيزِ بنُ صُهيبٍ البُنانيُّ مولاهم، الأعمى التابعيُّ الحجَّة، وعنه شُعبةُ وغيرُه، مات سنةَ ثلاثين ومئةٍ، وقد سلف أيضًا.
          وأمَّا حديثُ سلَمة فراويه سلمةُ بنُ عَمرِو بنِ الأكوَعِ سِنانٍ الأسلَميُّأحدُ مَن بايع تحت الشَّجرة، عنه ابنه إِيَاسٌ، ومولاه يزيدُ بنُ أبي عُبيدٍ، وكان راميًا محسنًا يسبق الفَرس، مات سنة أربعٍ وسبعين عن ثمانين سنةً، أحاديثه سبعةٌ وسبعون حديثًا، اتَّفقا منها على ستَّةَ عشرَ، وانفرد البخاريُّ بخمسةٍ ومسلمٌ بتسعةٍ، كلَّمه الذِّئب، وقيل: إنَّه شهد مُؤْتةَ، ولمَّا قُتِل عثمانُ خرج إلى الرَّبْذة، فتزوَّج هناك وأقام بها إلى قبل موته بليالٍ، فنزل المدينة ومات بها.
          والرَّاوي عنه يزيدُ بنُ أبي عُبَيدٍ مولاه، كنيتُه أبو خالدٍ، روى عنه مَكِّيٌّ وغيره، ومات سنة ستٍّ أو سبعٍ وأربعين ومئةٍ.
          وأمَّا حديث أبي هُرَيرَة: ففيه موسى وهو ابنُ إسماعيلَ التَّبُوذَكِيُّ سلفَ، وأبو عَوانةُ، واسمه: الوضَّاح، وقد سلف أيضًا.
          وأبو حَصينٍ بفتح الحاء كما سلف في الفصول أوَّل الكتاب، واسمه: عثمانُ بنُ عاصمِ بنِ حَصينٍ الكوفيُّ، سمع ابنَ عبَّاسٍ وأبا صالحٍ وغيرهما، وعنه: شُعبة والسُّفيانان وخلقٌ، وكان ثقةً ثبتًا صاحب سنَّةٍ، مِن حفَّاظ الكوفة، مات سنة سبعٍ أو ثمانٍ وعشرين ومئةٍ.
          الوجه الثَّالث: في فوائده؛ وهو حديثٌ جليلٌ حَفيلٌ متواتِرٌ مقطوعٌ به، لا يوجد له مشابهٌ في طُرُقه وكثرتها، قال الحافظ أبو بكرٍ البزَّار: رواه مرفوعًا نحوٌ من أربعين صحابيًّا.
          وقال ابنُ الصَّلاح: إنَّه حديثٌ بلغ عددَ التَّواتر، رواه الجمُّ الكبير مِن الصحابة، قيل: إنَّهم يبلغون ثمانين نفسًا، ولم يزل في اشتهارٍ وكثرة طرقٍ في هذه الأزمان.
          وحكى أبو بكرٍ الصَّيرفيُّ في«شرح الرسالة» أنَّه رواه أكثرُ من ستِّين صحابيًّا، وجمع الحافظُ أبو الحجَّاجِ يوسفُ بنُ خليلٍ الدمشقيُّ طُرقَه في جزءٍ ضخمٍ بلغ رواتُه فوق سبعين صحابيًّا، وذَكر في جملة مَن رواه العَشَرَةَ إلَّا عبدَ الرحمن بنَ عوفٍ.
          وبلغ بهم الطَّبرانيُّ وابنُ مَنْدَهْ سبعةً وثمانين منهم العَشَرَةُ، ويجتمع مِن كلامِ ابنِ مَندَهْ في «مستخرجه» وكلامِ ابنِ خليلٍ نحوُ المئة.
          وقال بعضهم: رواه مئتان من الصَّحابة ولم يَزَلْ في ازديادٍ، وقال ابن دِحيةَ في كلامه على رجبٍ بعد أن قال: روي من نحو تسعين صحابيًّا: قد أُخرج من نحو أربع مئة طريقٍ، قال بعضهم: ولا يُعرف حديثٌ اجتمع على روايته العَشَرَةُ سواه، وليس كما ذكر؛ فقد اجتمع ذلك في رفع اليدين والمسح على الخفَّين، كما أوضحته في «تخريج أحاديث الرافعيِّ» ولله الحمد.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه من وجوه:
          أحدها: معنى ((فَلْيَتَبَوَّأْ)): فليتَّخذ، قال الخطَّابيُّ: تبوَّأ بالمكان إذا أخذه موضعًا لِمُقامه، وأصله مِن مَباءة الإبل وهي أعطانها، والمعنى بالحديث: لِيَنْزِلْ منزلَه منها، وإن كان بلفظِ الأمر فمعناه الخبر، أي: إنَّ الله يُبَوِّئُه مَقعده من النار، أو إنَّه استوجب ذلك واستحقَّه فليوطِّنْ نفسَه عليه، ويوضِّحه ما جاء في بعض طرق مسلمٍ وفي حديث عليٍّ السالف [خ¦106]: ((فَلْيَلِجِ النَّارَ))، وقيل: معناه التَّهديد والوعيد.
          وقال الطَّبريُّ: هو على معنى الدُّعاء منه صلعم، أي: بوَّأه الله ذلك، والمعنى: أنَّ هذا جزاؤه، وقد يُعفى عنه، وكلُّ ما جاء مِن الوعيد بالنَّار لأهل الكبائر غيرِ الكفر ينزلُ على هذا ومنه: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّة نَمَّامٌ))، أي: جزاؤه ألَّا يدخلَ.
          ثانيها: الكَذِب عند الأشاعرة: الإخبارُ عن الشَّيء على خلاف ما هو عليه، وإنْ كان سهوًا، واشترطتْ فيه المعتزِلة العَمْديَّةَ، ودليلُ الخطاب في هذه الأحاديث عليهم؛ لأنَّه يدلُّ على أنَّ مَن لم يتعمَّد يقع عليه اسمُ الكذب، وقُيِّد بالعَمْدِ في روايةٍ لبيان أنَّه يكون سهوًا وعمدًا، والإجماع منعقدٌ على أنَّ النَّاسيَ لا إثمَ عليه، والْمُطْلق محمولٌ على المقيَّد في الإثم.
          ثالثها: الأحاديث دالَّةٌ على تعظيم حُرمة الكَذِب عليه _صلعم_ وأنَّه كبيرةٌ، والمشهور أنَّ فاعلَه لا يكفر إلَّا أنْ يستحلَّه خلافًا للجُوَينيِّ حيث قال: يكفر ويُراق دمه، وضعَّفه ولده الإمامُ وجعله مِن هفوات والده، نَعَم مَن كذب في حديثٍ واحدٍ عمدًا فُسِّق ورُدَّت رواياته كلُّها وإنْ تاب، وبه قال أحمدُ بنُ حَنبلٍ وغيرُه.
          وهو نظير ما قاله مالكٌ في شاهد الزُّور إذا تاب أنَّه لا تُقبل شهادته، وما قاله الشافعيُّ وأبو حنيفةَ فيمن رُدَّت شهادتَه بالفِسْقِ أو العداوة ثمَّ تاب وحسُنت حالته لا يُقبل منه إعادتُها؛ لِمَا يلحقُه مِن التُّهمة في تصديقِ نفسه، وما قاله أبو حنيفةَ مِن أنَّ قاذف المحصَن إذا تاب لا تُقبل شهادتُه أبدًا، وما قاله أيضًا مِن أنَّه إذا رُدَّت شهادةُ أحدِ الزَّوجين للآخر ثمَّ مات لا تُسمَعُ؛ للتُّهمة ولأنَّها مَفَْسدةٌ عظيمةٌ، لأنَّه يصير شرعًا مستمرًّا إلى يوم القيامة، فجُعِل ذلك تغليظًا وزجرًا مِن الكذب عليه بخلاف غيرِه، قال عبدُ الله بنُ المباركِ: مِن عقوبة الكذَّاب أنَّه يُرَدُّ عليه صدقُه.
          وخالف النَّوويُّ فقال: المختار القطعُ بصحَّة توبته مِن ذلك وقَبولُ روايته بعد صحَّة التَّوبة بشروطها، وقد أجمعوا على قَبول رواية مَن كان كافرًا ثمَّ أسلم، وأجمعوا على قَبول شهادته، ولا فرق بين الرِّواية والشَّهادة.
          رابعها: لا فرق في تحريم الكذب عليه _صلعم_ بين ما كان في الأحكام وغيرِه كالتَّرغيب والتَّرهيب، فكلُّه حرامٌ مِن أكبر الكبائر بإجماع مَن يُعتدُّ به، ولا عِبرة بالكرَّاميَّة في تجويزهم الوضعَ في التَّرغيب والتَّرهيب وتشبُّثهم برواية: ((مَنْ كَذَبَ عَلِيَّ مُتَعَمِّدًا لِيُضِلَّ بِهِ)) بهذه الزِّيادة ولأنَّه كذبٌ له لا عليه، وهو من الأعاجيب؛ فهذه زيادةٌ باطلةٌ باتِّفاق الحفَّاظ، أو أنَّها للتكثير لقوله _تعالى_: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} [الأنعام:144]، أو أنَّ اللَّامَ في ((لِيُضِلَّ)) ليست للتَّعليل بل للصَّيرورة والعاقبة، والمعنى على هذا: يصير كذبه إلى الإضلال، والكذب له بما لم يُخبِر به كذبٌ عليه.
          ثمَّ الواضع على أقسامٍ بيَّنتها في «كتابي» المقنع «في علوم الحديث» فليراجَع منه.
          خامسها: مَن روى حديثًا عَلم أو ظنَّ أنَّه موضوعٌ فهو داخلٌ في هذا الوعيد إذا لم يبيِّن حال رواته / وضعفَهم، ويدلُّ عليه أيضًا قوله _صلعم_: ((مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيْثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ))، ومن روى حديثًا ضعيفًا لا يذكُرْه بصيغة الجزم بخلاف الصَّحيح والحسن.
          تنبيهٌ ينعطف على ما مضى: قال أبو العبَّاس القُرْطُبِيُّ: استجاز بعضُ فقهاءِ العراق نسبةَ الحُكْمِ الذي دلَّ عليه القياس إلى رسول الله _صلعم_ نسبةً قوليَّةً وحكايةً نقليَّةً، فنقول في ذلك: قال رسول الله _صلعم_ كذا وكذا.
          قال: ولذلك ترى كتبهم مشحونةً بأحاديثَ موضوعةٍ تشهد متونُها بأنَّها موضوعٌة، لأنَّها تشبه فتاوى الفقهاء، ولا تليق بجزالة كلام سيِّد المرسلين، مع أنَّهم لا يقيمون لها سندًا صحيحًا، فهؤلاء شملهم النَّهي والوعيد.
          سادسها: ذهب قومٌ إلى أنَّ هذا الحديث ورد في رجلٍ بعينه، كذبَ على النبيِّ _صلعم_ في حياته، وادَّعى لقومٍ أنَّه رسولُه إليهم، فحَكم في دمائهم وأموالهم، فأمر _صلعم_ بقتله إن وُجِد حيًّا وبإحراقه إن وُجِد ميتًا.
          والصَّواب عمومُه في كلِّ خبرٍ تُعمِّد به الكذب عليه في الدِّين والدُّنيا ولا يُخَصُّ بالدِّين، ولهذا قال _صلعم_: ((إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدِكُمْ)) وممَّا يؤيِّد عمومه استدلالُ عمرَ والزُّبَير بهذا الوعيد لتوقُّفهم عن التَّحديث، ولو كان في رجلٍ بعينه أو مقصورًا على سبب لما حذِروا، وذكر ابنُ الجَوزيِّ سبب وروده مِن طُرقٍ في مقدِّمة كتابه «الموضوعات».
          سابعها: ممَّا يُظَنُّ دخولُه في النَّهي اللَّحنُ وشِبْهُهُ، ولهذا قال العلماءُ: ينبغي للرَّاوي أن يعرفَ من النَّحو واللُّغة والأسماء ما يَسْلَمُ به مِن قولِ ما لم يَقُلْ.
          قال الأصمعيُّ: أَخْوَفُ ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرفِ النَّحوَ أن يدخلَ في قوله _صلعم_: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ...)) الحديث؛ لأنَّه _صلعم_ لم يكن يَلْحَنُ، فمهما لحن الرَّاوي فقد كَذَب عليه.
          وكان الأَوزاعيُّ يعطي كُتُبَهُ إذا كان فيها لحنٌ لِمَنْ يُصْلِحُها، فإذا صحَّ في روايته كلمةٌ غير مقيَّدةٍ فله أن يسألَ عنها أهلَ العلم ويرويَها على ما يجوز فيه، رُوي ذلك عن أحمدَ وغيرِه، قال أحمدُ: يجب إعرابُ اللَّحْن، لأنَّهم كانوا لا يَلْحَنون.
          وقال النَّسائيُّ فيما حكاه القابِسيُّ: إذا كان اللَّحنُ شيئًا تقوله العربُ وإن كان في غير لغة قريشٍ فلا يغيَّر؛ لأنَّه _صلعم_ كان يكلِّم النَّاس بلسانهم، وإن كان لا يوجد في كلامهم فالشَّارعُ لا يَلْحَنُ.
          قال الأَوزاعيُّ: كانوا يُعرِبون، وإنَّما اللَّحنُ مِنْ حمَلة الحديثِ، فأَعرِبوا الحديثَ، وقيل للشَّعبيِّ: أسمعُ الحديث ليس بإعرابٍ، أفأعربُه؟ قال: نعم.
          فرع: لو صحَّ في الرِّواية ما هو خطأٌ، فالجمهور على رِوايته على الصَّواب، ولا يغيِّره في الكتاب، بل يكتب في الحاشية: كذا وقعَ وصوابُه كذا، وهو الصَّواب، وقيل: يغيِّرُه ويصلحُه، رُوي ذلك عن الأَوزاعيِّ وابنِ المبارك وغيرِهما، وعن عبدِ الله بنِ أحمدَ بنِ حَنبلٍ قال: كان أبي إذا مرَّ به لحنٌ فاحشٌ غيَّره وإن كان سهلًا تركَه.
          وعن أبي زُرْعةَ أنَّه كان يقول: أنا أُصلِحُ كتابي مِن أصحاب الحديث إلى اليوم.
          ومحلُّ بسط ذلك علومُ الحديث، وكذا ما يتعلَّق به مِن استفهام الكلمة السَّاقطة على الراوي مِن الْمُستملي، وكذا رواية الحديث بالمعنى، وغير ذلك، وقد أوضحت ذلك في «علوم الحديث».
          ثامنها: توقَّى جماعةٌ مِن الإكثار مِن الرِّواية خوفَ دخول الوهم عليهم ولقيام غيرهم به.
          وأمَّا حديثُ أبي هُرَيرَة: (تَسَمَّوْا بِاسْمِي...) إلى آخره، فاختُلف في هذا النَّهي، هل هو عامٌّ أو خاصٌّ أو منسوخٌ؟ على أقوال؛ ومذهبُ الشَّافعيِّ وأهلِ الظَّاهر المنعُ مطلقًا، ومنعَ قومٌ تسميةَ الولد بالقاسم كيلا يكون سببًا للتَّكنية، وقيل: يجوز لمن ليس اسمُه محمَّدًا دون غيره، وفيه حديثٌ صحيحٌ، ووقع في بعض نُسَخِ «الرَّوضة» التَّعبيرُ عنه بعكسه، وهو أنَّه يجوز لِمَن اسمُه محمَّدٌ دون غيره، وهو سهوٌ فاحذرْه، فإنَّ أحدًا لم يقل به.
          ومذهب مالكٍ أنَّه يجوز التكنِّي به مطلقًا، وجعلَ النَّهي مختصًّا بحياته؛ لأنَّ الحديث ورد على سببٍ، فإنَّ اليهود تكنَّوا به وكانوا ينادُون: يا أبا القاسم، فيلتفتُ _صلعم_ فيقولون: لم نعنِك؛ إظهارًا للإيذاء، وقد زال ذلك المعنى، قال في«الرَّوضة»: وهذا المذهبُ أقربُ.
          ومنع قومٌ كما قال القاضي التَّسميةَ بالقاسم، كيلا يكون سببًا للتَّكنية، ويؤيِّد هذا قوله فيه: ((إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ)) فأخبرَ بالمعنى الَّذي اقتضى اختصاصَه بهذه الكُنية.
          وذهبَ قومٌ إلى أنَّ النَّهي منسوخٌ بالإباحة في حديث عليٍّ وطلحةَ، ونُقل عن الجمهور، وسمَّى جماعةٌ أبناءهم محمَّدًا وكنَوهم بأبي القاسم، وفي «سنن أبي داودَ» من حديث محمَّدِ ابنِ الحنفيَّةِ قال، قال عليٌّ: يا رسول الله، إنْ وُلد لي مِن بعدِك ولدٌ أسمِّيه باسمك ونكنِّيه بكُنيتك؟ قال: ((نَعَمْ)).
          قال أحمدُ بنُ عبدِ الله: ثلاثةٌ تكنَّوا بأبي القاسم، رُخِّص لهم: محمَّدُ ابنُ الحنفيَّةِ، ومحمَّدُ بنُ أبي بكرٍ، ومحمَّدُ بنُ طلحةَ بنِ عُبيدِ الله، وسيأتي لنا عودةٌ إلى هذه المسألة في كتاب الأدب [خ¦6187] إن شاء الله تعالى ذلك وقدَّره، وقد أوضحتها في «كتابي» «الخصائص» أيضًا.
          وأمَّا قوله _صلعم_: (وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي) وجاء في موضعٍ آخرَ: ((وَمَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ))، وجاء أيضًا: ((فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ))، وجاء أيضًا: ((فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ))، وجاء أيضًا: ((فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِي)) وهو تفسيرٌ للأُولى، واختُلف في تأويله، فقال القاضي أبو بكرٍ الباقِلَّانيُّ: إنَّها صحيحةٌ وليست بأضغاث أحلامٍ، وقال غيرُه: معناه رآه حقيقةً، وفيه قولٌ ثالثٌ أنَّه إن رآه على صفته فهو حقيقةٌ، وإن رآه على غيرها فهو رؤيا تأويلٍ لا حقيقةٍ، قاله ابن العربيِّ والقاضي، وضعَّفه النَّوويُّ وصوَّب الثَّانيَ.
          ومعنى (فَسَيَرَانِي)، أي: يرى تفسيرَه لأنَّه حقٌّ، أو يراه في القيامة، أو المرادُ أهلُ عصره ممَّن لم يهاجِرْ؛ فتكون الرُّؤية في المنام علَمًا له على رؤيته في اليقَظة، أقوالٌ.
          وخُصَّ _صلعم_ بذلك، لئلَّا يُكذَب على لسانه في النَّوم، كما منعه أنْ يتصوَّر في صورته في اليقظة إكرامًا له، وقد ذكرت فروعًا فقهيَّةً تتخرَّج على ذلك في«الخصائص» فراجعْها منه.
          فائدة: اختُلِف في حقيقة الرُّؤيا هل هي اعتقاداتٌ أو إدراكاتٌ يخلقُها الله _تعالى_ في قلب العبد؟ على قولين: وبالأوَّل قال القاضي أبو بكرٍ، وبالثَّاني قال الشيخُ أبو إسحاقَ.
          ومَنْشَأ الخلاف _كمَا قال ابن العربيِّ_ أنَّ الشخص قد يرى نفسه بهيمةً أو مَلَكًا أو طيرًا وهذا ليس إدراكًا؛ لأنَّه ليس حقيقةً، فصار القاضي إلى أنَّها اعتقاداتٌ؛ لأنَّ الاعتقاد قد يأتي على خلاف المعتقَد، قال: وذَهَلَ القاضي عنْ أنَّ هذا الْمَرْئيَّ مَثَلٌ، والإدراك إنَّما يتعلَّق بالْمَثَل، وسيأتي إيضاحُ ذلك في موضعه [خ¦6993] إنْ شاء الله تعالى ذلك وقدَّره. /