التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان

          ░7▒ بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَانِ.
          وَقَالَ أَنَسٌ: (نَسَخَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْآفَاقِ، وَرَأَى عَبدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَمَالِكٌ ذَلِكَ جَائِزًا. وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلعم، حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ: لَا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلعم). ثمَّ ساق / البخاريُّ حديث ابن عبَّاسٍ وأنسٍ في ذلك.
          الكلام على ذلك مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: أثر أنسٍ ساقه البخاريُّ في فضائل القرآن عن أنسٍ مطوَّلًا كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى في موضعه، وفي غير البخاريِّ أنَّ عثمان بعث مصحفًا إلى الشَّام وآخر إلى الحجاز وآخر إلى اليمن وآخر إلى البحرين، وأبقى عنده مصحفًا منها، ليجتمع النَّاس على قراءة ما يُعلم ويُتيَقَّن.
          قال أبو عمرٍو الدَّانيُّ: أجمع العلماء على أنَّ عثمان كتب أربع نسخٍ فبعث بإحداهنَّ إلى البصرة، والأخرى إلى الكوفة، وبالثَّالثة إلى الشَّام، وحبس آخر عنده، وقال أبو حاتمٍ السِّجِستانِيُّ: كتب سبعةً، فبعث إلى مكَّة واحدًا وإلى الشَّام آخر وإلى اليمن آخر وإلى البحرين آخر وإلى البصرة آخر وإلى الكوفة آخر.
          الثاني: أمير السَّريَّة هذا هو عبد الله بن جحش بن رِئابٍ أخو أبي أحمد، وزينب أمَّ المؤمنين، وأمَّ حبيبة وحَمنة، وأخوهم عبيد الله تنصَّر بأرض الحبشة، وعبد الله وأبو أحمد كانا مِن المهاجرين الأوَّلين، وعبد الله يُقال له: المجدَّع في الله، شهد بدرًا وقُتل يوم أُحدٍ بعد أن قُطع أنفه وأذنه ☺.
          قال ابن إسحاق: كانت هذه السَّريَّة أوَّل سريَّةٍ غنم فيها المسلمون، وكانت في رجب مِنَ السَّنة الثَّانية قبل بدرٍ الكبرى، بعثه النَّبيُّ صلعم ومعه ثمانية رهطٍ مِنَ المهاجرين، وكتب له كتابًا وأمره ألَّا ينظر إليه حتَّى يسير يومين، ثمَّ ينظر فيه فيمضي لِمَا أُمر به، ولا يستكره مِنْ أصحابه أحدًا، فلمَّا سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه: ((إذا نظرت في كتابي هذا فامضِ حتَّى تنزل نخلةً بين مكَّة والطَّائف، فترصد بها قريشًا وتعلم لنا أخبارهم))، فقال عبدالله وأصحابه: سمعًا وطاعةً، فمضوا ولقوا عيرًا لقريش، فقتلوا عمرو بن الحَضرَميَّ في أوَّل يومٍ مِنْ رجب كافرًا، واستأسروا اثنين، وغنموا ما كان / معهم.
          فأنكر عليهم النَّبيُّ صلعم وقال: ((ما أمرتكم بقتالٍ في الشَّهر الحرام))، وقالت قريشٌ: قد استحلَّ محمَّد الشَّهر الحرام، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الآية [البقرة:217]، فهذه أوَّل غنيمةٍ وأوَّل أسيرٍ وأوَّل قتيلٍ قتله المسلمون.
          الثَّالث: لَمَّا ذكر البخاريُّ أوَّلًا قراءة الشَّيخ ثمَّ تلاه بالقراءة والعرض عليه، وهو يشمل السَّماع والقراءة، ثمَّ تلاه بالمناولة والمكاتبة، وكلٌّ منهما قد يقترن به الإجازة وقد لا يقترن، ولم يصرح بالإجازة المجردَّة، ويحتمل أنَّه يرى أنَّها مِنْ أنواع الإجازة، فبوَّب على أعلاها ونبَّه على جنسها.
          والخطيب الحافظ أطلق اسم الإجازة على ما عدا السَّماع، وجعل المناولة والعرض مِنْ أنواعها، واستدلَّ على الإجازة بعين ما استدلَّ به البخاريُّ على المناولة، وهو حديث عبد الله بن جحشٍ فإنَّه ╕ ناوله الكتاب فقرأه على النَّاس، ويجوز لهم روايته عن النَّبيِّ صلعم، لأنَّ كتابته إليهم تقوم مقامه، وجائزٌ للرَّجل أن يقول: حدَّثني فلانٌ كتابةً إذا كتب إليه.
          والمناولة المقرونة بالإجازة لها صورٌ:
          إحداها: أن يدفع الشَّيخ إلى الطَّالب أصل سماعه أو فرعًا مقابلًا به، ويقول: هذا سماعي أو روايتي عنْ فلانٍ فاروِه، أو أجزتُ لك روايته عنِّي، ثمَّ يُملِّكه له أو يأذن له في نسخه ويقابله به.
          ثانيها: أنْ يدفع إليه الطَّالب سماعه، فيتأمَّله وهو عارفٌ به متيقِّظٌ، ثمَّ يعيده إليه ويقول: هو حديثي أو روايتي فاروِه عنِّي، أو أجزتُ لك روايته، وهذا سمَّاه غير واحدٍ مِنْ أئمَّة الحديث عرضًا.
          وقد أسلفنا أنَّ القراءة عليه تُسمَّى عرضًا أيضًا، فليُسمَّ هذا عرض المناولة وذاك عرض القراءة، وهذه المناولة كالسَّماع في القوَّة عند الزُّهريِّ ومالكٍ في آخرين، والصَّحيح أنَّها منحطَّةٌ عن السَّماع والقراءة، وهو قول جماعةٍ، منهم باقي الأربعة.
          ثالثها: أن يناول الشَّيخ الطَّالبَ / سماعه، ويجيزه له، ثمَّ يمسكه الشَّيخ عنده ولا يمكِّنه منه، وهذا دون ما سبق، ويجوز روايته إذا وجدَه أو فرعًا مقابلًا به موثوقًا بموافقته لِما تناوله الإجازة، والمناولة المجرَّدة عن الإجازة بأن يناوله مقتصرًا على: هذا سماعي، فلا تصحُّ الرِّواية بها، وجوَّزها جماعةٌ وذلك كلُّه مبسوطٌ في مختصري في علوم الحديث فراجعه منه فإنَّه يعزُّ نظيره.
          وأمَّا الكتابة المقترنة بالإجازة فكالمناولة، وكذا الكتابة المجرَّدة عند الأكثرين، وأمَّا الإجازة فالأصحُّ جواز الرِّواية والعمل بها، وقد أوضحتها بأقسامها في الكتاب المشار إليه، فراجعه.
          الرَّابع معنى (كَتَبَ): أمر بالكتابة، وسيأتي الخوض في ذلك في موضعه إنْ شاء الله تعالى.