التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من قعد حيث ينتهي به المجلس

          ░8▒ بَاب مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ، وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا.
          66- حدَّثنا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وأمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وأمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلعم قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَن النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؛ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ، فَآوَاهُ اللهُ، وأمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وأمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ).
          الكلام عليه من وجوهٍ:
          أحدها: / هذا الحديث أخرجه البخاريُّ هنا كما ترى، وفي الصَّلاة في باب الحِلَق والجلوس في المسجد، عن عبد الله بن يوسف.
          وأخرجه مسلمٌ في الأدب عن قتيبة، كلاهما عن مالكٍ، وعن أحمد بن المنذر عن عبد الصَّمد بن عبد الوارث عن حرب بن شدَّادٍ عن يحيى بن أبي كثيرٍ، وعن إسحاق بن منصورٍ عن حَبَّان، عن أبان العطَّار عن ابن أبي كثيرٍ، كلاهما عن إسحاق، عن أبي مرَّة يزيد مولى عقيلٍ، عن أبي واقدٍ.
          ثانيها: في التَّعريف برواته:
          أمَّا أبو واقدٍ فهو بالقاف، مشهورٌ بكنيته، وفي اسمه أقوالٌ أصحُّها: الحارث بن عوفٍ، قاله الكلبيُّ، وصحَّحه أبو عمر، ثانيها: عكسه.
          ثالثها: الحارث بن مالكٍ _قاله الواقديُّ_ ابن أسيد بن جابر بن عويرة بن عبد مناف بن شُجَع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن عليِّ بن كِنانة بن خُزيمة اللَّيثيُّ.
          قال أبو عمر عن بعضهم: شهد بدرًا، ولم يذكره موسى بن عقبة، ولا ابن إسحاق فيهم، وذكر بعضهم أنَّه كان قديم الإسلام.
          وقال غيره: أسلم يوم الفتح، وأخبر عن نفسه أنَّه شهد حُنينًا، قال: وكنت حديث عهدٍ بكفرٍ، وهذا يدلُّ على تأخُّر إسلامه، وشهد اليرموك ثمَّ جاور بمكَّة سنةً ومات بها ودُفن بمقبرة المهاجرين.
          له أربعةٌ وعشرون حديثًا، اتَّفقا منها على هذا الحديث، وليس له في «صحيح البخاريِّ» غيره، وانفرد مسلمٌ بحديثٍ آخر، وهو ما كان يقرأ به النَّبيُّ صلعم في الأضحى.
          وقيل: إنَّه وُلد في العام الذي وُلد فيه ابن عبَّاسٍ، وفي هذا وشهوده نظرٌ كما قاله الحافظ عبد الغنيِّ، مات سنة ثمانٍ وستِّين عن خمسٍ وسبعين سنةً.
          فائدةٌ: في الصَّحابة مَنْ يُكنى بهذه الكنية ثلاثةٌ هذا أحدهم، وثانيهم أبو واقدٍ مولى رسول الله صلعم، روى عنه أبو عمر زاذان، وثالثهم أبو واقدٍ النُميريُّ، روى عنه نافع بن سَرْجِس.
          وأمَّا الرَّاوي عنه فهو أبو مرَّة، واسمه يزيد كما سلف، مولى عقيل بن أبي طالبٍ كما ذكره البخاريُّ، وقيل: مولى أخيه، وقيل: مولى أختهما / أمِّ هانئٍ، وكان يلزم عقيلًا فنُسب إلى ولائه، روى عن عمرو بن العاصي وأبي واقدٍ وغيرهما، قال ابن مَنجويه: كان شيخًا قديمًا، وروى عنه زيد بن أسلم وأبو حازمٍ وغيرهما.
          وأمَّا الرَّاوي عنه فهو: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرامٍ الأنصاريُّ النجَّاريُّ ابن أخي أنسٍ لأمِّه.
          كان يسكن دار جدِّه بالمدينة، وهو تابعيٌّ، سمع أباه وعمَّه أنس بن مالكٍ وغيرهما، وثقته متَّفقٌ عليها، وهو أشهر إخوته وأكثرهم حديثًا، وهم: عبد الله ويعقوب وإسماعيل وعمر وعبد الله، وكان مالكٌ لا يقدِّم على إسحاق في الحديث أحدًا، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائةٍ.
          وأمَّا الرَّاوي عنه فهو: إسماعيل ابن أبي أويس، وقد سلف [خ¦33].
          ثالثها: تُتَتبَّع أسماء هؤلاء الثَّلاثة فلم أظفر به.
          رابعها: في ألفاظه:
          (النَّفَر): بفتح الفاء، عدَّة رجالٍ مِنْ ثلاثةٍ إلى عشرة، قاله الجوهريُّ. و(الفُرْجَة): بضمِّ الفاء وفتحها لغتان: الخلل بين شيئين، واقتصر الجوهريُّ وغيره على الضمِّ، وقد فرج له في الصفِّ والحلقة ونحوهما بالتَّخفيف، يفرُج _بضمِّ الرَّاء_ وأمَّا الفَرجة بمعنى الرَّاحة مِنَ الغمِّ فهي بفتح الفاء، وحكى الأزهريُّ وغيره تثليثها، وقد أوضحت ذلك في «الإشارات لغات المنهاج».
          و(الحَلَقَة): بإسكان اللَّام على المشهور، وحُكِي فتحها.
          وقوله: (فَأَوَى إِلَى اللهِ) هو مقصورٌ، وقوله: (فَآوَاهُ اللهُ) هو ممدودٌ هكذا الرِّواية وبه جاء القرآن القصر في اللَّازم والمدُّ في المتعدِّي، قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:10]، {وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون:50]، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى} [الضحى:6] وحكى بعضهم فيهما اللُّغتين القصر والمدَّ، كما حكاه القاضي، والمشهور الفرق.
          وقوله: (فَأَوَى إِلَى اللهِ، فَآوَاهُ اللهُ) هو مِنْ باب المقابلة، وكذا: (فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ)، وكذا: (فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ). كلُّه مِنْ باب المقابلة والمماثلة في اللَّفظ، ومثله في القرآن: {مُسْتَهْزِئُونَ} {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:14-15] {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} [آل عمران:54] والمعنى: جازاهم الله على أفعالهم، فسمَّى / مجازاتهم بمثل أسماء أفعالهم استعارةً ومجازًا.
          ومعنى: (أَوَى إِلَى اللهِ) لجأ إليه، قال القاضي: وعندي أنَّ معناه: دخل مجلس ذكر الله، و(آوَاهُ اللهُ) أي: قرَّبه وقبله، أو آواه إلى جنَّته، وقوله: (فَاسْتَحْيَا) أي: ترك المزاحمة والتَّخطِّي حياءً مِنَ الله ورسوله والحاضرين، أو استحياءً منهم أنْ يعرض ذاهبًا فاستحيا الله منه، أي: رحمه ولم يعاقبه.
          وقوله: (فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ) أي: لم يرحمه، وسخط عليه، وحمله بعضهم على مَنْ ذهب مُعرِضًا لا لعذرٍ، فمن أعرض عن نبيِّه صلعم وزهد فيه فليس بمؤمنٍ، وإن كان هذا مؤمنًا وذهب لحاجةٍ دنيويَّةٍ أو ضروريَّةٍ فإعراض الله عنه ترك رحمته وعفوه، فلا تثبت له حسنةٌ ولا تمحو عنه سيِّئةٌ؛ نبَّه على ذلك القاضي.
          خامسها: فيه مِنَ الآداب جملٌ مستكثرةٌ:
          منها: حلق العلم والذِّكر في المسجد، واستحباب القرب مِنَ الكبير في الحلقة ليسمع كلامه، واستحباب الثَّناء على مَنْ فعل جميلًا، وأنَّ الإنسان إذا فعل قبيحًا أو مذمومًا وباح به جاز أن يُنسب إليه.
          وفيه أيضًا: أنَّ مَنْ جلس إلى حلقة فيها علمٌ أو ذِكْرٌ فهو في كنف الله تعالى وإيوائه، وهو ممَّن تضع له الملائكة أجنحتها، وأنَّ العالم يؤوي المتعلِّم، لقوله ◙: (فَآوَاهُ اللهُ)، وأنَّ مَنْ قصد المعلِّم ومجالسته فاستحيا مِنْ قصده، ولم يمنعه الحياء مِنَ التعلُّم ومجالسة العلماء، أنَّ الله يستحيي منه ولا يُعذِّبه جزاءً باستحيائه، وقدْ قالت عائشة ♦: نعم النِّساء نساء الأنصار لم يمنعهنَّ الحياء أن يتفقَّهنَّ في الدِّين.
          فالحياء المذموم في الفعل هو الذي يبعث على ترك التعلُّم.
          وفيه أيضًا أنَّ مَنْ قصد العلم ومجالسه ثمَّ أعرض عنها فإنَّ الله يعرض عنه، ومَنْ أَعْرَضَ عنه فقد تعرَّض لسخَطِه، ألا ترى قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] وهذا انسلخ مِنْ إيواء الله بإعراضه عنه.
          وفيه: سدُّ الفُرج في حلق / الذِّكر، وقد جاء في سدِّها في صفوف الصَّلاة وفي الصَّفِّ في سبيل الله ترغيبٌ وآثارٌ، ومعلومٌ أنَّ حِلَق الذِّكر في سبيل الله.
          وفيه أنَّ التزاحم بن يدي العالم أفضل مِنْ أعمال البرِّ، ألا ترى قول لقمان لابنه: يا بُنيَّ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإنَّ الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السَّماء.
          وفيه: أنَّ مِنْ حسن الأدب أن يجلس المرء حيث انتهى به مجلسه ولا يُقيم أحدًا، وقد رُوي ذلك عن رسول الله صلعم.
          وفيه: ابتداء العالم جلساءه بالعلم، قبل أن يسأل عنه.
          وفيه: مدح الحياء والثَّناء على صاحبه.
          وفيه: ذمُّ مَنْ زهد في العلم، لأنَّه لا يُحرم أحدٌ عن حلقة رسول الله وفيه خيرٌ.