التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الحياء في العلم

          ░50▒ بَاب الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ
          وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ.
          130- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أخْبرَنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حدَّثنا هِشَامُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هي احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: إِذَا رَأَت الْمَاءَ. فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ _تَعْنِي وَجْهَهَا_ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا).
          131- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
          أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: (إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَه) وذكر الحديث كما سلف.
          أراد البخاريُّ ☼ بهذا الباب بيان أنَّ الحياء المانع مِنْ تحصيل العلم مذمومٌ، ولذلك بدأ بقول مجاهدٍ وعائشة، والحياء الواقع على وجه التَّوقير والإجلال مطلوبٌ حسنٌ كما فعلت أمُّ سلمة حين غطَّت وجهها، وقد أسلفنا في باب أمور الإيمان حقيقة الحياء، وأنَّ المذموم منه ليس بحياءٍ حقيقةً، وإنَّما هو عجزٌ وخَورٌ [خ¦24].
          وحديث أمِّ سلمة سلف التَّعريف برواته خلا زينب بنت أمِّ سلمة.
          وأبوها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُومٍ، كان اسمها برَّة فسمَّاها رسول الله صلعم زينب، ولدتها أمُّها بأرض الحبشة، وقدمت بها، وهي أخت عمر وسلمة ودُرَّة، روى لها البخاريُّ حديثًا، ومسلمٌ آخر، وقُتِل لها يوم الحرَّة ابنان فاسترجعت، ماتت سنة ثلاثٍ وسبعين.
          ثمَّ الكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه البخاريُّ هنا، وفي الطَّهارة والأدب وخلق آدم، كما ستعلمه إن شاء الله تعالى، وأخرجه مسلمٌ والأربعة في الطَّهارة.
          ثانيها: معنى قولها: (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِن الْحَقِّ) أي: لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمنع مِنْ ذكره فتعتذر به، فعبَّر بالحياء عن الأمر به، مِنْ باب إطلاق اسم التعلُّق على المتعلِّق، لأنَّ الله تعالى لا يوصف بالاستحياء على حدٍّ ما يُوصَف به المخلوق، لأنَّه منهم تغيُّرٌ وانكسارٌ بتغيُّر الأحوال، تعالى الله عن ذلك.
          ثالثها: قدَّمت أمُّ سليمٍ هذا القول بسطًا لعذرها في ذكر ما تستحي النِّساء مِنْ ذكره.
          رابعها: معنى: (تَرِبَتْ) افتقرت. يقال: تَرِب الرَّجل إذا افتقر، وأَترَب إذا استغنى، هذا هو المشهور، وهذه الكلمة وشبهها تجري على ألسنة العرب مِنْ غير قصد الدُّعاء، وعليه يُحْمَل كلُّ ما جاء مِنَ الأحاديث مِنْ هذا وشبهه.
          ومنه قوله في حديث خُزَيمة: ((أَنْعِمْ صَبَاحًا تَربِت يداك)) فأراد الدُّعاء له ولم يرد الدُّعاء عليه، والعرب تقول: لا أمَّ لك، ولا أب لك، يريدون: لله درُّك، فتستعمل هذه الألفاظ عند الإنكار على الشَّيء أو التَّأنيب أو الإعجاب أو الاستعظام، دون إرادة معناها الأصليِّ.
          خامسها: أخرج مسلمٌ _منفردًا به_ مِنْ حديث أنسٍ أنَّ أمَّ سليمٍ سألت ذلك بحضرة عائشة، وأنَّ عائشة أنكرت ذلك عليها، فيحتمل كما قال القاضي أنَّ عائشة وأمَّ سلمة كانتا أنكرتا عليها، فأجاب صلعم كلَّ واحدةٍ بما أجاب، وإن ْكان أهل الحديث يقولون: إنَّ الصَّحيح / هنا أمُّ سلمة لا عائشة.
          سادسها: إنَّما قالت أمُّ سلمة ما قالت لأنَّهنَّ يستحيين منه، لأنَّ خروجه منهنَّ يدلُّ على قوَّة شهوتهنَّ، أو لأنَّه يَقِلُّ فِيهنَّ، ولهذا جاء في «صحيح مسلمٍ»: فضحت النِّساء، أي: كشفت مِنْ أسرارهنَّ ما يكنه مِن الحاجة إلى الرِّجال، ورؤية الاحتلام.
          سابعها: الشِّبه والشَّبه واحدٌ يريد: شبه الابن لأحد أبويه كما جاء مبيَّنًا في «الصَّحيح»: ((إذا علا ماؤها ماءه؛ آنَث _أي أشبه أخواله_ وإذا عكس أذكر))، أي أشبه أعمامه.
          ثامنها: استدلَّ به بعضهم على ردِّ مَنْ يقول: إنَّ ماء الرَّجل يخالط دم المرأة، وإنَّ ماءه كالإنْفَحة، ودمها كاللَّبن الحليب.
          تاسعها: أنَّ المرأة تحتلم ويعرف منيُّها بالتدفُّق والتلذُّذ والرَّائحة كمنيِّ الرَّجل، وأنكر جماعةٌ تدفُّقَه، والمسألة مبسوطةٌ في الفروع، وأوضحتها في شروحي.
          عاشرها: أنَّ الحياء لا يمنع مِنْ طلب الحقِّ.
          فائدةٌ: جاء عن جماعةٍ مِنَ الصَّحابيَّات أنَّهنَّ سألن كسؤال أمِّ سليمٍ، منهنَّ خولة بنت حكيمٍ، أخرجه ابن ماجه، وفي إسناده عليُّ بن زيد بن جُدعان وبُسرة، ذكره ابن أبي شيبة، وسهلة بنت سهيلٍ، رواه الطَّبرانيُّ في «الأوسط» وفي إسناده ابن لَهِيعَة.
          وأمَّا حديث ابن عمر فسلف الكلام عليه في باب: قول المحدِّث حدَّثنا وأخبرنا.
          وفيه: حرص الرَّجل على ظهور ابنه في العلم على مَنْ هو أكبر سِنًّا منه، فإنَّ في آخره: (قَالَ عَبدُ اللهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي، فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا).
          وإنَّما تمنَّى ذلك رجاء أن يُسَرَّ النَّبيُّ صلعم بإجابته فيدعو له، وقد كان عمر بن الخطَّاب يسأل ابن عبَّاسٍ وهو صغيرٌ مع شيوخ الصَّحابة.
          وذكر ابن سلامٍ أنَّ الحُطَيئة أتى مجلس عمر فرأى ابن عبَّاسٍ قد نزع النَّاس بلسانه، فقال: مَنْ هذا الذي نزل عن القوم في سنِّه ومدَّته وتقدُّمهم في قوله وحكمته.
وإنَّ كَبِيرَ القَوْمِ لا عِلْمَ عِنْدَهُ                     صَغِيرٌ إذا التفَّت عَلَيْهِ الْمَحَافِلُ
          وفيه: أنَّ الابن العالم الموفَّق أفضل مكاسب الدُّنيا، لقوله: (لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا).