التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله

          ░26▒ باب الرِّحْلَةِ فِى الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ
          الرِّحْلة _بكسر الراء_: الارتحال، وبالضم: الوجهُ الذي يريد.
          88- حَدَّثَنَا محمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الَحسَنِ: أَخْبَرَنَا عبدُ الله: أَخبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ: حَدَّثَنِي عبدُ الله بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الَحارِثِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابنةً لَأبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امرَأةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا.
          فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي وَلَا أَخْبَرْتنِي، فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ _صلعم_ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟) فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، وَنَكَحَت زَوْجًا غَيْرَهُ.
          الكلامُ عليه مِن وجوهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ مِن أفراد البخاريِّ عن مسلمٍ، وانفرد بعُقبةَ بنِ الحارث أيضًا.
          أخرجه هنا كما ترى عن ابن مُقاتلٍ عن عبد الله هو ابن المبارك، وأخرجَه في الشَّهادات عن حَبَّانَ عن ابنِ المبارك وعن أبي عاصمٍ كلاهما عن عمرَ به.
          وفي البُيوع عن محمَّدِ بن كَثِيرٍ عن الثَّوريِّ عن عبدِ الله بنِ عبد الرَّحمن بن أبي حسين، وفي الشَّهادات أيضًا عن عليٍّ عن يحيى بن سعيد عن ابن جُرَيج، ثلاثَتُهم عن ابن أبي مُلَيكةَ به.
          وفي النِّكاح عن عليٍّ عن ابن عُلَيَّةَ عن أيُّوبَ عن ابن أبي مُلَيكةَ عن عُبَيدِ بنِ أبي مريمَ، ثمَّ قَالَ ابن أبي مُلَكيةَ: وسمعته مِن عُقبةَ، ولكنِّي لحديث عُبَيدٍ أَحْفَظُ.
          ثانيها: في التَّعريف برجاله:
          وقد سَلَفَ التَّعريف بهم غيرَ عُمَرَ بنِ سعيدٍ، وعُقبةَ بنِ الحارث.
          فأمَّا عُقبةُ فهو ابنُ الحارِثِ بنِ عامرِ بنِ عَدِيِّ بنِ نَوْفَلِ بنِ عبدِ مَنافٍ القرشيُّ المكِّيُّ، أبو سِرْوَعةَ بكسر السين المهملة، وحكي فتحُها.
          أسلم يوم الفتح وسكَن مكَّة، هذا قولُ أهلِ الحديث، وأمَّا جمهورُ أهل النَّسب فيقولون: عُقبةُ هذا هو أخو أبي سِروَعة، وأنَّهما أسلما جميعًا يومَ الفتحِ، قَالَ الزُّبَير بن بكَّار: وأبو سِرْوَعة هو قاتلُ خُبَيبٍ بن عَديٍّ.
          أخرج لعُقبة مع البخاريِّ أبو داودَ والترمذيُّ والنسائيُّ، أخرجَ له البخاريُّ ثلاثةَ أحاديثَ في العلمِ، والحدودِ، والزَّكاةِ عن ابنِ أبي مُلَكية عنه أحدها هذا، ووافقه أبو داودَ والتِّرمِذيُّ والنَّسائيُّ.
          وذكره بَقيُّ بنُ مَخلَدٍ فيمَنْ رَوى سبعةَ أحاديثَ، وقال أبو عمرَ: لَهُ حديثٌ واحدٌ ما أحفظُ لَهُ غيرَه في شهادة المرأة عَلَى الرَّضاع، روى عنه عُبَيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ وابنُ أبي مُلَيكةَ، وقيل: إنَّ ابن أبي مُلَكيةَ لم يسمع منه وأنَّ بينهما عُبيدَ بن أبي مريمَ.
          تنبيهٌ:
          إيراد صاحب «العُمدة» هذا الحديثَ في كتابه يوهم أنَّه من المتَّفق عليه، وقد نبَّهناك عَلَى أنَّه من أفراد البخاريِّ فاستفدْهُ.
          تنبيهٌ آخرُ:
          ابنةُ أبي إهابٍ هي أمُّ يحيى بنتُ أبي إهابٍ _بكسر الهمزة_ واسمها غَنيَّةُ _بغينٍ معجمةٍ مفتوحةٍ ثم نونٍ ثم مثنَّاةٍ تحتُ ثم هاءٍ_ بنتُ أبي إهابٍ ولا يُعرف اسمُه، ابنِ عَزيزٍ _بفتح العين المهملة وكسر الزاي وليس في البخاريِّ عُزَيز بضم العين ثم زاي_ ابنِ قيس بن سُوَيد بن رَبيعة بن زيد بن عبد الله بن دارِم التميميِّ الدارميِّ.
          تزوَّجها بعد عُقبةَ ضُرَيبُ بنُ الحارث، فولدت له أمَّ قتَّال زوجةَ جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ، فولدت له محمَّدًا ونافعًا.
          وأمُّ أبي إهابٍ: فاختةُ بنتُ عامرِ بنِ نَوفلِ بنِ عبدِ منافِ بنِ قُصيٍّ، وهو حليف لبني نوفلٍ، روى أبو إهابٍ عن النبي _صلعم_ النهيَ عن الأكل متَّكئًا، أخرجه أبو موسى في الصَّحابة، وأغفله أبو عمرَ وابنُ مَنْدَهْ.
          وأمَّا عمرُ: فهو ابنُ سعيدِ بنِ أبي حسينٍ النَّوفليُّ، روى عن طاوُسٍ وعطاءٍ، وعِدَّةٍ، وعنه يحيى القَطَّانُ ورَوحٌ، وخَلْقٌ، وهو ثقةٌ، روى له مع البخاريِّ مسلمٌ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَهْ وأبو داوُدَ في «المراسيل» وهو ابن عمِّ عبدِ الله بنِ عبدِ الرحمن بنِ أبي حسينٍ.
          ثالثها: هذه المرأة لا يحضُرني اسمها بعد البحث عنه.
          رابعها: مَن أخذ بشهادةِ المرضعة وحدَها أخذَ بظاهر الحديث، ومن منع حمَله على الورع دون التَّحريم، كما بوَّب عليه البخاريُّ في البيوع بابَ: تَفْسِيرِ الشُّبُهاتِ، ويُشْعِرُ به قولُه _صلعم_: ((كَيْفَ وَقَدْ قِيْل؟)) والوَرَعُ فيه ظاهرٌ.
          وقَبِلها ابنُ عبَّاسٍ والحسنُ وإسحاقُ وأحمدُ وحدَها، ويُحلَف مع ذلك.
          ولم يقبَلها الشافعيُّ وحدَها، بل مع ثلاثِ نِسوةٍ أخرياتٍ، وقبِلها مالكٌ مع أخرى.
          ولم يقبل أبو حَنيفةَ فيه شهادة النِّساء المتمحِّضات مِن غير ذكَرٍ.
          وقال الإصطَخْريُّ: إنَّما يثبت بالنِّساء المتمحِّضات.
          وفي الحديث شهادةُ المرضعةِ على فعلِ نفسِها، وقال أصحابنا: لا تُقبل، وكذا إنْ ذَكرتْ أجرةً على الأصحِّ للتُّهمةِ.
          وقيل: تُقبَل في ثُبوت الْمَحْرَميَّة دونَ الأُجرة، وإن لم تُذكر أجرةٌ فالأصحُّ قَبولُ شهادتِها، فإنها لم تجرَّ لنفسها نفعًا، ولم تدفع ضررًا، وقيل: لا تُقبل أيضًا كما لو قالت: أشهد أنِّي ولدته.
          وادَّعى ابنُ بطَّال الإجماعَ على أنَّ شهادةَ المرأةِ الواحدةِ لا تجوز في الرَّضاع وشبهه.
          وهو غريبٌ عجيبٌ / فقد قَبِلَها جماعةٌ كما أسلفناه، وقَبِلَها مالكٌ وحدَها، بشرطِ أن يَفْشُوَ ذلك في الأهل والجيران، فإنْ شَهِدَتِ امرأتانِ شهادةً فاشيَةً فلا خلافَ في الحكم بها عنده، وإنْ شَهِدَتا مِن غيرِ فُشُوٍّ أو شَهِدَتْ واحدةٌ معَ الفشوِّ ففيه قولان.
          وفيه أيضًا الرِّحلةُ في المسألة النَّازلة كما تَرْجَم له، وهو دالٌّ على حِرْصِهم على العلمِ وإيثارِهم ما يقرِّبهم مِن الله _تعالى_ والازديادِ مِن طاعته، لأنَّهم إنَّما كانوا يَرغبون في العلم للعمل به، ولذلك شهد الله _تعالى_ لهم أنَّهم خيرُ أمَّةٍ أُخرجت للنَّاس.