التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}

          ░47▒ بَاب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]
          125- حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ، حدَّثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حدَّثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبدِ اللهِ قَالَ: (بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلعم فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِن الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ، لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ قَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أوتوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]).
          قَالَ الْأَعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا.
          الكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه البخاريُّ هنا كما ترى، وأخرجه في التَّوحيد عن موسى بن إسماعيل عن عبد الواحد، وفي التَّفسير عن عمر بن حفصٍ عن أبيه، وفي الاعتصام في باب: ما يكره مِنَ السُّؤال وتكلُّف ما لا يعنيه عن محمَّد بن عبيد بن ميمون عن عيسى بن يونس، وفي التَّوحيد أيضًا عن يحيى عن وكيعٍ.
          وأخرجه مسلمٌ في الرَّقاق عن عمر بن حفصٍ عن أبيه، وعن أبي بكرٍ والأشجِّ عن وكيعٍ. وعن ابن إسحاق وابن خَشْرم عن عيسى، كلُّهم عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة به، وجاء فيه في الاعتصام: لا تسألوه لا يُسمِعكم ما تكرهون.
          ثانيها: في التَّعريف برواته: وقد سلف بهم، خلا شيخ البخاريِّ قيس بن حفص بن القَعقَاع الدَّارميِّ، وعنه أبو زرعة وغيره، وهو شيخٌ لا بأس به، وانفرد به البخاريُّ عن باقي الكتب السِّتَّة، وليس في مشايخه مَنِ اسمه قيسٌ سواه، مات سنة سبعٍ وعشرين ومائتين.
          ثالثها: في ألفاظه ومعانيه:
          الأولى: (خِرَبِ) بالخاء المعجمة المكسورة وفتح الرَّاء وعكسه، والباء في آخره، قال القاضي عياضٌ: كذا رواه البخاريُّ هنا، ورواه في غير هذا الموضع ((حَرثِ)) بالحاء المهملة والثَّاء المثلَّثة، وكذا رواه مسلمٌ في جميع طرقه وصوَّبه بعضهم. /
          الثانية: العسيب جَريد النَّخل، وهو عود قضبان النَّخْل يَكْشُطون خُوصها ويتَّخذونها عصيًّا، والمعنى: معتمدٌ على جريدة نخلٍ، وكانوا يكتبون في طرفه العريض منه، ومنه قوله: فجعلت أتتبَّعه في العُسُب، يعني: القرآن.
          الثَّالثة: قوله: (لَا تَسْأَلُوهُ، لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ)، يجوز فيه النَّصب على معنى: لا تسألوه إرادة أن لا يجيء فيه، و(لا) زائدةٌ، وهذا ماشٍ على مذهب الكوفيِّين، والجزم على الجواب تقديره: أنْ لا تسألوه لا يجيء فيه بشيءٍ، فالأوَّل سببٌ للثَّاني، وجوَّز بعضهم الرَّفع على القطع.
          الرَّابعة: (الرُّوحُ) يذكَّر ويؤنَّث واختلف هل الرُّوح والنَّفس واحدٌ أم لا؟ والرُّوح جاء في القرآن على معانٍ، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:193]، وقال جلَّ وعزَّ: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] وقال ╡: {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] وقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} [النبأ:38].
          قيل: وسؤالهم عن روح بني آدم، لأنَّ في التَّوراة أنَّه لا يعلمه إلَّا الله، فقالوا: إن فسَّرها فليس بنبيٍّ فلذلك لم يجبهم.
          وقال القاضي عياضٌ وغيره: اختلف المفسِّرون في الرُّوح المسؤول عنها فقيل: سألوه عن عيسى فقال لهم: الرُّوح مِنْ أمر الله، أي: لا كما تقوله النَّصارى، وكان ابن عبَّاسٍ يكتم تفسيره.
          وعنه وعن عليٍّ: هو ملكٌ من الملائكة يقوم صفًّا وتقوم الملائكة صفًّا، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ:38]، وقيل: جبريل ◙، وقيل: القرآن، لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52].
          وقال أبو صالحٍ: هو خلقٌ كخلق بني آدم ليسوا ببني آدم لهم أيدٍ وأرجلٌ، وقيل: طائفةٌ مِنَ الخلق لا ينزل ملكٌ إلى الأرض إلَّا نزل معه أحدهم، وقيل: ملكٌ له أحد عشر ألف جناحٍ، وألف وجهٍ، يسبِّح الله إلى يوم القيامة.
          وقيل: علم الله أنَّ الأصلح لهم أنْ لا يخبرهم ما هو، لأنَّ اليهود قالوا: إن فسَّر الرُّوح فليس بنبيٍّ، وهذا معنى قوله: لا تسألوه لا يجيء فيه بشيءٍ تكرهونه، فقد جاءهم ذلك، لأنَّ عندهم في التَّوراة كما ذكر لهم أنَّه مِنْ أمر الله لن يطَّلع عليه أحدٌ.
          وذكر ابن إسحاق أنَّ نفرًا مِنَ اليهود قالوا: يا محمَّد، أخبرنا عن أربعٍ نسألك عنهنَّ، وذكر الحديث، وفيه: فقالوا: يا محمَّد، أخبرنا عن الرُّوح قال: ((أنشدكم بالله هل تعلمون جبريل، وهو الذي يأتيني؟)) قالوا: اللهُمَّ نعم، ولكنَّهُ يا محمَّد لنا عدوٌّ، وهو ملكٌ يأتي بالشِّدَّة وبسفك الدِّماء، ولولا ذلك لاتَّبعناك، فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} [البقرة:97]، وهذا يدلُّ على أنَّ سؤالهم عن الرُّوح الذي هو جبريلٌ ◙ كما قال بعضهم.
          قال أكثر العلماء: وليس في الآية دليلٌ على أنَّ الرُّوح لا تعلم، ولا أنَّه صلعم لم يكن يعلمها.
          فرعٌ: أمَّا روح ابن آدم فالكلام عليه ممَّا يدقُّ كما قال المازريُّ وقد أفرد بتواليف، وأشهرها: ما قاله الأشعريُّ: أنَّه النَّفس الدَّاخل والخارج.
          وقال القاضي أبو بكرٍ: هو متردِّدٌ بين ما قاله الأشعريُّ وبين الحياة. وقيل: جسمٌ مشاركٌ الأجسام الظَّاهرة والأعضاء الظَّاهرة. وقيل: جسمٌ لطيفٌ خلقه الباري سبحانه وتعالى وأجرى العادة بأنَّ الحياة لا تكون مع فقده، فإذا شاء الله تعالى موته أعدم هذا الجسم منه عند إعدام الحياة.
          وهذا الجسم وإن كان حيًّا فلا يحيا إلَّا بحياةٍ تختصُّ به، وهو ممَّا يصحُّ عليه البلوغ إلى جسمٍ ما مِنَ الجسم، ويكون في مكانٍ في العالم، أو في حواصل طيرٍ خضرٍ إلى غير ذلك ممَّا وقع في الظَّواهر إلى غيره مِنْ جواهر القلب، والجسم الحياة، وقيل: إنَّه الدَّم، وذكر بعضهم فيه سبعين قولًا.
          الخامسة: قوله: ({وَمَا أُوتُوا}) كذا جاء في هذه الرِّواية، وبيَّنه البخاريُّ بقول الأعمش: هي كذا في قراءتنا، وكذا هو في أكثر نسخ البخاريِّ ومسلمٍ، وذكر مسلمٌ الاختلاف في هذه اللَّفظة عن الأعمش فرواه وكيعٌ على القراءة المشهورة: {ومَا أُوتِيتُمْ} [الإسراء:85]، ورواه عيسى بن يونس عنه {وَمَا أُوتُوا}، واختلف المحدِّثون فيما وقع مِنْ ذلك، فذهب بعضهم إلى إصلاحه على الصَّواب، لأنَّه إنَّما قصد به الاستدلال على ما سيق بسببه ولا حُجَّة إلَّا في الثَّابت في المصحف.
          وقال قومٌ: تترك على حالها وينبَّه عليها، لأنَّ مِنَ البعيد خفاء ذلك على المؤلِّف، ومَنْ نقل عنه وهلُّم جرَّا فلعلَّها قرئت شاذَّةً ووهَّاه القاضي عياضٌ، نعم لا يحتجُّ به في حُكمٍ ولا يُقرأ به في صلاةٍ.
          قال: واختلف أصحاب الأصول فيما نقل آحادًا ومنه القراءة الشَّاذَّة كمصحف ابن مسعودٍ وغيره، هل هو حُجَّةٌ أم لا؟ فنفاه الشَّافعيُّ وأثبته أبو حنيفة، وبنى عليه وجوب التَّتابع في كفَّارة اليمين بمَا نقل عن مصحف ابن مسعودٍ مِنْ قراءة: (ثلاثة أيَّامٍ متتابعاتٍ) وبقول الشَّافعيِّ قال الجمهور، واستدلوا له بأنَّ الرَّاوي له إن ذكره على أنَّه قرآنٌ فخطأٌ، وإلَّا فهو متردِّدٌ بين أن يكون خبرًا أو مذهبًا له، فلا يكون حُجَّةً بالاحتمال، ولا خبرًا لأنَّ الخبر ما صرَّح به الرَّاوي بالتَّحديث، فيُحْمل على أنَّه مذهبٌ له.
          وقال أبو حنيفة: إذا لم يثبت كونه قرآنًا فلا أقلَّ مِنْ أن يكون خبرًا. وجوابه: أنَّ الرَّاوي لم يأتِ بها على وجه الخبر.
          السَّادسة: قال المهلَّب: هذا يدلُّ على أنَّ مِنَ العلم أشياء لم يُطْلِع الله عليها نبيًّا ولا غيره، أراد الله تعالى أن يختبر بها خلقه فيوقفهم على العجز عن علم ما لا يدركون حتَّى يضطرُّهم إلى ردِّ العلم إليه، ألا تسمع إلى قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فعلم الرُّوح ممَّا لم يشأ الله تعالى إطلاع أحدٍ مِنْ خلقه عليه.