التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الإنصات للعلماء

          ░43▒ بَاب الْإِنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ
          121- حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حدَّثنا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ جَرِيرٍ ((أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: اسْتَنْصِتِ النَّاسَ، فَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).
          الكلام عليه مِن أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه البخاريُّ في أربعة مواضع:
          هذا أحدها.
          وثانيها: في المغازي عن حفصِ بنِ عُمرَ.
          ثالثها: في الفتن عن سليمان. كلاهما عن شُعبة به.
          رابعها: في الدِّيات عن بُندارٍ عن غُندَرٍ عن شُعبة، وعنْ عُبَيدِ اللهِ بنِ معاذٍ عنْ أبيه عنْ شُعبةَ به، وهذا أنزلُ من الأوَّل بدرجةٍ.
          وأخرجه مسلمٌ في الإيمان عنْ أبي بكر بنِ أبي شَيبة عنْ غُندَرٍ عنْ شُعبةَ، وعنِ ابنِ المثنَّى وابنِ بشَّارٍ عن غُندَرٍ به.
          وهو قطعةٌ مِن حديث أبي بَكْرةَ الطَّويل، ذكره البخاريُّ في الخطبة أيام منًى، ومسلمٌ في الجنايات، وقد سلف قطعةٌ من حديث أبي بكرةَ في باب: ربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامعٍ [خ¦67]، وغيره.
          ثانيها: في التَّعريف برواته غيرِ مَن سلف.
          وحجَّاجٌ هو: ابن مِنهالٍ، وأبو زُرْعةَ هو: هَرِمٌ، وعليُّ بنُ مُدركٍ هو: أبو مُدرِكٍ النَّخَعيُّ الكوفيُّ الصَّالح الصَّدوق، ثقةٌ، عنه شُعبةُ، مات سنة عشرين ومئةٍ.
          ثالثها: في معانيه وضبط ألفاظه:
          سمِّيت حجَّةَ الوداع؛ لأنه _صلعم_ ودَّعهم فيها، وعلَّمهم أمر دينهم، وأوصاهم بتبليغ الشَّرع لمن غاب عنه بقوله: ((لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ))، والقياس في الحَجَّة الفتحُ؛ لكونه اسمًا للمرَّة لا للهيئة، والمسموع: الكسر، قال الهرويُّ وغيره: هو المسموع في واحدِه.
          وحضور جَريرٍ حَجَّة الوداع يدلُّ على تقدُّم إسلامه، فإنَّه قيل: أسلم في رمضان سنة عشرٍ وقد أسلفنا أنَّه قيل: أسلم قبل وفاته _صلعم_ بأربعين يومًا.
          ومعنى (لا تَرْجِعُوا): لا تصيروا، قال ابن مالكٍ: رجعَ هنا بمعنى: صار.
          وقوله: (بَعْدي) أي: بعد فراقي من موقفي هذا، قاله الطَّبَريُّ.
          وقال غيره: (بَعْدِي) أي: خلافي، أي: لا تخلفوني في أنفسكم بعد الَّذي أمرتكم به، ويحتمل أنَّه _صلعم_ علم أنَّ هذا لا يكون في حياته فنهاهم عنه بعد وفاته.
          وقوله: (يَضْرِبُ) هو برفع الباء على الصواب، وهو الرِّواية، أي: لا تفعلوا فِعْلَ الكفَّار، فتُشبَّهوا بهم في حالة قتل بعضهم بعضًا، ومحاربة بعضهم بعضًا، وهذا أَولى الوجوه في تأويله كما قاله القاضي.
          وقد جرى بين الأنصار كلامٌ بمحاولة اليهود حتَّى ثار بعضهم إلى بعضٍ في السِّلاح، فأنزل الله _تعالى_: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللهِ} [آل عمران:101] أي: تفعلون فِعْلَ الكفَّار، وسياق الخبر دالٌّ على أن النَّهي عن ضرب الرِّقاب وعمَّا قبلَه بسببه كما جاء في حديث أبي بَكْرَة: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ)) وذكر الحديث، ثمَّ قال: ((لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا...)) الحديث.
          فهو شرحٌ لما تقدَّم من تحريم بعضِهم على بعض، وفيه ستَّةُ أقوالٍ أُخَرَ:
          أحدُها: أنَّه كُفرٌ على بابه في حقِّ الْمُسْتَحِلِّ لغير الحقِّ.
          وثانيها: أنَّ المرادَ كفرُ النِّعمة وحقِّ الإسلام.
          ثالثها: أنَّه يقرِّب مِن الكفر ويؤدِّي إليه.
          رابعها: لا تَكْفروا حقيقةً، بل دُوموا مسلمين.
          خامسها: أنَّ المراد بالكفَّار: المتكفِّرون في السِّلاح، يقال: تكفَّر الرَّجل بسلاحه إذا لبسَه، حكاه الخطَّابيُّ.
          سادسها: لا يكفِّر بعضُكم بعضًا، فتستحلُّوا قتال بعضكم بعضًا.
          ومن سكَّن الباء أحال المعنى؛ لأنَّ النَّهي على هذا التَّقدير يكون عن الكفر مجرَّدًا، وضربُ الرِّقاب جوابُ النَّهي ومجازاة الكفر، وسياقُ الخبر كما سلف يأباه، وجوَّزه أبو البقاء وابنُ مالكٍ على تقديرِ شرطٍ مضمَرٍ، أي: إن ترجعوا يضرِبْ.
          رابعها في فوائده:
          فيه التَّصريحُ بما بوَّب عليه البخاريُّ من الإنصات للعلماء، فإنَّه توقيرٌ لهم، وكيف لا وهم ورثةُ الأنبياء؟ وقد أمر الله _تعالى_ ألَّا يُرفعَ الصَّوت فوق صوت النَّبيِّ _صلعم_ خوفَ حُبوط العمل.
          وفيه أيضًا تحذير الأمَّة منْ وقوع ما يُحذر فيه.
          وتعلَّق به بعض أهل البدع في إنكار حُجِّيَّة الإجماع كما قاله المازريُّ؛ لأنَّه نهى الأمَّة بأسرها عن الكفر، ولولا جواز إجماعها عليه لما نهاها.
          والجواب: أنَّ الامتناع إنَّما جاء من جهة خبر الصَّادق _╕_ لا مِن الإمكان، وقد قال الله _تعالى_: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، ومعلومٌ أنَّه معصومٌ.