التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر

          ░16▒ بَاب مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى (فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ ♂) /
          وَقَوْلِهِ: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي} الآية [الكهف:66].
          74- حدَّثنا محمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهريُّ، حدَّثنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حدَّثنا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَن ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَ أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، عَن ابن عبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى ◙، فقَالَ ابن عبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابن عبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ يَقُولُ: ((بَيْنَما مُوسَى فِي مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا. قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:63-64] فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللهُ _تَعَالَى_ فِي كِتَابِهِ).
          الكلامُ عليه مِن وجوهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجَه البخاريُّ في مَواضعَ فوقَ العَشَرةِ، أخرجَه هنا كما ترى، وفي أَحَادِيْثِ الأَنْبِياءِ عن عَمرِو بنِ محمَّدٍ، وفي العِلْمِ أيضًا عن خالدِ بنِ خَلِيٍّ عن محمَّدِ بن حَرْبٍ، وفي التَّوحيدِ عنْ عبدِ اللهِ بنِ محمَّدٍ عنْ أبي عَمرٍو كلاهما عن الأَوْزاعيِّ عن الزُّهْريِّ به.
          وفي أَحاديثِ الأَنبياءِ أيضًا عن عليِّ بنِ الْمَدِينِيِّ، وفي النُّذورِ والتَّفسيرِ عن الحُمَيديِّ، وفي التَّفسيرِ أيضًا عنْ قُتَيبةَ، وفي العِلْمِ أيضًا عن عبدِ الله بنِ محمَّدٍ عن ابن عُيَيْنةَ عن عَمرِو بن دِينارٍ عن سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ مختصَرًا، وفي التَّفسيرِ والإجارة والشُّروطِ عن إبراهيمَ بنِ موسى عن هشامِ بنِ يوسُفَ عن ابن جُرَيْجٍ عن يَعلى بنِ مُسْلِمٍ، وعَمرِو بن دِينارٍ عن سعيدٍ به.
          وأخرجه مسلمٌ في أَحاديثِ الأنبياءِ عن حَرْمَلةَ عن ابن وَهْبٍ عن يونُسَ عن الزُّهْريِّ به، وعن عَمرٍو النَّاقِدِ وابنِ راهَوَيْهِ وعُبيدِ الله بنِ سعيدٍ وابنِ أبي عُمرَ عن ابنِ عُيَيْنةَ عن عَمرِو بن دِينارٍ عن ابنِ جُبَيرٍ، وعن النَّاقد أيضًا، وعن محمَّدِ بنِ عبدِ الأعلى عن مُعتمِرٍ عن أبيه عن رَقَبَةَ عن أبي إسحاقَ عن ابنِ جُبَيْرٍ به.
          الوجهُ الثَّاني: في التَّعريفِ برُواتِه غير مَن سَلَفَ:
          فأمَّا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ فهو أبو يوسُفَ يعقوبُ بنُ إبراهيمَ بنِ سَعْدِ بنِ إبراهيمَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ الزُّهْريُّ الوَرِعُ الحُجَّةُ، روى عن أبيه وشُعْبَةَ، وعنه أحمدُ وغيرُه، مات سنةَ ثمانٍ ومئتين بِفَمِ الصِّلْحِ.
          وأمَّا محمَّدُ بنُ غُرَيرٍ فوالدُه _بغينٍ معجَمةٍ ثم راءٍ مهملةٍ مكرَّرةٍ بينهما ياءٌ مثنَّاةٌ تحتُ_ وهو أبو عبد الله محمَّد بنُ غُرَيرِ بنِ الوليدِ بنِ إبراهيمَ بنِ عبدِ الرَّحمن بنِ عَوْفٍ الْمَدَنيُّ يُعرف بالغُرَيْرِيِّ.
          قال البخاريُّ: هو مَدَنيٌّ، وقال غيرُه: هو مِن أهلِ سَمَرْقَنْدَ، رَوى عن يعقوبَ بنِ إبراهيمَ الزُّهْريِّ، ومُطرِّفِ بنِ عبدِ الله، وعنه البخاريُّ وغيرُه.
          قال الكَلابَاذِيُّ: أخرجَ له البخاريُّ في ثلاثةِ مواضعَ: هنا، وفي الزَّكَاةِ، وفي بني إسرائيلَ، ولم تُخْرِجْ له باقي الكتب الستَّة فهو مِن الأفراد.
          الوجه الثَّالث: في الأسماءِ الواقعةِ في أثنائِه:
          أما موسى _صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه_ فهو موسى بنُ عِمرانَ بنِ يَصْهَرَ بنِ قاهَثَ بنِ لاوِيَ، وقيل: عِمران، وهو: عَمْرَمُ بنُ قاهَثَ بنِ يَصْهَرَ بنِ عازَرَ بنِ لاوِيَ بنِ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ صلَّى الله عليهم، ومُوْسَىْ مُفْعَلٌ، فهو مصروفٌ في النَّكِرَةِ، قاله أبو عَمرِو بنُ العَلاءِ، قال الكِسائيُّ: هو فُعْلَى، والنِّسبةُ إليه مُوْسَوِيٌّ، ومُوْسِيٌّ فيمن قال: يُمْنيٌّ.
          وكان عُمْرُ عِمرانَ حين تُوفِّي مئةً وسبعةً وثلاثين سنةً، قال أهلُ التَّاريخ: لَمَّا مات الرَّيَّانُ بنُ الوليدِ فِرْعَونُ مصرِ الأوَّلُ صاحبُ يوسُفَ الذي ولَّاه الخزائنَ وأسلمَ على يدِه، ومَلَكَ قَالُوسُ صاحبُ يوسُفَ الثَّاني، دعاه يوسُفُ _◙_ فلم يُسلم، ثمَّ هَلَكَ، فمَلَكَ بعدَه أخوه الوليدُ بنُ مُصْعَبٍ، وكان أَعتى مِن أخيه، وكَثُرَ أولادُ بني إسرائيلَ بعدَ يوسُفَ، وأقاموا بمصرَ تحتَ أيدي العَمالقةِ، وهم على بقايا مِن دينهم ممَّا كان يوسُفُ ويعقوبُ وإسحاقُ وإبراهيمُ شَرَعُوه لهم متمسِّكين به، حتى كان فرعونُ موسى الذي بعثه الله إليه، ولم يكن في الفراعنة أعتى منه، ولا أطولُ عُمرًا في الْمُلكِ منه، عاش فيهم أربعَ مئةِ سنةٍ.
          ومرَّ _صلعم_ ليلةَ أُسري به على موسى في السَّماء السَّادسة، ووصفه فقال: ((هو آدمُ طُوالٌ جَعْدٌ، كأنَّه مِن رجال شَنُوءةَ)) كما هو ثابتٌ في«الصَّحيحين»، وشَنُوءةُ مِن الأزْد، سُمُّوا به لأنَّهم تَشَانَؤُوا، أي: تَباعَدوا وتَباغَضوا.
          وفي «الصحيح» أيضًا في صفته أنَّه ((ضَرْبٌ مِن الرِّجال)) أي: جسمُه ليس بالضَّخم ولا بالضَّئيل.
          والجَعْدُ المراد به جُعُودةُ الجسمِ لا الشَّعْرِ، وقد قيل في قوله _تعالى_: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة:23] أي لقاءِ موسى ليلةَ الإسراء، قاله قَتَادةُ، والهاء على هذا عائدةٌ على موسى، وقال الحسن: المعنى {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [السجدة:23] فأوذي وكُذِّب {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ} إنَّك ستلقى مثل ما لقيَه مِن ذلك.
          وفي «الصحيحين»: ((يَرْحَمُ اللهُ أَخِي مُوْسَى قَدْ أُوْذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ)).
          والآياتُ التِّسعُ المذكورة في القرآن هي: العصا واليدُ البيضاء والطُّوفان والجرادُ والقُمَّلُ والضَّفادعُ والدَّمُ والطَّمْسةُ وفَلقُ البحر، يجمعها:
عَصًا يَدٌ وجَرادٌ قُمَّلٌ ودَمٌ                     طُوفَانُ ضِفْدَعُ جَدْبٌ نَقصُ تَثميرِ
          قال الثَّعلبيُّ: وكان عُمْرُ موسى _◙_ حين تُوفِّي مئةً وعشرين سنةً، ولما كَبِرَ موسى قَتَلَ القِبْطيَّ، ثمَّ خرج خائفًا، فلمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ جرى له ما قصَّ اللهُ في كتابه.
          قال بعضُهم: ولم يَقْرَبِ امرأةً للاستمتاعِ مِنْ حين سمِعَ كلامَ الربِّ جلَّ جلالُه، ومكَث بعد أنْ كُلِّم أربعين ليلةً لا يراه أحدٌ / إلا مات مِن النُّور.
          وأما الخَضِر فالكلام عليه في مواضعَ:
          أحدُها: في ضَبْطِه؛ وهو بفتحِ أوَّلِه وكسرِ ثانيهِ، ويجوز كسرُ أوَّلِه وإسكانُ ثانيهِ، كمَا في كِبْدٍ.
          ثانيها: في سبب تسميته بذلك؛ وسيأتي في «صحيح البخاريِّ» مِن حديثِ همَّامِ بنِ مُنبِّهٍ عن أبي هُرَيرَةَ مرفوعًا: ((إنَّما سمِّي الخَضِر لأنَّه جلسَ على فَرْوةٍ فإذا هي تهتزُّ مِن خلفِه خضراءَ)).
          والفَرْوة: الأرضُ اليابسةُ أو الحشيشُ اليابسُ، قال ابن فارسٍ: الفَروة: كلُّ نباتٍ مجتمعٍ إذا يَبِسَ.
          وقال الخطَّابيُّ: الفَروةُ وجهُ الأرضِ أنبتَتْ واخضرَّتْ بعدَ أنْ كانتْ جَرْداءَ، وفيه قولٌ آخرُ: لأنَّه إذا جلس اخضرَّ ما حولَه، قاله عِكْرِمَةُ، وقولٌ آخرُ أنَّه إذا صلَّى اخضرَّ ما حولَه.
          ثالثُها: في اسمِه؛ وفيه خمسةُ أقوالٍ:
          أحدُها: بَلْيا _ببَاءٍ موحَّدةٍ مفتوحةٍ ثمَّ لامٍ ساكنةٍ ثمَّ مثنَّاةٍ تحتُ_ ابنُ مَلْكانَ _بفتحِ الميمِ وسكونِ اللام_ ابنِ فالَغَ بنِ عابَرَ بنِ شالَخَ بنِ أَرْفَخْشَذَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ ◙، حكاه ابنُ قُتَيبةَ عن وَهْبِ بنِ مُنبِّهٍ.
          وحكى ابنُ الجَوزيِّ عن وَهْبٍ: إِيْلِيَا بدلَ بَلْيَا، فهذا قولٌ آخرُ، وكان أبوه مِن الملوك.
          ثانيها: الخَضِرُ بنُ عامِيلَ، قاله كَعْبُ الأَحبارِ.
          ثالثُها: إِرْمِيَا بنَ خِلْقِيَا، قاله ابنُ إسحاقَ، ووهَّاهُ الطَّبَرِيُّ بأنَّ إِرْمِيَا كان في زمنِ بُخْتُنَصَّرَ؛ وبينَ عَهدِ موسى وبُخْتُنَصَّرَ زمنٌ طويلٌ.
          رابعُها: إِلْياسُ، قاله يحيى بنُ سلَّامٍ، ووهَّاه ابنُ الجَوزيِّ.
          خامسُها: اليَسَعُ، قاله مُقاتِلٌ، وسُمِّي بذلك لأنَّ علمَه وسِع ستَّ سماواتٍ وستَّ أَرَضِيْنَ، ووهَّاه ابنُ الجَوزيِّ أيضًا، واليَسَع اسمٌ أعجميٌّ ليس بمشتقٍّ.
          وفيه قولٌ سادسٌ: أنَّ اسمَه أحمدُ، حكاه القُشَيريُّ ووهَّاه ابنُ دِحيةَ بأنَّه لم يتسمَّ أحدٌ قبل نبيِّنا _صلعم_ بذلك.
          وسابعٌ: أنَّ اسمَه عامرٌ، حكاه ابن دِحيةَ في كتابِه «مرج البحرين».
          وثامنٌ: أنَّه خَضْرُونُ بنُ قابيلَ بنِ آدمَ، حكاه هو أيضًا، وقيل: إنَّه أبو العبَّاس.
          رابعها: في أيِّ وقت كان؟
          روى الضَّحَّاك عن ابن عبَّاسٍ قال: الخَضِرُ ابنُ آدم لصُلْبِه، وقال الطَّبريُّ: إنَّه الرَّابعُ مِن أولاده، وقيل: إنَّه مِن ولدِ عِيصٍ، حكاه ابن دِحْيةَ.
          وروى الكلبيُّ عن أبي صالحٍ، عن ابن عبَّاسٍ أنَّه مِن سبطِ هارونَ، وكذا قال ابنُ إسحاقَ، وروى محمَّدُ بنُ أيُّوبَ عن ابنِ لَهِيعَةَ أنَّه ابنُ فرعونِ موسى، وهذا بعيدٌ؛ ابن لَهِيعةَ وابنُ أيُّوبَ مطعونٌ فيهما.
          وقال عبد الله بن شَوذَبَ: إنَّه مِن ولدِ فارسَ.
          وقال الطَّبريُّ: كان في أيَّام أَفْريدونَ، قال: وقيل كان على مقدِّمة ذي القَرنين الأكبرِ الذي كان أيَّامَ إبراهيمَ الخليلِ.
          وذو القَرنينِ عند قومٍ هو أَفْرِيدُونُ، وقال بعضُ أهلِ الكتاب: إنَّه ابنُ خالةِ ذي القَرنَين ووزيرُه، وإِنَّه شربَ مِن ماءِ الحياة، وذكر الثَّعلبيُّ أيضًا اختلافًا هل كان في زمنِ إبراهيمَ الخليلِ أم بعدَهُ بقليلٍ أو بكثيرٍ؟ وذَكر بعضُهم أنَّه كان في زمنِ سليمانَ وأنَّه المراد بقوله: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل:40] حكاه الداوُدِيُّ.
          خامسُها: اختُلِف هل كان وليًّا أو نبيًّا؟ على قولين، وبالأوَّل جَزم القُشَيْرِيُّ.
          واختُلِف أيضًا هل كان مرسَلًا أم لا؟ على قولين، وأغربُ ما قيل أنَّه مِن الملائكة، والصَّحيح أنَّه نبيٌّ وجَزم به جماعةٌ.
          وقال الثَّعلبيُّ: هو نبيٌّ على جميع الأقوال، مُعمَّرٌ محجوبٌ عن الأبصار، وصحَّحه ابنُ الجَوزيِّ أيضًا في «كتابه» فيه؛ لقوله _تعالى_ حكايةً عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] فدلَّ على أنَّه نبيٌّ أُوحِي إليه؛ ولأنَّه أعلمُ مِن موسى، أي في علمٍ مخصوصٍ، ويبعُدُ أن يكون وليٌّ أعلمَ مِن نبيٍّ، وإن كان يحتمل أن يكون أُوحي إلى نبيٍّ في ذلك العصرِ يأمُر الخَضِر بذلك.
          سادسها: في حياته؛ وقد أنكرَها جماعةٌ منهم: البخاريُّ وإبراهيمُ الحربيُّ وابن الْمُنادَى، وأفردَها ابنُ الجَوزيِّ بالتَّأليف، والمختارُ بقاؤُها.
          قال ابنُ الصَّلاح: هو حيٌّ عند جماهير العلماء والصَّالحين، والعامَّةُ معهم في ذلك، وإنمَّا شذَّ بإنكارها بعضُ المحدِّثين.
          ونقله النَّوويُّ عن الأكثرين، وقيل: إِنَّه لا يموت إلا في آخرِ الزَّمان حتى يُرفعَ القرآنُ، وفي «صحيح مسلمٍ» في حديث الدجَّال أنَّه يقتُل رجلًا ثم يُحْييه، قال إبراهيمُ بنُ سفيانَ راوي «كتاب مسلمٍ»: يقال إنَّه الخَضِر، وكذلك قال مَعمَرٌ في في «مُسْنَدِه».
          وأما الحُرُّ بنُ قيسٍ فهو _بحاءٍ مهمَلةٍ_ ابنُ حِصْنِ بنِ حُذَيفةَ بنِ بَدْرٍ الفَزاريُّ، ابنُ أخي عُيَيْنَةَ، له وِفادةٌ، وكان مِن جُلَساءِ عُمَرَ، واستأذَنَ لِعَمِّهِ.
          وأمَّا أُبَيُّ بنُ كَعْبِ بنِ قَيْسٍ فهو أبو الْمُنذِر، أَقرأُ الأمَّةِ.
          الوجه الرَّابع:
          فتى موسى هو: يُوشَعُ بنُ نُونِ بنِ أَفْرايِمَ بنِ يوسُفَ، كذا ذكرَه القُتَبيُّ، وقال مُقاتلٌ: يُوْشَعُ بنُ نُونِ بنِ اليشَايعَ بنِ عَيْهودَ بنِ عَيْزَارَ بنِ شوتلخَ بنِ أَفرايِمَ بنِ يوسُفَ.
          والصَّخرةُ: هي التي دونَ نهر الزَّيت بالمغرب.
          الوجهُ الخامسُ:
          مُرادُ البخاريِّ بالتبويبِ الرِّحلةُ والسَّفرُ في طلبِ العلم برًّا وبحرًا، فإنَّ موسى _صلعم_ اتَّبع الخَضِرَ للتعلُّم منه حالَ ركوبِ السَّفينةِ ودونَها.
          السَّادس: في ألفاظِه ومعانيه:
          الْمُماراة: المجادَلة، يقال: مارَيتُ الرَّجلَ أُماريهِ مِراءً، وهي هنا: الاختلاف، يقال: تَمَارَيَا إذا اختلفا.
          وقولُه: (فَدَعَاهُ ابْنُ عبَّاسٍ) فسَّره بعضُهم بأنَّه قام إليه، ويَحتمل أن يكونَ المرادُ به النداءَ.
          وقولُه: (فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، قال القاضي: أي في جماعتهم.
          وقال غيره: الملأُ الأشرافُ. ومعناهما صحيحٌ هنا.
          وقولُه: (هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا)، وجاء في كتاب التَّفسير وغيره: ((فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ، فَعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلَيْهِ))، وكذا جاء في «مسلم»، وفيه أيضًا: ((بَيْنَا موسى في قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ _أي نعمائِهِ وبلائِهِ_ إذْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ في الأَرْضِ رَجُلًا خَيْرًا وأَعْلَمَ مِنِّي، فأوحى اللهُ _تعالى_ إليه أنَّ في الأَرْضِ رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ)).
          أمَّا على رواية: ((هل تعلمُ أحدًا أعلمَ منك؟ قال: لا)) فلا عتبَ عليه؛ إذ أخبر عمَّا يَعلم، وأمَّا على رواية: ((أيُّ الناس أعلم؟ فقال: أنا)) فهو راجعٌ إلى ما اقتضاه شهادةُ الحالِ ودِلالةُ النُّبُوَّةِ، وكان منها بالمكان الأَرْفعِ والْمَرتبةِ العُليا مِن العِلْمِ.
          فالعتبُ إذنْ إنما وقع لأجل الإطلاق، وإن كان الأولى إطلاقُ: اللهُ أعلمُ، وقد قالت الملائكة: {إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] وقد قال _◙_ لمَّا سُئل عن الروح وغيره: ((لا أدري حتَّى أسأَلَ اللهَ))، وقد قال _تعالى_: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].
          وقيل: المراد بقوله: (أنا) أي بوظائف النُّبوَّة، وأُمورِ الشَّريعة وسياسةِ الأمَّة، والخَضِرُ أعلمُ منه بأمورٍ أُخَرَ مِن علومٍ غيبيَّةٍ / كما ذُكر مِن خَبَرِهِ، وكان موسى أعلمَ على الجُمْلةِ والعمومِ ممَّا لا يمكن جهلُ الأنبياءِ بشيءٍ منه، والخَضِرُ أعلمُ على الخصوص بما أُعلم مِن الغيوبِ وحوادثِ القَدَرِ ممَّا لا يَعْلم الأنبياءُ منه إلا ما أُعلموا مِن غَيبِه.
          ولهذا قال له الخَضِرُ: ((إنَّك على علمٍ مِن علمِ اللهِ علَّمَكَه اللهُ لا أعلمُه، وأنا على علمٍ مِن عِلمِ اللهِ علَّمنيهِ لا تعلمُه)) ألا تراه لم يعرف موسى بني إسرائيل حتى عرَّفه بنفسه إذ لم يعرِّفه اللهُ به، وهذا مثلُ قولِ نبينا _صلعم_: ((إنِّي لا أَعْلَمُ إلَّا ما عَلَّمِني رَبِّي)).
          ومعنى قوله فيما أوردناه ((فعتَبَ الله عليه)): وَاخَذَه به، وأصلُ العَتَبِ المؤاخذَةُ، يقال فيه: عَتَبَ عليه إذا واخذه وذكره له، والمؤاخذة والعتب في حق الله _تعالى_ مُحالٌ، فالعَتب هنا عدمُ رِضا قولِه شرعًا ودينًا، وقد عَتَبَ الله عليه إذ لم يردَّ ردَّ الملائكة: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32].
          وقيل: جاءَ هذا تنبيهًا لموسى وتعليمًا لِمَن بعدَه ودليلًا يقتدي به غيرُه في تزكية نفسِه والعُجب بحاله فيهلِك، وإنَّما أُلْجِىءَ موسى للخضر للتَّأديب لا للتَّعليم، قال أُبيٌّ: أُعْجِبَ موسى بعِلْمِه فعاقبَه الله بما لَقِيَ مِن الخَضِرِ.
          السابعُ في فوائده:
          الأُولى: الرِّحلةُ والسَّفرُ لطلب العِلم برًّا وبحرًا، وهو المراد بالتَّبويب كما سَلَفَ، وسيأتي أيضًا رحلةُ جابرٍ، والمرادُ التَّنبيهُ على شرفِ العِلم حتى جازَتِ الْمُخاطرةُ في طَلَبِه بركوب البَحْرِ، ورَكِبَه الأنبياءُ في طَلَبِه، بخلافِ رُكوبه في طلبِ الدُّنيا فهو مكروهٌ عندَ بعضِهم، واستثقَلَه الكلُّ.
          الثَّانيةُ: الازديادُ في العلمِ وقصدُ طلبِهِ، ومعرفةُ حقِّ مَن عندَه زيادةُ علمٍ.
          الثَّالثة: جوازُ التَّماري في العلم، إذا كان كلُّ واحدٍ يطلب الحقيقةَ غيرَ مُتَعَنِّت.
          الرَّابعةُ: الرُّجوعُ إلى أهلِ العلمِ عندَ التَّنازُعِ.
          الخامسةُ: لزومُ التَّواضُعِ في العلمِ وكلِّ الأحوال.
          السَّادسةُ: حَمْلُ الزَّاد وإعدادُه في السَّفَرِ خلافًا لمن مَنَعَه، وستكون لنا عودةٌ إلى هذا الحديثِ في موضعٍ آخرَ مِن المواضعِ التي كرَّره فيها البخاريُّ إن شاء الله ذلك وقدَّره.