التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب

          ░37▒ بَاب لِيُبَلِّغِ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ
          قَالَهُ ابن عبَّاسٍ عَن النَّبِيِّ صلعم.
          104- حَدَّثَنَا عبدُ الله بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ _هُوَ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ_ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ _صلعم_ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ _تعالى_ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ فِيهَا، فَقُولُوا إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)) فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ، يعني: السَّرِقَة.
          105- حَدَّثَنَا عبدُ الله بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أيُّوبَ عَنْ محمَّدٍ عَن ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، ذُكِرَ النَّبِيُّ _صلعم_ قَالَ: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ _قَالَ محمَّد: أَحْسَبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ_ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، وَكَانَ محمَّدٌ يَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ كَانَ ذَلِكَ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟)) مَرَّتَيْنِ.
          الكلام عليهما مِن وجوهٍ:
          أحدها: أمَّا حديثُ ابن عبَّاسٍ فقد أسنده في كتاب الحجِّ في باب الخُطبة أيام مِنًى عن عَلِيِّ بن عبد الله، عن يحيى بن سعيدٍ عن فُضَيل بن غَزْوَانَ، عن عِكرِمَةَ عنه مطوَّلًا.
          وأمَّا حديث أبي شُرَيحٍ: فأخرجه هنا كما ترى، وفي الحجِّ عن قُتَيبةَ، وفي المغازي عن سعيدِ بن شُرَحبيلَ. وأخرجه مسلمٌ في الحجِّ عن قُتَيبةَ كلُّهم عن اللَّيث به.
          وأخرجاه بمعناه مِن حديث ابنِ عبَّاسٍ وأبي هُرَيرَة ♥، وأخرجه في كتاب الحجِّ _أعني حديث أبي شُرَيْحٍ_ وفيه: ((إنَّ الحَرَمَ لَا يُعِيذُ...)) إلى آخره.
          وفي حديث ابن إسحاقَ عن أبي شُرَيحٍ في أوَّله: لمَّا كان الغدُ مِن يومِ الفتح عَدَت خُزاعةُ على رجلٍ مِن هُذَيلٍ، قتلوه وهو مشركٌ، فقام _◙_ خطيبًا، فقال: ((إِنَّ اللهَ _تَعَالَى_ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فَهِي حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ))، وفيه: ((لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا، أَلَا ثُمَّ رَجَعَتْ لِحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ)) وفيه: ((يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوْا أَيْدِيَكُمْ مِنَ القَتْلِ، فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مَقَامِيْ هَذَا فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ)) وذكر الحديث.
          وأخرجاه مِن حديث أبي هُرَيرَة: أنَّ خزاعةَ قتلوا قتيلًا مِن بني لَيثٍ عامَ فتح مكَّةَ بقتيلٍ منهم قتلوه، وفي روايةٍ: بقتيلٍ لهم في الجاهليَّة، فأُخبِر بذلك رسول الله _صلعم_ فركب راحلته، فَخَطَبَ فقال: ((إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيْلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلَا وِإِنَّها لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، أَلَا وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِيْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ)) الحديث، وسيأتي قريبًا [خ¦112].
          وأمَّا حديثُ أبي بَكْرةَ: فتقدَّم الكلامُ عليه في باب: ربَّ مبلَّغٍ أَوعى مِن سامعٍ [خ¦67].
          ثمَّ اعلم أنَّه وقع في البخاريِّ فيه اضطرابٌ مِن الرُّواة عن الفَرَبْريِّ.
          قال أبو عليٍّ الغسَّانيُّ: وقع في نسخةِ أبي ذرٍّ الهَرَويِّ فيما قيَّده عن الحَمَويِّ وأبي الهيثَم عن الفرَبريِّ عن محمَّدٍ، عن أبي بكرةَ هنا فأسقَط ابنَ أبي بَكْرَةَ، ورواه سائرُ رواة الفَرَبْريِّ بإثبات ابنِ أبي بَكرةَ بينهما، ووقع الخلل فيه أيضًا في كِتابِ بَدْءِ الخَلْقِ والْمَغازي، وقال أبو الحسن القابِسيُّ في نسخة أبي زيدٍ: أيُّوبُ عن محمَّدِ بنِ أبي بكرةَ، وفي نسخةِ الأَصيليِّ: محمَّدٌ عن أبي بكرةَ على الصَّواب.
          وذكر الدَّارَقُطْنيُّ في «عِلله» أنَّ إسماعيلَ بنَ عُلَيَّةَ وعبدَ الوارث رَوَيَاه عن أيُّوبَ عن محمَّدٍ عن أبي بَكْرةَ، ورواه قُرَّةُ بن خالدٍ، عن محمَّدِ بنِ سِيرينَ، قال: حدَّثني عبدُ الرحمن بنُ أبي بَكْرةَ، ورجلٌ آخرُ أفضلُ منه، وسمَّاه أبو عامرٍ العَقَديُّ: حُمَيدَ بنَ عبدِ الرحمن الحِمْيَريَّ.
          قال الغَسَّانيُّ: واتِّصالُ هذا الإسناد وصوابُه أن يكونَ عن محمَّدِ بن سِيرينَ عن عبدِ الرحمن بن أبي بَكْرَةَ عن أبيه وعن محمَّدِ بنِ سِيرينَ أيضًا عن حُمَيد بنِ عبد الرحمن الحِميَريِّ عن أبي بَكْرَةَ.
          الوجه الثَّاني: في الكلام على رجالهما غيرِ منْ سَلَفَ.
          أمَّا حديثُ أبي شُرَيْحٍ فَسَلَفَ التَّعريفُ بهم.
          وأبو شُرَيح خُزاعيٌّ عَدَويٌّ كَعْبيٌّ، وفي اسمه أقوالٌ وَصَلْتُها في«شرح العُمدة» إلى ستَّةٍ، وأصحُّها كمَا قال ابنُ عبد البَرِّ: خُوَيلدُ بنُ عَمرِو بنِ صَخرِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ معاويةَ بنِ الْمُحْتَوِشِ / بنِ عَمرِو بنِ زِمَّانَ بنِ عَدِيِّ بنِ عَمرِو بنِ رَبيعةَ، أسلمَ قبل الفتح، وحمل لواءً من ألوية بني كَعب بن خُزاعةَ يومئذٍ، روى عن النبيِّ _صلعم_ عشرين حديثًا؛ اتَّفقا على حديثين هذا أحدُهما، والآخرُ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ))، وانفرد البخاريُّ بحديثِ: ((وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ _ثَلَاثًا_ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)) روى عنه نافعُ بنُ جُبَيرٍ وغيرُه.
          قال الواقِديُّ: وكان مِن عُقلاء أهل المدينة، وكان يقول: إذا رأيتموني أُبَلِّغُ مَنْ أَنْكَحْتُه أو نَكَحْتُ إليه السُّلطانَ فاعلَموا أنِّي مجنونٌ فاكْوُوْني، وإذا رأيتُموني أَمْنَعُ جَاري أن يضعَ خشبةً في حائطي فاعلموا أنِّي مجنونٌ فاكْوُوني، ومَن وَجَدَ لأبي شُرَيحٍ سَمْنًا أو لَبَنًا أو جِدايةً فهو له حِلٌّ.
          مات سنة ثمانٍ وستِّين بالمدينة، وقيل: سنةَ ثمانٍ وخمسين، حكاه العسكريُّ.
          فائدةٌ: في الصَّحابة مَن يشتركُ معه في كُنيته اثنان: أبو شُرَيحٍ هانئُ بنُ يزيدَ الحارثيُّ، وأبو شُريحٍ راوي حديثِ: ((أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللهِ ╡...)) الحديث، قالوا: هو الخُزاعيُّ، وقالوا: غيرُه، وفي الرُّواة أيضًا: أبو شُريحٍ الْمَعافريُّ وآخرُ أخرجَ له ابنُ ماجَه.
          وأمَّا عَمرُو بنُ سعيدٍ فهو الأشدَقُ، أَرْسَلَ، ووالدُه مختلَفٌ في صُحْبته، وترجَمَتُه موضحةٌ في «شرحي للعمدة» فراجعْها منه.
          وأمَّا حديثُ أبي بَكرة فَسَلَفَ التَّعريف برجاله خلا عبدَ الله بنَ عبد الوهَّاب وهو أبو محمَّدٍ الحَجَبيُّ البصريُّ، روى عن مالكٍ وأبي عَوَانَةَ، وعنه البخاريُّ منفرِدًا به، وروى النَّسائيُّ عن رجلٍ عنه، ولم يخرج له مسلمٌ وأبو داودَ والتِّرمذيُّ وابنُ ماجه، وهو ثقةٌ ثبتٌ، مات سنة ثمانٍ وعشرين ومئتين.
          الوجه الثَّالث:
          في فوائدها: أمَّا حديثُ ابن عبَّاسٍ فسيأتي _إن شاء الله تعالى_ في موضعه [خ¦1739]، وأمَّا حديث أبي بَكْرة فسَلَفَ الكلام عليه فيما مضى [خ¦67]، وأمَّا حديثُ أبي شُرَيحٍ فالكلام عليه من وجوهٍ:
          أحدُها: (البُعُوث) جمعُ بَعْثٍ بمعنى المبعوث، وهو من باب تسمية المفعول بالمصدر، والمراد بالبُعوث: القومُ المرسَلون للقتال ونحوه، ويعني بها الجيوشَ التي وجَّهها يَزيدُ بنُ مُعاويةَ إلى عبدِ الله بن الزُّبَير، وذاك أنَّه لمَّا توفِّي معاويةُ وجَّه يزيدُ إلى عبد الله يستدعي منهَ، فخرج إلى مكَّة ممتنعًا مِنْ بيعته، فغضب يزيدُ وأرسل إلى مكَّة يأمر واليَها يحيى بنَ حكيمٍ بأخذ بيعة عبد الله فبايَعه، وأرسل إلى يزيدَ بيعتَه، فقال: لا أقبلُ حتى يُؤتى به في وَثاقٍ، فأبى ابنُ الزُّبَير، وقال: أنا عائذٌ بالبيت، فأبى يزيدُ وكتب إلى عَمرو بن سعيدٍ أن يوجِّه إليه جندًا، فبعث هذه البعوثَ.
          قال ابنُ بطَّالٍ: وابنُ الزُّبَير عندَ علماء أهل السنَّة أَولى بالخلافة مِن يزيدَ وعبدِ الملك؛ لأنَّه بويع لابن الزُّبَير قبل هؤلاء، وهو صاحب النبيِّ صلعم، وقد قال مالكٌ: إنَّ ابن الزُّبَير أَولى مِن عبد الملك.
          ثانيها: (مكَّة) سيأتي _إنْ شاء الله تعالى_ في الحَجِّ بيانُ أسمائها مستوفاةً، سُمِّيت بذلك لقلَّة مائها، أو لأنَّها تَمُكُّ الذُّنوب، ومن أسمائها أيضًا بَكَّةُ _بالباء_ وهي لغةٌ فيها؛ لأنَّها تَبُكُّ أعناقَ الجبابرة، أي: تدقُّها، والبكُّ: الدَّقُّ؛ أو لازدحام النَّاس بها يَبُكُّ بعضُهم بعضًا، أي: يدفعُه في زَحمة الطَّواف.
          وقال آخرون: إنَّ مكَّة غيرُ بكَّة، فقيل: الأُولى الحرَمُ كلُّه، والثَّانية المسجدُ خاصَّةً، وقيل: الأُولى البلدُ، والثَّانيةُ البيتُ، قيل: وموضعُ الطواف أيضًا.
          ثالثها: أصل (اِيذَن): اِئْذن، بهمزتين: همزةِ الوصل وفاءِ الكلمة، فقُلبت الثَّانيةُ ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها فبقيت: ايذَن.
          وقوله: (أيُّها الأمير) الأصل يا أيُّها، فحُذِف حرفُ النِّداء.
          رابعها: فيه حُسن التلطُّف في الإنكار، لا سيَّما مع الملوك فيما يخالف مقصودَهم؛ لأنَّه أَدعى لقَبولهم، لا سيَّما مَن عُرِف منهم بارتكاب هَواه، وأنَّ الغلظة عليهم قد تكون سببًا لإثارة نفسه ومعاندته، فاستأذنه لأجل ذلك في التَّحديث.
          خامسُها: فيه النَّصيحة لوُلاة الأمور، وعدمُ الغشِّ لهم والإغلاظ عليهم.
          سادسها: فيه تبليغُ الدِّين ونشرُ العلم، وذَكَرَ ابنُ إسحاقَ في آخره أنَّه قال له عَمرُو بن سعيدٍ: نحن أعلمُ بحُرْمتِها منك، فقال له أبو شُرَيحٍ: إنِّي كنت شاهدًا وكنتَ غائبًا، وقد أمَرَنا رسول الله _صلعم_ أن يبلِّغ شاهدُنا لغائبنا، وقد أبلغتُك، فأنتَ وشأنُك.
          قال ابنُ بطَّالٍ: كلُّ مَن خاطَبه الشَّارع بالعِلم فتبليغُه عليه متعيِّنٌ، وأمَّا مَن بعدَهم ففرضُ كفايةٍ، وقال ابنُ العربيِّ: التَّبليغ عنه فرضُ كِفايةٍ.
          وقد كان _╕_ إذا نزل عليه الوحيُ والحُكْمُ لا يبوحُ به في النَّاس لكنْ يُخْبِرُ به مَن حَضَرَهُ، ثمَّ عليهم التَّبليغ إلى مَن وراءَهم قومًا بعد قومٍ، فالتَّبليغُ فرضُ كفايةٍ، والإصغاءُ فرضُ عينٍ، والوعيُ والحفظُ يترادَّان على معنى ما يستمع، فإن كان ما يخصُّه تعيَّن عليه، وإن كان يتعَّلق به وبغيره، أو بغيره، فالعمل فرضُ عينٍ والتَّبليغُ فرضُ كفايةٍ وذلك عندَ الحاجة إليه، ولا يَلْزَمُه أن يقولَه ابتداءً ولا بعضَه، فقد كان قومٌ يُكثرون الحديث فحبسهم عمرُ _☺_ حتى مات وهمْ في سِجنه.
          سابعها: (يوم الفتح) هو: فتحُ مكَّة، وكان في عشرين رمضانَ في السَّنة الثَّامنة من الهجرة.
          ثامنها: قوله: (سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ) إلى آخره، هو إشارةٌ منه إلى مبالغته في حِفظه مِن جميع الوجوه، ففي قوله: (سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ) نفيُ أن يكونَ سَمِعَهُ مِن غيره، كما جاء في حديث النُّعمان بن بَشيرٍ: وأهوى النعمان بإِصْبَعَيْهِ إلى أُذُنَيه.
          (وَوَعَاهُ قَلْبِي): تحقيقٌ لِفَهْمِه والتثبُّتِ في تعقُّل معناه.
          (وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، حَمِدَ اللهَ _تعالى_ وَأَثْنَى عَلَيْهِ) زيادةٌ في تحقيق السَّماع والفهمِ عنه بالقرب منه والرُّؤية، وأنَّ سماعَه منه ليس اعتمادًا على الصَّوت دون حجابٍ، بل بالرُّؤية والمشاهَدة.
          والهاء في قوله: (تَكَلَّمَ بِهِ) عائدةٌ على قوله: (أُحَدِّثُكَ قَوْلًا).
          تاسعُها: يُؤْخَذُ مِن قوله: (وَوَعَاهُ قَلْبِي) أنَّ العقل محلُّه القلبُ لا الدِّماغ، وهو قول الجمهور؛ لأنَّه لو كان محلُّه الدماغَ لقال: ووعاه رأسي، وفي المسألة قولٌ ثالثٌ: إِنَّه مشتركٌ بينهما.
          عاشرُها: قوله: (حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ) يؤخَذُ منه استحبابُ الحمد والثَّناء بين يدَيْ تعليمِ العِلم وتبيينِ الأحكام، وقد يُؤخذ منه وجوبُ الحمد والثَّناء على الله _تعالى_ في الخُطبة.
          الحادي عشر: يؤخذ منه أيضًا الخُطبةُ للأمور المهمَّةِ والأحكامِ العامَّة.
          الثَّاني عشر: قوله _صلعم_: (إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ) معناه: تفهيمُ المخاطَبين تعظيمَ قَدْرِ مكَّة بتحريم الله _تعالى_ إيَّاها، ونفيُ ما تعتقده الجاهليَّة وغيرُهم مِن أنَّهم يُحَرِّمون ويُحَلِّلُون كما حرَّموا أشياءَمِن قِبل أنفسهم، وأكَّد ذلك المعنى بقوله: (وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ).
          فتحريمُها ابتدائيٌّ مِن غير سببٍ يُعزى لأحدٍ، لا مدخلَ فيه لا لنبيٍّ ولا لعالمٍ، ثمَّ بيَّن التحريمَ بقوله: (فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا) إلى آخره، لأنَّ مَن آمن بالله / لَزِمه طاعتُه، ومَن آمن باليوم الآخر لَزِمه القيامُ بما وَجَبَ عليه واجتنابُ ما نُهي عنه مخلِصًا؛ خوفَ الحسابِ عليه.
          الثالثَ عشرَ: فيه أنَّ التَّحريمَ والتَّحليل مِن عند الله _تعالى_ لا مَدْخَلَ لبشرٍ فيه، وأنَّ الرجوع في كلِّ حالةٍ دُنيويَّةٍ وأُخرويَّةٍ إلى الشَّرع، وأنَّ ذلك لا يُعرَف إلا منه فعلًا وقولًا وتقريرًا.
          الرابعَ عشرَ: فيه عِظَمُ مكَّةَ وشرفُها، زادها اللهُ شرفًا وتعظيمًا.
          الخامسَ عشرَ: يقال: امْرُؤٌ ومَرْءٌ، وسُمِّي يومُ القيامةِ اليومَ الآخِرَ، لأنَّه لا ليلَ بعدَه، ولا يقال يومٌ إلَّا لِمَا تقدَّمه ليلٌ.
          السادسَ عشر: قد يُتوهَّم مِن قوله: (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أنَّ فيه دلالةً على أنَّ الكفَّار ليسوا مخاطَبين بفروع الشَّريعة، وليس كذلك، بل هذا مِن خطاب التَّهييج، وهو معلومٌ عند علماء البيان، فاستحلال ذلك لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخِر بل ينافيه، هذا هو المقتضي لذِكر هذا الوصف، ومثله قولُه _تعالى_: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] وغيرُ ذلك.
          السابعَ عشرَ: ((يَسْفِكُ)) بكسر الفاء، وحُكي ضمُّها، وهي قراءةٌ شاذةٌ في قوله _تعالى_: {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30]، والسَّفك لغة: صبُّ الدم، قال الْمَهْدَوِيُّ: لا يُستعمل إلَّا فيه، وقد يستعمل في نشر الكلام إذا نشَره.
          الثامنَ عشرَ: سياقُ الحديثِ ولفظُه يدلَّان على تحريم القِتال لأهل مكَّة، وبه قال القَفَّال مِن أصحابنا، وهو أحد القولين في قوله _تعالى_: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} [آل عمران:97]، أي: من الغارات، وهو ظاهرُ قولِه _تعالى_: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]، وهو منقولٌ من عادة العرب في احترامهم مكَّةَ.
          وقال الماوَرْديُّ في «أحكامه»: مِن خصائص حرم مكَّة ألَّا يحارَب أهلُه، فلو بغى أهلُه على أهل العدل، فإن أمكن ردُّهم عن البغي بغير قتالٍ لم يَجُزْ قتالُهم، وإنْ لم يمكن ردُّهم عنه إلَّا به فقال جمهورُ الفقهاء: يقاتَلون؛ لأنَّ قتال البُغاة من حقوق الله _تعالى_ التي لا يجوز إضاعتُها، فحفظُها في الحَرَمِ أَولى مِن إضاعتها.
          وقال بعضُ الفقهاء: يحرمُ قتالُهم ويُضيَّق عليهم حتَّى يرجِعوا إلى الطَّاعة ويَدخلوا في أحكام أهل العَدْل.
          قال النَّوويُّ في «شرح مسلمٍ»: والأوَّل هو الصواب المنصوص عليه في«الأمِّ» في«اختلاف الحديث» و«سيَر الواقديِّ»، وقولُ القَفَّال غلطٌ، وأجاب الشافعيُّ في «سِير الواقديِّ» عن الأحاديث بأنَّ معناها: تحريمُ نَصْبِ القتال عليهم وقتالِهم بما يَعُمُّ كالْمِنْجَنِيق وغيرِه إذا لم يكن إصلاحُ الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا تحصَّن الكفَّار ببلدٍ آخر، فإنَّه يجوز قتالُهم على كلِّ وجهٍ وبكلِّ شيءٍ.
          ونازع الشيخُ تقيُّ الدِّين القُشَيريُّ في ذلك وقال: إنَّه خلافُ الظَّاهر القويِّ الذي دلَّ عليه عمومُ النَّكرة في سياق النَّفْي، والمأذون له فيه هو مطلَق القِتال ولم يكنْ بما يَعُمُّ، وهو كما قال، فالحديثُ نصٌّ في الخصوصيَّة، وقد اعتذَر فيه عمَّا أُبيح له مِن ذلك، وهو ما فهمه راوي الحديث، وما أبعدَ مَن ادَّعى نَسْخَ الحديث بقوله _تعالى_: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5]! ذكرتُها لأنبِّه على وَهْنها.
          التاسعَ عشَرَ: الحديث دالٌّ دِلالةً واضحةً على تحريم مكَّةَ، وأبعدَ مَن قال: إنَّ إبراهيمَ _◙_ أوَّلُ مَن افتتح ذلك، والصَّواب أنَّها لم تَزَلْ محرَّمةً مِن يوم خلقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ، وإضافةُ التَّحريم إلى إبراهيمَ في بعض الأحاديث إمَّا لأنَّه أوَّلُ مَنْ أَظهر ذلك بعد خفائه وبلَّغه، أو أنَّه حرَّمها بإذن الله _تعالى_ فأضيف التَّحريم إليه، أو أنَّه دعا لها فكان تحريم الله _تعالى_ لها بدعوتِه صلعم.
          العِشرون: ربَّما استدلَّ به أبو حنيفةَ على أنَّ الملتجئ إلى الحرم إذا وجب عليه قتلٌ لا يُقتَلُ به، لأنَّ قوله: ((لا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا)) عامٌّ يدخُل فيه صورةُ النِّزاع.
          قال أبو حَنيفة: بل يُلجأ إلى أن يَرُجَ مِن الحَرم فيُقتلُ خارجَه، وذلك بالتَّضييق عليه، وهو قولُ عمرَ بن الخطَّاب وجماعاتٍ، وقال أبو يوسُفَ ومالكٌ وجماعةٌ: يُخرَج فيقامُ عليه الحدُّ.
          وحكاه القاضي عن الحَسن وغيره، ولم يخالِف أبو حنيفةَ في إقامة الحُدود بالحرم غيرَ حدِّ القتل خاصَّةً، وقد أخرج ابنُ الزُّبَير قومًا مِن الحرم إلى الحلِّ فصَلَبَهم.
          وقال حمَّادُ بنُ أبي سُليمانَ: مَن قَتل ثمَّ لجأ إلى الحَرم يُخرَجْ منه فيُقتَلْ، وأمَّا مَن تُعدِّي عليه في الحَرم فَلْيَدْفَعْ عن نفسه، قال الله _تعالى_: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}الآية [البقرة:191].
          وحكى ابنُ بَطَّالٍ عن ابن عبَّاسٍ وعطاءٍ والشَّعْبيِّ فيمن أصاب حدًّا مِن قتلٍ أو زنًا أو سرقةٍ، أنَّه إنْ أصابه في الحَرم أقيم عليه الحدُّ، وإنْ أصابَه في غيرِه لا يجالَس ولا يُؤوَى حتَّى يخرجَ فيقامَ عليه الحدُّ.
          وقال ابنُ الجَوزيِّ: انعقدَ الإجماعُ على أنَّ مَن جنى في الحرم يُقاد منه فيه ولا يُؤَمَّن؛ لأنَّه هتكَ حُرمة الحَرم وردَّ الأمانَ.
          واختُلف فيمن ارتكب جنايةً خارج الحرم ثم لجأ إليه، فرُوي عن أبي حنيفةَ وأحمدَ: أنَّه يُلجأ إلى الخروج فيقام عليه الحدُّ.
          قلت: ومذهب الشافعيِّ ومالكٍ: يُقام فيه، ونقل ابنُ حزمٍ عن جماعةٍ من الصَّحابة المنعَ، ثمَّ قال: ولا مخالفَ لهم مِن الصَّحابة، ثم نَقَل عن جماعةٍ مِن التَّابعين موافقتَهم، ثمَّ شنَّع على مالكٍ والشَّافعيِّ فقال: قد خالفَا في هذا هؤلاءِ الصَّحابةَ والكتابَ والسُّنَّةَ، وليس كما قال.
          وأمَّا قصَّةُ ابنِ خَطَلٍ وقولُه _╕_: ((اقْتُلُوْهُ)). فأجيب عنها بأوجهٍ:
          أحدُها: أنَّه ارتدَّ وقَتل مسلمًا وكان يهجو النَّبيَّ صلعم.
          ثانيها: أنَّه لم يَدخُلْ في الأمان؛ فإنَّه استثناه وأمَر بقَتْلِه وإن وُجِد متعلِّقًا بأستار الكعبة.
          ثالثها: أنَّه كان ممَّن التزم الشَّرطَ وقاتَل.
          وأجاب بعضُهم: بأنَّه إنَّما قُتِل في تلك السَّاعة التي أُبيحت له؛ وهو غريبٌ، فإنَّ السَّاعةَ للدُّخول حتَّى استولى عليها وأَذْعَن أهلُها، وقتلُ ابنِ خَطَلٍ كان بعدَ ذلك، وبعدَ قوله: ((مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ))، وقد دخلَ لكنَّه استُثني مع جماعةٍ غيرِه.
          الحادي بعدَ العشرين: قولُه: (فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلعم) فيه دِلالةٌ على أنَّ مكَّة _شرَّفها الله تعالى_ فُتحت عُنْوةً، وهو قولُ الأكثرين، وهو مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفةَ والأَوْزاعيِّ، لكنَّه منَّ على أهلِها وسوَّغهم أموالَهم / ودُورَهم ولم يَقْسِمْها ولا جعلَها فَيْئًا.
          قال أبو عُبَيدٍ: ولا نعلم مكَّة يُشْبِهُها شيءٌ من البلاد، وقال الشَّافعيُّ وغيرُه: فُتحت صُلْحًا، وتأوَّلوا الحديثَ بأنَّ القِتال كان جائزًا له لو احتاج إليه، لكنْ يضعِّفه قولُه: ((فَإِنْ تَرَخَّصَ أَحَدٌ لِقِتَالِ رَسُوْلِ اللهِ صلعم)) فإنَّه يقتضي وجودَ قتالٍ منه ظاهرًا، وقولُه: ((مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ)) إلى غيره مِن الأمان المعلَّق على أشياءَ مخصوصةٍ، وتوسَّط الماوَرْديُّ في المسألة فقال: عندي أنَّ أسفَلها دَخَلَهُ خالدُ بن الوليد عُنْوةً، وأعلاها دَخَلَهُ الزُّبَير بنُ العَوَّام صُلْحًا، ودخلها الشَّارع مِن جِهَتِه، فصار حُكمُ جهتِهِ الأغلبَ، ولم يَغْنَمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ؛ لأنَّ القتال كان على جبالها ولم يكن فيها.
          قال الخَطَّابيُّ: وتأوَّل غيرُهم الإذنَ له في ساعةٍ من نهارٍ على معنى دخولِه إيَّاها مِن غير إحرامٍ، لأنَّه _صلعم_ دَخلها وعليه عِمامةٌ سوداءُ، وقيل: إنما أُحِلَّ له في تلك السَّاعة إراقةُ الدَّمِ دونَ الصَّيد وقطعِ الشَّجر وسائر ما حَرُمَ على النَّاس.
          الثَّاني بعدَ العشرين: قوله: (وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً) أي يقطع بالمِعضَد، وهو: سيفٌ يُمْتَهَنُ في قطع الشَّجر، ويقال: الْمِعضاد أيضًا، فهو معضودٌ، يقال منه: عَضَدَ _بالفتح_ يَعضِد _بالكسر_ كضرَب يضرِب، ويعضُد _بالضمِّ_ إذا أعان، والمعاضَدة: المعاونَة، فقوله: (وَلَا يَعْضِدَ) هو بكسر الضَّاد فقط، أي: لا يقطع أغصانها.
          قال المازِريُّ: ويقال: عضَدَ واستعضَدَ، وقال الطَّبَرِيُّ: معنى ((لا يَعضِد)): لا يُفسد ويَقطع، وأصله من عَضَد الرجلَ: إذا أصاب عضُدَه، لكنَّه يقال منه: عضَده يعضُده _بالضَّم في المضارع كما سلف_ فيما إذا أعانه، بخلاف العَضْد بمعنى القطع، والشجر: ما كان على ساقٍ.
          الثالثُ بعد العشرين: فيه دليلٌ على تحريم قطع شجر الحَرَم، وهو إجماع فيما لا يَسْتَنْبِته الآدميُّون في العادة، وسواءٌ الكلأُ وغيرُه، وسواءٌ كان له شوكٌ يؤذي أم لا.
          وقال جمهورُ الشافعيَّة: لا يحرم قطعُ الشَّوك؛ لأنَّه مؤذٍ فأَشْبَه الفواسقَ الخَمْسَ، ويخصُّون الحديث بالقياس، وصحَّح المتولِّي منهم التَّحريم مطلقًا وهو قويٌّ دليلًا؛ لقوله _صلعم_ «في الصَّحيح» أيضًا: ((وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ)) وَفِي لفظٍ: ((وَلَا يُخبَطُ شَوْكُهَا))، والخَبْطُ: ضَرْبُهُ بالعصا ليسقُط الورَقُ؛ ولأنَّ غالبَ شجرِ الحَرَمِ ذو شوكٍ، والقياس المذكور ضعيفٌ لقيام الفارق: وهو أنَّ الفواسقَ الخَمْسَ تَقْصِدُ الأذى بخلاف الشَّجر.
          وقال الخطابيُّ: أكثرُ العلماء على إباحة الشَّوك، ويشبِهُ أن يكونَ المحظورُ منه ما ترعاه الإبِلُ، وهو ما رقَّ منه دون الصُّلب الذي لا ترعاه، فيكون ذلك كالحَطَبِ وغيره.
          أمَّا ما يستنبتُه الآدميُّون فالأصحُّ عند الشافعيَّة إلحاقُه بما لا يُستنبَت خلافًا للمالكيَّة ولأصحاب أبي حنيفةَ.
          فرعٌ: لو قَطَعَ ما يَحْرُمُ قَطْعُه هل يضمنُه؟
          قال مالكٌ: لا، ويأثم.
          وقال الشافعيُّ وأبو حنيفةَ: نعم. ثمَّ اختلفا: فقال الشافعيُّ: في الشجرة الكبيرة بقرةٌ، وفي الصغيرة شاةٌ كما جاء عن ابن عبَّاسٍ وابن الزُّبَير، وبه قال أحمدُ.
          وقال أبو حنيفة: الواجب في الجميع القيمةُ، قال الشَّافعيُّ: ويضمَن الخلا بالقيمة، والخلا والعشب: اسمٌ للرَّطْب، والحشيش: اسم لليابس منه على الأَشْهَر، والكلأ يُطلق عليهما.
          فرع: يجوز عند الشافعيِّ ومَن وافقه رعيُ البهائم في كلأ الشجر، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ ومحمَّدٌ: لا يجوز.
          الرابع بعد العشرين: قوله _صلعم_: (وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ) فيه صراحةٌ بنقل العلم وإشاعة السُّنَنِ والأحكام وهو إجماعٌ، وقد أسلفنا ذلك، وكلُّ مَنْ حَضَرَ شيئًا وعايَنَهُ فقد شَهِدَهُ وقيل له: شاهد، والغائب: مَن غاب عنه، وهذا اللَّفظ قد جاء في عدَّة أحاديثَ، وقد ذكر البخاريُّ منها ثلاثةً.
          الخامسُ بعد العشرين: قول عَمرٍو لأبي شُرَيحٍ: (أنَا أعْلَمُ منْكَ يا أبَا شرَيْحٍ) إلى آخره، هو كلامُه ولم يسنده إلى روايةٍ، وقد شنَّع عليه ابنُ حزمٍ في ذلك في «محلَّاه» «في كتابِ» الجنايات، فقال: لا كرامةَ لِلَطيمِ الشَّيطان الشُّرطيِّ الفاسقِ، يريد أن يكون أعلمَ مِن صاحب رسول الله صلعم، قال: وهذا الفاسق هو العاصي لله ولرسوله ومَن ولَّاه أو قلَّده، وما حاملُ الخَربة في الدنيا والآخرة إلَّا هو ومَن أمَّره وأيَّده وصوَّب قولَه.
          وكأنَّ ابن حزمٍ إنَّما ذكر ذلك لأنَّ عَمْرًا ذكر ذلك على اعتقاده في ابن الزُّبَير، وقد اعترض عليه أيضًا غيرُ واحدٍ في ذلك.
          قال ابنُ بَطَّالٍ: ما قاله ليس بجوابٍ؛ لأنَّه لم يختلف معه في أنَّ من أصاب حدًّا في غير الحرم ثمَّ لجأ إلى الحرم هل يقام عليه، وإنَّما أنكر عليه أبو شُريحٍ بعثَه البُعوث إلى مكَّة واستباحةَ حرمتِها بنصب الحرب عليها، فحاد عَمرٌو عن الجواب، واحتجَّ أبو شُرَيحٍ بعموم الحديث وذهب إلى أنَّ مثله لا يجوز أن يستباح بعدُ ولا ينصب الحرب عليها بقتالٍ بعدما حرَّمها الشَّارع.
          وقال القُرْطُبيُّ: قول عَمرٍو ليس بصحيحٍ للَّذي تمسَّك به أبو شُرَيحٍ، وحاصل كلام عَمرٍو أنَّه تأويلٌ غير معضودٍ بدليل.
          فرعٌ: هل تأويلُ الصحابيِّ للحديث أَولى ممَّن يأتي بعدَه لأنَّه أعلمُ بِمَخْرَجِه أم لا، إذا لم يُصِبْهخلافٌ؟
          قال المازِريُّ في «شرح البرهان»: مخالفةُ الرَّاوي لما رواه مخالفةً كُلِّيَّةً أو ظاهرةً على وجه التَّخصيص، أو لتأويلٍ محتمَلٍ أو مجمَلٍ كلُّه فيه خلافٌ، وعند الشَّافعيِّ: العِبرة بما روى لا بما رأى خلافًا لأبي حنيفةَ.
          وقال الرَّازيُّ: ظاهرُ مذهب الشافعيِّ أنَّه إن كان تأويلُه مخالفًا للظَّاهر رُجِع إلى الحديث، وإن كان أحدَ محتمَلاته الظَّاهرة رُجع إليه.
          السَّادس بعد العشرين: معنى (لا يُعيذ): لا يعصِم، والاستعاذة: الاستجارةُ بالشَّيء والاعتصام به، والفارُّ: الهارب، والخَرْبَة: بفتح الخاء المعجمة وسكون الرَّاء على المشهور في جميع الرِّوايات، غيرَ الأَصيليِّ فقال: بضمِّ الخاء أي الفَعلة الواحدة، ورواه بعضهم كما ذكره ابنُ بَزيزةَ: بخِزية بالمثنَّاة تحتُ.
          وأصلُها: سرقةُ الإبل، وكذا الخِرابة وتطلق على كلِّ جنايةٍ سواءٌ كانت في الإبل أو غيرها، والحِرابة: _بالحاء المهملة_ تُقال في كلِّ شيءٍ، وقد سَلَفَ تفسيرُها بالسَّرقة، وفي موضعٍ آخرَ منه: بالبليَّة، ذكره في الْمَغازي [خ¦1832]. والأوَّل روايةُ الْمُسْتَمْلِي، وقال الخليلُ: هي الفساد في الدِّين، مِن الخارب: وهو اللصُّ الْمُفْسِد، وقيل: هي العيب.