التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: اللهم علمه الكتاب

          ░17▒ بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ _صلعم_: ((اللهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ))
          75- حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حدَّثنا عَبْدُ الْوَارِثِ حدَّثنا خَالِدٌ عَنْ عِكرِمَةَ عَن ابنِ عبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ _صلعم_ وَقَالَ: ((اللهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ)).
          الكلامُ عليه مِن وجوهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجَه البخاريُّ هنا كما ترى، وفي فضائلِ الصَّحابةِ عَن أبي مَعْمَرٍ ومُسَدَّدٍ عن عبد الوارث، وعن موسى عن وُهَيْبٍ، كلاهما عن خالدٍ بلفظ: ((اللهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ))، قال أبومسعودٍ الدِّمَشْقِيُّ: هو عندَ القَوَارِيرِيِّ عن عبدِ الوارث.
          وأخرجَه في الطَّهارةِ عن عبدِ الله بنِ محمَّدٍ، حدَّثنا هاشمُ بنُ القاسمِ، عن وَرْقاءَ، عن عُبَيدِ اللهِ بنِ أبي يَزيدَ، عن ابن عبَّاسٍ أنَّه _◙_ دخل الخَلاءَ فوضَعَ له وَضُوْءًا فقال: ((اللهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّينِ)).
          وأخرجَه مسلمٌ في فضلِ ابنِ عبَّاسٍ: حدَّثنا زهيرٌ وأبو بكرِ بنُ أبي النَّضْرِ، حدَّثنا هاشمٌ به، ولفظُه: ((اللهُمَّ فَقِّهْهُ)).
          ثانيها: في التَّعريف برجاله:
          أمَّا ابنُ عبَّاسٍ فقد سَلَفَ.
          وأما عِكْرِمَةُ فهو أبو عبدِ اللهِ الْمَدَنيُّ مَوْلَى ابنِ عبَّاسٍ، أصلُه مِن البَرْبَرِ مِن أَهْلِ الْمَغْرِبِ، سَمِعَ مَولاهُوابنَ عُمَرَ وخَلْقًا مِن الصَّحابةِ، وكان مِن العُلماءِ في زَمَانِهِ بالعلمِ والقرآنِ، وعنه أيُّوبُ وخالدٌ الحَذَّاءُ وخَلْقٌ، وتُكُلِّمَ فيه لِرأيه، وأطلقَ نافعٌ وغيرُه عليه الكَذِبَ.
          ورَوى له مسلمٌ مَقرونًا بطاوُسٍ وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، واعتمدَه البخاريُّ في أكثرِ ما يصحُّ عنه مِن الرِّوايات، وربَّما عِيب عليهإخراجُ حديثِه، ومات ابنُ عبَّاسٍ وعِكرِمَةُ مملوكٌ، فباعَه عليٌّ ابنُه مِن خالدِ بن يزيدَ بنِ معاويةَ بأربعةِ آلافِ دينارٍ، فقال له عِكرِمَةُ: بعتَ علمَ أبيكَ بأربعةِ آلافِ دينارٍ! فاسْتَقَالَه، فأقاله وأعتقَه، وكان جوَّالًا في البلاد.
          وماتَ بالمدينةِ ودُفِن بها سنةَ خمسٍ أو ستٍّ أو سبعٍ ومئةٍ، وماتَ معه في ذلك اليومِ كُثَيِّرٌ الشَّاعرُ، فقيل: مات اليومَ أفقهُ النَّاسِ وأشعرُ النَّاسِ، وقيل: مات عِكرِمَةُ سنةَ خمسَ عَشْرَةَ ومئةٍ، وقيل: بَلَغَ ثمانينَ.
          واجتمع حفَّاظُ ابنِ عبَّاسٍ على عِكرِمَةَ فيهم: عطاءٌ وطاوُسٌ وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، فجَعَلوا يَسْألون عِكرِمَةَ عن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ، فجَعَلَ يحدِّثُهم وسعيدٌ كلَّما حدَّث بحديثٍ وضعَ إِصْبَعَهُ الإبهامَ على السبَّابةِ أي سَواءً، حتى سألوه عن الحوتِ وقصَّةِ موسى، فقال عِكرِمَةُ: كان يسايرُهما في ضَحْضاحٍ مِن الماء، فقال سعيدٌ: أَشهدُ على ابن عبَّاسٍ أنَّه قال: كان يحملانه في مِكْتَلٍ _يعني الزِّنْبِيلَ_ فقال أيُّوبُ: وأرى _والله أعلم_ أنَّ ابن عبَّاسٍ حدَّث بالخبرين جميعًا.
          وأمَّا الرَّاوي عنه فهو خالدُ بنُ مِهرانَ الحذَّاءُ أبو الْمُنازِل _بضمِّ الميم_ البصريُّ التابعيُّ مولَى آلِ عبدِ الله بنِ عامرٍ القُرشيِّ.
          قال عبدُ الغنيِّ: ما كان مِن مُنازلٍ فهو بضمِّ الميم، إلا يوسُفَ بنَ مَنازلَ فإنَّه بفتحها، وحكى غيرُه فيه الفتحَ _أعني في خالدٍ_ وكذا في سائر الباب، والضَّمُّ أظهَرُ، ولم يكن بحذَّاءٍ للنِّعال، إنَّما كان يجلسُ إليهم أو إلى صديقٍ له حذَّاءٍ، وقيل: كان يقول: احذُ على هذا النَّحوِ فلُقِّب به.
          رأى أَنَسًا، ووثَّقَه أحمدُ ويحيى بنُ مَعينٍ، وقال أبو حاتمٍ: يُكتَب حديثُه ولا يُحْتَجُّ به، مات سنةَ إِحدى وأربعين ومئةٍ في خلافةِ المنصور.
          وأمَّا الرَّاوي عنه فهو أبو عُبيدةَ عبدُ الوارثِ بنُ سعيدِ بنِ ذَكْوَانَ التَّميميُّ البصريُّ الحافظُ المقرئُ الثَّبْتُ الصَّالح، رَوى عن أيُّوبَ وغيرِه، وعنه مُسَدَّدٌ وغيرُه.
          ورُمِي بالقَدَرِ، ونفاهُ عنه ولدُه عبدُ الصمد فيما حكاه عنه البخاريُّ، مات سنةَ ثمانين ومئةٍ.
          وأمَّا شيخُ البخاريِّ فهو أبو مَعْمَرٍ عبدُ الله بنُ عَمرِو بنِ أبي الحَجَّاجِ مَيسَرةُ البَصريُّ الْمُقْعَدُ الْمِنْقَريُّ الحافظُ الحجَّةُ، رَوى عن عبدِ الوارِثِ وغيرِه، وعنه البخاريُّ وأبو داوُدَ، وهو والباقون عن رجلٍ عنه، ورُمي بالقَدَرِ أيضًا، مات سنة أربعٍ وعشرين ومئتين.
          فائدة: هذا الإسناد على شرط الأئمَّة الستَّة، وكلُّهم بصريُّون خلا ابنَ عبَّاسٍ وعِكرِمَةَ، وفيه روايةُ تابعيٍّ عن تابعيٍّ أيضًا.
          الوجه الثَّالث: في فوائدِه:
          الأُولى: المراد بالكتاب هنا القرآنُ، وكذا كلُّ موضِعٍ ذَكَرَ اللهُ _تعالى_ فيه الكتابَ، والمرادُ بالحكمةِ أيضًا القرآنُ كما في قوله _تعالى_: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269].
          وأمَّا قوله _تعالى_: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]، فالمرادُ بها السُّنَّة، وكذا قولُه _تعالى_: / {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، فالقرآنُ أُحكِمتْ آياتُه بُيِّن حلالُها وحرامُها وأوامرُها ونهيُها، والسُّنَّةُ بيَّنَتِ الْمُجْمَلَ وغيرَه، والرِّوايةُ الأخرى: ((اللهُمَّ فَقِّهْهُ)) أي: فهِّمْه الكتابَ والسُّنَّة، ودعا له أيضًا أنْ يعلِّمَه التَّأويلَ أي: تفسيرَ القرآن، فكان فيه منَ الرَّاسخين حتَّى كانَ يُدعى تَرْجُمانَ القرآنِ.
          الثَّانيةُ: بركةُ دعائِه _صلعم_ وإجابتُه.
          الثَّالثةُ: فضلُ العلمِ، والحضُّ على تعلُّمِه وعلى حفظِ القرآن، والدعاءُ بذلك.
          الرَّابعةُ: استحبابُ الضَّمِّ _وهو إجماعٌ_ للطِّفل والقادم مِن سَفرٍ، ولغيرِهما مكروهٌ عند البَغَويِّ، والمختارُ جوازُه، ومَحَلُّ ذلك إذا لم يؤدِّ إلى تحريك شهوةٍ.
          فائدةٌ: (معنى اللهمَّ): يا أَللهُ، والميمُ المشدَّدة عِوَضٌ منْ حرف النَّداء، قاله الخليلُ وسِيْبَوَيْهِ، وقال الفَرَّاءُ: كان الأصلُ: يا اللهُ أُمَّنا بخيرٍ؛ فهي مضمَّنةٌ ما يُسأل بها، ونظيرُه قولُ العرب: هَلُمَّ، والأصل: هَلْ، فَضُمَّت الميمُ إليها، ولو كانت الميم بدلًا عنها لما اجتمعا، وقد قال الشاعر:
وَما عَلَيكِ أنْ تَقُولي كُلَّما                     سَبَّحتِ أو هَلَّلتِ يا اللهُمَّ ما
......................                     اُردُد عَلَيْنا شَيخَنا مُسَلَّما
          وقد استدلَّ الأوَّلُ بهذا على أنَّها عِوضٌ ولا يُجمَع بينَهما إلَّا في الشِّعر.