التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب رفع العلم وظهور الجهل

          ░21▒ باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ
          وَقَالَ رَبِيعَةُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِن الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ.
          80- حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حدَّثنا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_: (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا).
          81- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتادةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ يَقُولُ: (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ).
          الكلامُ عليه مِن أوجهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجه مسلمٌ أيضًا في العلمِ عن شَيبانَ، عن عبدِ الوارث به، وأخرَجَ الثَّانيَ عن محمَّدِ بنِ المثنَّى وبُنْدارٍ، عن غُنْدَرٍ، عن شُعْبَةَ به، وعن أبي بكرِ بن أبي شَيبةَ عن محمَّدِ بنِ بِشْرٍ، وعن أبي كُرَيبٍ عن أبي أُسامة وعَبْدَةَ، كلُّهم عن شُعْبةَ به؛ ولفظُه: ((وَيَفْشُوَ الزِّنَا وَيَذْهَبَ الرِّجَالُ وَيَبْقَى النِّسَاءُ)).
          وفي بعضِ طُرُقِ «الصَّحيح»: ((وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ وَيَكْثُرَ الزِّنَا)) وفي أخرى: ((وَيَكْثُرَ شُرْبُ الخَمْرِ)).
          ثانيها: في التَّعريفِ بِرِجاله؛ وقد سَلَفَ التَّعريفُ بهم خلا عِمرانَ بنَ مَيسَرةَ وأبا التيَّاحِ، ويحيى هو ابنُ سعيدٍ القَطَّانُ.
          فأمَّا أبو التَّيَّاحِ فهو بمثنَّاةٍ فوقُ / ثمَّ مثنَّاةٍ تحتُ ثمَّ ألفٍ ثمَّ حاءٍ مهمَلةٍ، واسمُه يزيدُ بنُ حُمَيدٍ الضُّبَعيُّ مِن أنفُسِهم، وليس في الستَّة مَن يَشترك معه في هذه الكُنية، وربما كُني بأبي حمَّاد، وهو ثقةٌ ثَبْتٌ صالحٌ، وعنه ابنُ عُلَيَّةَ وغيرُه، مات سنةَ ثمانٍ وعشرين ومئةٍ.
          وأمَّا عِمرانُ فهو أبو الحُسين المِنقَريُّ البصْريُّ، روى عنه البخاريُّ وأبو داودَ وأبو زُرْعةَ، مات سنةَ ثلاثٍ وعشرين ومئتين.
          ثالثُها: مناسبةُ قولِ رَبيعة للتَّبويب في رَفْعِ العِلْمِ أنَّ مَن كان فيه فهمٌ وقَبولٌ للعلمِ فلا يضيِّعْ نفسَه بإهمالِه، بل يُقبِلُ عليه ويهتمُّ به، فإنَّه إذا لم يفعلْ ذلك أدَّى إلى رفعِ العِلم، لأنَّ البليدَ لا يَقبَلُ العلمَ فهو عنه مُرتفِعٌ، فلو لم تُصرَفِ الهِمَّةُ إليه أدَّى إلى رفعه مطلقًا.
          ويَحتمِل أنَّ المراد به أنَّ العالِمَ ينبغي له تعظيم العلم بألَّا يَأتيَ أهلَ الدنيا إجلالًا له، فإنَّه إذا أكثَرَ منهم أدَّاه ذلك إلى قلَّة الاشتغال والاهتمام به، ويَحْتَمِل معنًى ثالثًا أنَّ مَن هذا حالُه لا يضيِّع نفسَه بأن يجعلَه للأغراض الدُّنيويَّة، بل يقصِد به الإخلاصَ لتحصُلَ له الثَّمراتُ الأُخْرويَّة فيكون جامعًا للعلم والعملِ به.
          رابعُها: في ألفاظِه ومعانيه:
          الأَشْرَاطُ: العلاماتُ كما تقدَّمَ الكلامُ عليه في حديث جبريلَ.
          والشَّرَط أيضًا رُذال المالِ، والأشراط: الأرذال، فعلى هذا يكونُ المعنى ما ينكرُه النَّاسُ مِن صغار أمورها قبل قيامِها، ونقَل الجَوهريُّ عن يعقوبَ أنَّ الأشراطَ: الأشرافُ أيضًا، فهو إذنْ مِن الأضداد.
          والمرادُ بِرفعِ العِلم قبضُ أهلِه كما سيأتي قريبًا في بابِ: كيف يُقبَضُ العِلْمُ؟ ولذا قِلَّتُه بموتهم لا بِمَحْوِهِ مِن الصُّدور، فيتَّخذُ النَّاسُ عنْد ذلك رؤوسًا جُهَّالًا يتحمَّلون في دين الله برأيهم ويُفْتون بجهلهم، قال القاضي عِياضٌ: وقد وُجِد ذلك في زمنِنا كما أخبر _◙_ فنسأل الله _تعالى_ السَّلامةَ والعافيةَ في القول والعمل.
          قلتُ: فكيفَ لو أدرك زمانَنا؟! فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
          وقوله: (وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ) هو مِن الثُّبوت، قال النَّوويُّ: وكذا هو في أكثرِ نُسَخِ «مسلمٍ»، وفي بعضِها: ((يُبَثَّ)) _بمثنَّاةٍ تحتُ في أوَّلِه ثمَّ باءٍ موحَّدة ثم ثاءٍ مثلَّثةٍ_ أي: ينتشر.
          وقوله: (وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ) أي: يُشرَب شُربًا فاشيًا كمَا جاء في رواية: ((وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ)).
          و(الزِّنا): يُمدُّ ويُقصَرُ، والأولى: لغةُ أهلِ نجدٍ، والثَّانية: لغةُ أهلِ الحجاز.
          وقولُه: (لَأُحَدِّثَنَّكُمْ) كذا في «البخاريِّ»، وفي«صحيح مسلمٍ»: ((أَلَا أُحَدِّثُكُمْ)) بـ((أَلَا)) التي للاستفتاح، وفيْه أيضًا: ((لَا يُحَدِّثُكُمُوهُ))؛ ومرادُ أَنَسٍ بذلك أنَّ الصَّحابةَ انقرضوا ولم يبقَ منْ يحدِّث به غيرُه، ويمكن أنْ يكون قال ذلك لِما رأى مِن نقصِ العلم، فوَعَظَهم بما سَمِع منَ النبيِّ _صلعم_ في نقصه وأنَّه من أشراط الساعة، ليَحثَّهم على طلبه.
          وقوله: (وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ) قلَّة الرِّجال بكثرةِ القتلِ، وذلك عند فتح القُسطَنطينيَّة وما شابهها مِن الملاحم، فتكثر النِّساءُ إذْ ذاك ويكثرُ الفساد.
          و(القَيِّم) والقيَّام: القائم بالأمر، أراد فيضَ المالِ، فتُكْسَبُ الإماءُ فيكونُ للرَّجل الواحدِ الإماءُ الكثيرةُ، أو بسبب قتلِ الرِّجال يكثُرُ النِّساءُ، فيقلُّ مَن يقوم بمصالحهنَّ، أو إذا قلَّ الرِّجال وغَلَب الشَّبَقُ على النِّساء يَتْبَعُ الرجلَ الواحدَ ما ذُكِرَ مِن النِّساء، كلُّ واحدةٍ تقول: انكحني.
          وهذا الحديث علَمٌ مِن أعلام نبوَّته _◙_ حيثُ أخبر بقلَّة الرِّجال في آخر الزَّمان وكثرةِ النِّساء.