التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من سمع شيئًا فراجع حتى يعرفه

          ░36▒ بَاب مَنْ سَمِعَ شَيْئًا فَرَاجَعَ فيه حَتَّى يَعْرِفَهُ
          103- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أخبرنا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ _زَوْجَ النَّبِيِّ صلعم_كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ قَالَ: (مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللهُ _تَعَالَى_: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}؟ [الانشقاق:8]، قَالَتْ: فَقَالَ إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ).
          الكلام عليه مِن أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه البخاريُّ في مواضعَ: هنا كما ترى، وفي التَّفسير والرِّقاق عن عَمرو بن عليٍّ عن يحيى عن عثمان بن الأسود، وفي الرِّقاق أيضًا عن عبيد الله بن موسى عن عثمان بن الأسود، وفي التَّفسير عن سليمانَ بنِ حربٍ عن حمَّادٍ عن أيُّوبَ، وقال عقب حديث عَمرو بن عليٍّ: تابَعَه ابنُ جُرَيجٍ ومحمَّدُ بنُ سُلَيمٍ وأيُّوبُ وصالحُ بن رُستُمَ عن ابن أبي مُلَيكةَ: سمعتُ عائشةَ.
          وأخرجه مسلم في أواخرِ الكتاب عن أبي بكرٍ وابن حُجْرٍ عن ابن عُلَيَّةَ عن أيُّوبَ، وعن أبي الرَّبِيع وأبي كاملٍ عن حمَّادٍ عن أيُّوبَ، وعن عبد الرحمن بن بِشْرٍ عن يحيى القَطَّان عن عثمانَ بنِ الأسود كلاهما عن ابن أبي مُلَيكةَ.
          وأخرجه في التفسير عن مسدَّدٍ عن يحيى، وفي الرِّقاق عن إسحاقَ بن منصورٍ عن رَوحٍ.
          وأخرجه مسلمٌ أيضًا عن عبد الرحمن بن بِشرٍ عن يحيى، كلاهما عن أبي يونُسَ حاتمٍ عن ابن أبي مُلَيكةَ عن القاسم عن عائشةَ، زاد فيه القاسمَ بينهما.
          ثانيها: في التعريف برُواته غيرِ مَن سلف التَّعريف بهم.
          فأمَّا نافعٌ فهو: نافعُ بنُ عمرَ بنِ عبدِ الله بنِ جميلِ بنِ عامرِ بنِ خُثَيمِ بنِ سعيدِ بنِ عامرِ بنِ حِذْيَمِ بنِ سَلَامَانَ بنِ رَبيعةَ بنِ سَعْدِ بنِ جُمَحَ القرشيُّ الجُمَحيُّ المكيُّ، وهو ثَبْتٌ حُجَّةٌ، مات سنةَ تسعٍ وستين ومئةٍ.
          وأمَّا سعيدٌ: فهو أبو محمَّدٍ سعيدُ بنُ الحكَم بنِ محمَّدِ بن أبي مَريمَ الجُمَحيُّ الْمِصريُّ.
          سمع مالكًا وغيرَه، وعنه البخاريُّ هنا وغيرَه، وروى مسلمٌ والتِّرمذيُّ وأبو داودَ والنَّسائيُّ وابنُ ماجه عن رجلٍ عنه، وروى البخاريُّ في تفسير سورة الكهف عن محمَّد بن عبد الله عنه_قال الحاكم: يقال: إنَّه الذُّهْليُّ محمَّد بن يحيى_ وكان فقيهًا مِصريًّا ثقةً، مات سنة أربعٍ وعشرين ومئتين.
          قال أحمدُ بنُ عبدِ الله: كان له دِهْلِيزٌ طويلٌ يأتيه الرَّجلُ يقف يسلِّم عليه، فيردُّ عليه: لا سلَّم الله عليك ولا حَفِظَك، فأقول: ما لِهذا؟ فيقول: / قَدَرِيٌّ، ويقول مثلَه لآخرَ، فأقولُ: ما لِهذا؟ فيقول: رافضيٌّ خبيثٌ، لا يظنُّ إلَّا ردَّ عليه سلامه، وكان عاقلًا لم أرَ بمصرَ أعقلَ منه، وأتاه رجلٌ فسَأله أن يحدِّثه فامتنعَ، وسأله آخرُ فأجابه، فقال له الأوَّل: سألتُك فلم تُجِبْني، وسألَك فأجبتَه؟ فقال: إنْ كنتَ تعرف الشَّيبانيَّ مِن السِّينانيِّ، وأبا جَمْرَةَ من أبي حمزةَ، وكلاهما عن ابنِ عبَّاسٍ حدَّثناك.
          ثالثُها: استدرك الدَّارَقُطْنِيُّ هذا الحديثَ على الشَّيخين، وقال: اختلفَتِ الرِّواية فيه عن ابن أبي مُلَيكةَ فرُوي عنه عن عائشةَ، وعنه عن القاسم عنها.
          والجواب أنَّ هذا ليس علَّةً لجواز أن يكون سمعَه منها ومن القاسم عنها.
          رابعها: قوله: (كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ) انفرد به البخاريُّ عن مسلمٍ، وفي بعض طُرقه: ((لَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةَ إلَّا عُذِّبَ)) وذكره البخاريُّ في التَّفسير بلفظِ: ((إلَّا هَلَكَ)) قال الهَرَويُّ: انتقشتُ منه حقِّي: استقضيتُه منه، ومنه نَقَشَ الشَّوكةَ: استخرجَها.
          ومعنى الحديث: أنَّه مُفْضٍ إلى استحقاق العذاب، إذ لا حسنةَ للعبد يعملها إلَّا مِنْ عند الله وبفضله وإقداره له عليها وهدايته لها، وأنَّ الخالص مِن الأعمال قليلٌ، ويؤيِّدُه قولُه: ((يَهْلِكُ)) مكان ((يُعَذَّبُ)).
          ويحتمل _كما قال القاضي_ أنَّ نفسَ مناقشة الحساب يومَ عرضِ الذُّنوبِ والتَّوقيفَ على قبيح ما سلف له تعذيبٌ وتوبيخٌ.
          وسيأتي إيضاح هذا الحديثِ في سورة الانشقاق مِن التَّفسير [خ¦4939] إن شاء الله تعالى.