التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟

          ░44▒ بَاب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَيَكِلُ الْعِلْمَ فيه إِلَى اللهِ تعالى
          122- حَدَّثَنَا عبدُ الله بْنُ محمَّدٍ، حدَّثنا سُفْيَانُ، حدَّثنا عَمرٌو: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بنُ جُبَيرٍ قَالَ: قُلْتُ / لِابن عبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ، فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ، حدَّثني أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قال: ((قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ _صلعم_ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟..)) ثمَّ ساق الحديث بطوله.
          والكلام عليه من وجوهٍ:
          أحدها: هذا الحديث سلف قريبًا في موضعين مختصرًا من كتاب العلم، وأتى به في كتاب الأنبياء أتمَّ، وقد سلف في باب ما ذُكر من ذهاب موسى في البحر إلى الخَضِر ♂ تعدادُ طرقه [خ¦74].
          ثانيها: في التَّعريف برواته: وقد سلف.
          ثالثها في ألفاظه ومعانيه:
          الأولى: نَوفٌ بفتح النُّون، والبِكَاليُّ _بكسر الباء الموحَّدة وفتح الكاف المخفَّفة وفي آخره لامٌ_ نسبةٌ إلى بني بِكالٍ بطنٍ مِن حِميَرٍ، وهو نَوفُ بنُ فَضالةَ، قال أبو العبَّاس أحمدُ بنُ عُمَرَ: وعند أبي بحرٍ والخُشَنيِّ بفتح الباء وتشديد الكاف، قال: ونسبه بعضهم في حِميرٍ، وآخرون في هَمْدانَ، قال: وكان نوفٌ عالمًا فاضلًا إمامًا لأهلِ دمشقَ.
          قال ابنُ التِّين: وكان حاجبًا لعليٍّ، وكان قاصًّا، وهو ابن امرأة كعب الأحبار على المشهور، وقيل: ابن أخته، وكنيته: أبو زيدٍ، وقيل: أبو رشيدٍ.
          وقال ابن العربيِّ في«الأحوَذيِّ»: لعلَّه منسوبٌ إلى بَكِيلٍ بطنٍ مِن هَمْدانَ، وليس كما قال، فالمنسوب إلى ما ذكرَ هو أبو الودَّاك جبرُ بنُ نَوفٍ وغيرُه، وأمَّا نوفٌ هذا فمنسوبٌ إلى بِكالٍ بطنٍ من حِميرٍ كما سلف، وهو المذكور في كتب الأنساب.
          الثَّانية: قوله: (كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ) هذا قاله على سبيل الإغلاظ على القائل بخلاف قوله، فإنَّه ليس غيره وألفاظ الغضب تجيء على غير الحقيقة غالبًا.
          الثَّالثة: السائل هنا هو سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وابنُ عبَّاسٍ هو المخبرُ، ووقع فيما مضى [خ¦74] أنَّ ابنَ عبَّاسٍ تمارى هو والحرُّ بنُ قيسٍ في صاحب موسى، فقال ابنُ عبَّاسٍ: هو خضرٌ، فمرَّ بهما أبيُّ بنُ كعبٍ فسأله ابنُ عبَّاسٍ فأخبره، فيحتمل أنَّ سعيدَ بنَ جُبَيرٍ سأل ابنَ عبَّاسٍ بعد الواقعة الأولى المتقدِّمة لابن عبَّاسٍ مع الحرِّ، فأخبره ابن عبَّاسٍ لمَّا سأله عن قول نوفٍ: إنَّ موسى ليس موسى بني إسرائيل.
          وجاء أنَّ السائلَ غيرُ ابنِ جُبَيرٍ، رُوي عنْ سعيدٍ قال: جلست إلى ابنِ عبَّاسٍ وعنده قومٌ مِن أهل الكتاب فقال بعضهم: يا أبا عبد الله إنَّ نَوفًا ابنُ امرأة كعبٍ يزعم عن كعبٍ أنَّ موسى النَّبيَّ الَّذي طلب العلم إنَّما هو موسى بنُ ميشا، فقال ابنُ عبَّاسٍ: كذب نَوفٌ، حدَّثني أُبيٌّ، وذكر الحديث.
          الرَّابعة: قوله: (فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ) تقدَّم الكلام عليه في باب: ذهاب موسى إلى الخَضِرِ ♂ [خ¦74]، فينبغي لمن سُئِل عمَّا لا يعلم أنْ يقول: لا أعلم، وقد قال مالكٌ: جُنَّة العالم: لا أدري، فإذا أخطأها أُصِيبت مقاتلُه.
          وقال ابن المنيِّر: ظنَّ الشَّارح _يعني ابنَ بطَّالٍ_ أنَّ المقصود من الحديث التَّنبيهُ على أنَّ الصَّواب من موسى كان تركَ الجواب، وأن يقول: لا أعلم، وليس كذلك، بل ردُّ العلم إلى الله _تعالى_ متعيِّنٌ، أجاب أو لم يجب، فإن أجاب قال: الأمر كذا والله أعلم، وإن لم يجب قال: الله أعلم، ومِن هنا تأدَّب الْمُفْتون في أجوبتهم بقولهم: والله أعلم، فلو قال موسى: أنا، والله أعلم، لكان صوابًا، وإنَّما وقعت المؤاخذة باقتصاره على: (أنا أعلم).
          الخامسة: (مجمَع البَحرَين) هما بحر الرُّوم ممَّا يلي الغرب وبحرُ فارسَ ممَّا يلي الشَّرق، قاله قَتادة، وحكى الثَّعلبيُّ عن أُبيِّ بن كعبٍ أنَّه بإفريقيَّةَ، وقيل: بحر الأردنِّ وبحر القُلزُم، قال السُّهيليُّ وقيل بحر المغرب وبحر الزقاق، قال ابن عبَّاسٍ: اجتمع البحران موسى والخضر ♂ بمجمع البَحرين.
          السَّادسة: (الحوت) السَّمَكة، وكانت مالحة. و(المِكتَل) _بكسر الميم وفتح المثنَّاة فوق_: القُفَّة والزِّنبيل، و(فتاه): صاحبه. ويُوشَع بنُ نون، سلف.
          السَّابعة: قوله: (حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُؤوسَهُمَا فَنَامَا، فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِن الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا) وفي روايةٍ للبخاريِّ: ((وَفِيْ أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا: الْحَيَاةُ لَا يُصِيْبُ مِنْ مَائِهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ، فَأَصَابَ الْحُوتُ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ فَتَحَرَّكَ وَانْسَلَّ مِنَ الْمِكْتَلِ فَدَخَلَ الْبَحْرَ)).
          وفي روايةٍ أخرى له: ((فَقَالَ فَتَاهُ: لَا أُوْقِظُهُ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ، وَأَمْسَكَ اللهُ عَنِ الْحُوْتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ يُوْشَعُ أَنْ يُخْبِرَهُ)).
          فنسي يُوشع وحدَه، ونُسِب النِّسيان إليهما، فقال تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف:61] كما قال _تعالى_: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وإنَّما يخرج من الملح، وقيل: نسي موسى أن يتقدَّم إلى يوشع في أمر الحوت، ونسي يوشع أن يخبره بذهابه {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف:61] صار عليه الماء مثل الطَّاق، والطَّاق: عقد البناء وهو الأزَجُ، وهو ما عقد أعلاه بالبناء وتُرِك تحته خاليًا.
          و(الصَّخرة): هي الَّتي دون نهر الزَّيت بالمغرب، قال أبيُّ بن كعبٍ: إفريقيَّة، وقال مجاهدٌ: بين البحرين.
          الثَّامنة: انتصب (سرَبًا) على المفعول كما قال الزَّجَّاج، أو على المصدر كأنه قال: سرَب الحوت سرَبًا.
          قال ابن عبَّاسٍ: أحيا الله الحوت فاتَّخذ سبيله في البحر سربًا، والسَّرَب: حفيرٌ تحت الأرض، وجاء: ((فَجَعَلَ الْمَاءُ لَا يَلْتَئِمُ حَتَّى صَارَ كَالكُوَّةِ)).
          التَّاسعة: الضَّمير للحوت ويؤيِّده قوله: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف:61] وكان لموسى وفتاه عجبًا، ويبعد أن يكون لموسى، أي: اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر سربًا _أي: مذهبًا ومسلكًا_ فإنَّه اتَّبع أثره ويبس الماء في ممرِّه، فصار طريقًا.
          العاشرة: / قوله (فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا) كذا جاء هنا، وفي كتاب التَّفسير و«مسلمٍ»: ((بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتَهِمَا)) وهي الصَّواب لقوله: ((فَلَمَّا أَصْبَحَ)) وفي روايةٍ: ((حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ)) قال النَّوويُّ: وضبطوه _يعني في «مسلمٍ»_ بنصب ((لَيْلَتَهُمَا)) وجرِّها.
          الحاديةَ عشرةَ: قوله: {فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64] أي: يقصَّان قصصًا، أي: فرجعا يقصَّان آثارَهما حتى أتيا الصَّخرة.
          وفي «مسلمٍ»: ((فَأَرَاهُ مَكَانَ الْحُوْتِ، فَقَالَ: هَا هُنَا وُصِفَ لِي)) وفيه: ((فَأَتَيَا جَزِيْرَةً فَوَجَدَا الخَضِرَ قَائِمًا يُصَلِّي عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ))، أي: وسطه.
          وفي «البخاريِّ»: ((فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوبٍ، أَوْ قَالَ: تَسَجَّى بِثَوْبِهِ)) أي مغطًّى به كلُّه كتغطية الميِّت وجهِه ورجليه وجميعِه، كما جاء في روايةٍ أخرى له: ((قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلِهِ، وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوْسَى، فَكَشَفَ الخَضِرُ عَنْ وَجْهِهِ)).
          الثَّانيةَ عشرةَ: قوله: (فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟) قال عياضٌ: تجيء (أنَّى) بمعنى أين ومتى وحيث وكيف، قال: وهذا يدلُّ على أنَّ السَّلام لم يكن معروفًا عندهم إلَّا في خاصَّة الأنبياء والأولياء، أو كان موضع بلاد كفرٍ وهم ممَّن لا يعرف السَّلام، وفي روايةٍ للبخاريِّ: ((قَالَ: فَمَا شَأْنُكَ؟ إِنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيْكَ يَا مُوْسَى)).
          الثَّالثةَ عشرةَ: معنى {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67] أنَّك سترى شيئًا ظاهرُه منكَرٌ فلا تصبرُ عليه، ((يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ الله لَا أَعْلَمُهُ))، وفي رواية أخرى له: ((فَمَا شَأْنُكَ؟ وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ؟ يَا مُوسَى، إِنَّ لِي عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ، وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْلَمَهُ)).
          ولم يسأله موسى عن شيءٍ مِن دينه؛ لأنَّ الأنبياء لا تجهل شيئًا من دينها الَّتي تعبَّدت به أمَّتها، وإنما سأله عمَّا لم يكن عنده علمه ممَّا ذُكِر في السُّورة.
          الرَّابعةَ عشرةَ: (السَّفينة) فَعِيلةٌ بمعنى فاعلةٍ، كأنَّها تسفُن الماء، أي تقشِره.
          و(النَّول) _بالواو_ والمنال والمنالة كلُّه: الجُعل، وأمَّا النَّيل والنَّوال: فالعطيَّة ابتداءً، يقال: رجلٌ نالٌ إذا كان كثير النَّوال، كما قالوا: رجلٌ مالٌ، أي: كثير المال، تقول: نُلْتُ الرجلَ أنوله نَولًا، ونِلتُ الشَّيءَ أناله نَيلًا.
          وقال صاحب «العين»: أنلته المعروفَ ونُلتُه ونوَّلته، والاسم النَّول والنَّيل، يقال: نال ينال مَنالًا ومَنالةً، والنَّولة: اسمٌ للقُبلة.
          و((العُصفور)): بضم العين.
          الخامسةَ عشرةَ: قوله: (فَقَالَ الْخَضِرُ: مَا نَقصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ من هذا الْبَحْرِ) اعلم أنَّ لفظ النَّقص هنا ليس على ظاهره؛ فإنَّ علم الله _تعالى_ لا يدخله الزِّيادة ولا النُّقصان، وإنَّما هذا على جهة التَّمثيل.
          والمعنى: أنَّ علمي وعلمك بالنِّسبة إلى علم الله كنسبة ما نقر العصفور من البحر، فإنَّه لقلَّته وحقارته لا يظهر، فكأنَّه لم يأخذ شيئًا، وهذا كقوله _تعالى_: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي}الآية[الكهف:109].
          قال القاضي عياضٌ: أو يرجع ذلك في حقِّهما، أي: ما نقص علمنا ممَّا جهلنا من معلومات الله إلَّا مثل هذا في التقدير، وجاء في «البخاريِّ»: ((مَا عِلْمِيْ وَعِلْمُكَ فِيْ جَنْبِ عِلْمِ اللهِ _أي: معلومِه_ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُوْرُ))، وقال بعضهم: إنَّ (إلَّا) هنا بمعنى: ولا، كأنَّه قال: ما نقص علمي وعلمك مِن علم الله، ولا ما أخذَ هذا العصفور من هذا البحر؛ لما تقدَّم من أنَّ علم الله _تعالى_ لا ينقص بحالٍ؛ ولا حاجة إلى هذا التكلُّف لما بينَّاه مِن التمثيل.
          السَّادسةَ عشرةَ: قوله: (فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ) قال المفسِّرون: قلع لوحين ممَّا يلي الماء، وفي «البخاريِّ»: ((فوتدَ فيها وتدًا))، وفيه: ((فعمَد إلى قَدُومٍ فخرقَ به)).
          السَّابعةَ عشرةَ: في خرقه السَّفينة _كما قال القاضي_ مخافةَ أخذ الغاصب حجَّةٌ للنَّظر في المصالح ودفع أخفِّ الضَّررين، والإغضاء على بعض المنكرات مخافةَ أن يتولَّد من عدم تغييرها ما هو أشدُّ، وجواز إفساد بعض المال لإصلاح باقيه، وخِصاء الأنعام لسمَنِها، وقطع بعض آذانها للتمييز.
          الثامنةَ عشرةَ: قوله: (فَعَمَدَ) هو بفتح العين والميم، يقال: عَمَد بفتح الميم في الماضي، يعمِد بكسرها في المستقبل.
          التَّاسعةَ عشرةَ: معنى: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف:73] أي: غفلت، وقيل: لم ينسَ ولكنه ترك، والتَّرك يسمَّى نسيانًا، وفي «البخاريِّ»: ((فَكَانَتِ الأُوْلَى مِنْ مُوْسَى نِسْيَانًا)) وفي موضعٍ آخرَ منه: ((وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمدًا)) وقيل: نسي في الأولى فاعتذر، ولم ينس في الثَّانية فلم يعتذر.
          العشرون: معنى {وَلَا تُرْهِقْنِي} [الكهف:73]: لا تَغُشَّني، وقيل: لا تُلْحِقْ بي وهمًا، يقال: رهِقه الشَّيء _بالكسر_ يرهَقه _بالفتح_ رهَقًا _بالتَّحريك_ إذا غشيَه، وأرهقتُه: كلَّفته ذلك، يقال: لا تُرهقني لا أرهقَك الله، أي: لا تُعْسِرْني لا أعسَرك الله.
          الحاديةُ بعد العشرين: قوله: (فَإِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلَاهُ فَاقْتَلَعَه بِيَدِهِ) وجاء فيه في بدء الخلق: ((فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ فَقَطَعَهُ بِيَدِهِ هَكَذَا)) وأومَأ سفيان بأطراف أصابعه كأنَّه يقطُف شيئًا.
          وفيه في التَّفسير: ((فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا مَعَ الْغِلْمَانِ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ فَقَتَلَهُ))، وجاء: ((فَوَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ، فَأَخَذَ غُلَامًا كَافرًا ظَرِيْفًا فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّيْنِ)).
          وقال الكلبيُّ: صرعه ثم نزع رأسَه من جسده فقتله، فقال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف:74] أي: طاهرةً، وفي «مسلمٍ»: ((فَذُعِرَ مُوْسَى ذَعْرَةَ مُنْكِرٍ عِنْدَهَا)) وفيه أيضًا: ((وَأَمَّا الْغُلَامُ فَطُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيْهِ، فَلَوْ أَنَّهُ أَدْرَكَ أَرْهَقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا))، وهو معنى قوله: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80] والطغيان: الزِّيادة في الإضلال.
          قال البخاريُّ: وكان ابنُ عبَّاسٍ يقرؤها: {وكان أبواه مُؤمنين وكان هو كافرًا}. وعنه: وأمَّا الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين.
          وأوَّل ابن بطَّالٍ قوله: ((كَانَ كَافرًا)) باعتبار ما يؤولُ إليه لو عاش، قال: ووجهُ استيجابه القتل لا يعلمهُ إلَّا الله، ولله _تعالى_ أن يُميت مَن شاء من خلقِه قبل البلوغ وبعده، ولا فرقَ بين قتلِه وموته، وكلُّ ذلك لا اعتراضَ عليه فيه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23].
          فائدة: الغلام: جَيْسُورُ كما ذكره في التَّفسير، وهو بجيمٍ وسينٍ وراءٍ مهملةٍ، قاله ابن مَاكُولا.
          وغيره ذكر أنَّه اسم الملك الَّذي كان يأخذُ كل سفينةٍ غصبًا، وهو عجيبٌ، ومنهم مَن أبدل الراء بنونٍ، وسيأتي فيه زيادةٌ في التَّفسير.
          وقال ابن جريرٍ: أخذ الخضرُ صخرةً فثلغَ بها رأسه.
          واسم أبيه: كازيري، وأمُّه: سَهْوَى، وقيل: اسم أبيه مَلَّاسُ واسم أمِّه: رَحْمَى.
          الثَّانية بعد العشرين: في إخباره عن حال السَّفينة لو لم تُخرَق والغلامِ لو لم يُقتَل دلالةٌ لمذهب أهل الحقِّ أنَّ الله _تعالى_ عالمٌ بما كان وبما يكون أن لو كان كيف يكون، ويدلُّ عليه قوله _تعالى_: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] وقولُه _تعالى_: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا}الآية[الأنعام:9]. /
          الثَّالثة بعد العشرين: قوله: (غُلَامًا) يدلُّ على أنَّه كان غيرَ بالغٍ، والغلام: اسم للمولود إلى أن يبلغ، وزعمَ قومٌ أنَّه كان بالغًا يعمل الفساد، واحتجُّوا بقوله _تعالى_: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} [المائدة:32] والقِصاص إنَّما يكون في حقِّ البالغ.
          وأجاب الجمهور عن ذلك بأنَّا لا نعلم كيف كان شرعُهم، فلعلَّه كان يجب على الصَّبيِّ في شرعه كما يجب في شرعنا عليهم غرامةُ الْمُتْلَفات.
          الرَّابعة بعد العشرين: قوله: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} [الكهف:77] قال ابنُ عبَّاسٍ: هي: أنطاكيةُ، وقال ابن سِيرين: أَيْلَةُ، وهي أبعدُ الأرضِ من السَّماء، وجاء: أنَّهم كانوا مِن أهل قريةٍ لئامٍ، وقيل: من بَرْقَة.
          الخامسة بعد العشرين: قوله _تعالى_: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77] هذا مِن الْمَجاز، أي: يسقطَ بسرعة، قال الكِسائيُّ: إرادة الجدار هنا ميلُه، وقيل: على مجاز كلام العرب؛ لأنَّه لمَّا قرُب الحائط من الانقضاض كان كمَن يريد أن يفعلَ ذلك، وكان أهل القرية يمرُّون تحته على خوفٍ، وفي روايةٍ للبخاريِّ: ((مَائِلٍ فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا)) وفي روايةٍ قال: ((فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ)).
          وذكر الثَّعلبيُّ أنَّ سُمْكَ الجدار مئتا ذراعٍ بذلك الذِّراع الَّذي لذلك القَرْنِ، وطولُه على وجه الأرض خمس مئة ذراعٍ، وعرضه خمسون ذراعًا، قيل: إنَّه مسحه كالطِّين فاستوى.
          وجاء في كتاب الأنبياء: ((فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ هَكَذَا)) وأشار سفيانُ كأنَّه يمسحُ شيئًا إلى فوقُ، وهذه آيةٌ عظيمةٌ تشبه آيةَ الأنبياء.
          وذكر الطَّبريُّ عن ابن عبَّاسٍ، قال: كان قولُ موسى في الجدار لنفسه ولطلب شيءٍ مِن الدُّنيا، وفي السَّفينة والغلام لله.
          السَّادسة بعد العشرين: قوله: {لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، أي: تأكلُه، كما قاله سعيدٌ، والتَّاء فاء الفعل، يقال: تَخِذ يَتْخَذُ، والاتَّخاذ: افتعالٌ من الأخذ، إلَّا أنَّه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدالها تاءً، ولمَّا كثر استعماله على لفظ الافتعال توهَّموا أنَّ التاء أصليَّة، فبنَوا منها فَعِل يفعَل، قالوا: تَخِد يتخَذُ، وقولهم: أَخَذتُّ كذا، يبدلون الذَّال تاءً، فيدغمونها، وبعضهم يُظهر.
          السَّابعة بعدَ العشرين: قوله _صلعم_: (يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا) فيه دلالةٌ على تمنِّي ما علم أنَّه لم يقدَّر، ويقال: إنَّه لمَّا أراد التفرُّق قال الخَضِرُ لموسى: لو صبرتَ لأتيت على ألف عجبٍ كلٌّ أعجب ممَّا رأيتَ.
          الثَّامنة بعد العشرين: اسم الملك فيما يزعمون هُدَدُ بنُ بُدَدَ، واسم الغلام جَيْسُورُ، وقد سلف ما فيه، وفي اسم الملك أقوالٌ أخرُ ستأتي في قصص الأنبياء في باب: حديث الخضر مع موسى [خ¦3401].
          التَّاسعة بعد العشرين: قوله _تعالى_: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا} [الكهف:80] أي: يحملهُما حبُّه على أن يُتابِعاه على دينه.
          الثَّلاثون: قوله _جلَّ وعزَّ_: {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81] الرُّحم: الرَّحمة، وفي روايةٍ في «البخاريِّ»: ((هُمَا بِهِ أَرْحَمُ مِنْهُمَا بِالْأَوَّلِ الَّذِي قَتَلَ خَضِرٌ))، وزعم سعيدٌ أنَّهما أُبدِلا جاريةً، يقال: إنَّه وُلِد من نسلها سبعون نبيًّا، وقيل: تزوَّجت بنبيٍّ، فولدت نبيًّا هدى الله به أمَّةً.
          قال ابن دُرَيدٍ في «وِشاحه»: واسم اليتيمين: أصرمُ وصريمٌ ابنا كاشحٍ، والأب الصَّالح الَّذي حُفِظ كنزهما مِن أجله بينهما وبينه سبعة آباءٍ، وقيل: عشَرةٌ، واسم أمِّهما: دنيا.
          والكنز جاء في حديث ابن عمرَ مرفوعًا عند التِّرمذيِّ: أنَّه كان ذهبًا وفضَّةً، وروي من وجهٍ آخر: أنَّه كان عِلمًا وحكمةً، ويُجمَع بينهما بما رُوِي: أنَّه كان لوحًا من ذهبٍ مكتوبٌ فيه بعد البسملة: عجبًا لمن أيقنَ أنَّ الموت حقٌّ كيف يفرح؟ وعجبًا لمن أيقن بالقدر كيف يحذَر، وعجبًا لمن رأى الدُّنيا وتقلُّبَها بأهلها كيف يطمئنُّ إليها؟ وعجبًا مَن عرفَ النَّار ثمَّ عصى، لا إله إلا الله محمَّدٌ رسول الله.
          الحادية بعد الثَّلاثين: في هذه القصَّة أصلٌ عظيمٌ من الأصول الشَّرعيَّة، وهو أنَّه لا اعتراضَ بالعقل على ما لا يُفهم من الشَّرع، وأن لا تحسينَ ولا تقبيح إلَّا بالشرع، ألا ترى إلى ظهور قُبح قتل الغلام وخرق السَّفينة في الظَّاهر.
          ولذلك اشتدَّ نكيرُ موسى، فلمَّا أطلعه الخَضِرُ على سرِّ ذلك بان له وجهُ الحكم فيه، فيجب التَّسليم لكلِّ ما جاء به الشَّرع، وإن كان بعضُه لا تظهر حكمتُه للعقول، فإنَّ ذلك محنةٌ مِن الله _تعالى_ لعباده واختبارٌ لهم لتتمَّ البلوى عليهم، ولمخالفة هذا ضلَّ أهل البدع حين حكَّموا عقولهم وَرَدُّوا إليها ما جهلوه مِن معاني القدر وشِبْهِهِ.
          وهذا خطأٌ منهم؛ لأنَّ عقول العباد لها نهايةٌ، وعلم الباري _سبحانه وتعالى_ لا نهايةَ له، قال _تعالى_: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، فما أخفاه عنهم فهو السِّرُّ الَّذي استأثرَ به، فلا يحل تعاطيه، ولا يُكلَّف طلبه، فإنَّ المصلحة للعباد في إخفائه منهم، والحكمة في طَيِّه عنهم إلى يوم تُبلى السَّرائر، والله هو الحكيم العليم، قال _تعالى_: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون:71].
          الثَّانية بعد الثَّلاثين: قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى} [الكهف:82] ظاهره أنَّه فعله بوحيٍ من الله _تعالى_ بذلك إليه، ويشهد لهذا وجوهٌ مِن القصَّة:
          منها أنَّه لا يجوزُ لأحدٍ أن يقتلَ نفسًا لما يتوقَّع وقوعَه منها بعد حينٍ ممَّا يوجب عليها القتل؛ لأنَّ الحدود لا تجب إلَّا بعد وقوعها.
          ومنها أنَّه لا يُقطَع على فعل أحدٍ قبل بلوغه، ولا يعلمُه إلا الله؛ لأنَّه غيب.
          ومنها الإخبار عن أخذ الملك السَّفينةَ غصبًا، والإخبار عن بنيانه الجدار مِن أجل الكنز الَّذي تحته، ليكون سببًا إلى استخراج الغلامَين له إذا احتاجا إليه مراعاةً لصلاح أبيهما، وهذا كلُّه لا يُدركُ إلَّا بوحيٍ، وفيه إذنْ دِلالةٌ ظاهرةٌ لمن قال بنبوَّة الخضر ◙.
          الثَّالثة بعد الثَّلاثين: فيه مِن الفقه استخدام الصَّاحب لصاحبه ومتعلِّمه إذا كان أصغرَ منه، وأنَّ العالم قد يُكرَم بأن تُقضى له حاجةٌ أو يُوهبَ له شيءٌ ويجوز له قَبول ذلك؛ لأنَّ الخَضِرَ _◙_ حُمِل بغير أجرٍ، وهذا إذا لم يتعرَّض لذلك، وأنَّه يجوز للعالم والصَّالح أن يعِيبَ شيئًا لغيره إذا علم أنَّ لصاحبه في ذلك مصلحةً.