التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب متى يصح سماع الصغير

          ░18▒ بَابُ مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ
          76- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حدَّثنا مَالِكٌ عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبيد الله بْنِ عبدالله بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عبد الله بن عبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللهِ _صلعم_ يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ ودَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ.
          77- حَدَّثَنا محمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حدَّثنا أَبُو مُسْهِرٍ: حَدَّثَنِي محمَّد بْنُ حَرْبٍ، حدَّثنا الزُّبَيْدِيُّ عَن الزُّهْريِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: عَقَلْتُ مِن النَّبِيِّ _صلعم _ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي رسولُ الله _صلعم_ وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ.
          ذَكر البخاريُّ _☼_ في البابِ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ وحديثَ محمودِ بنِ الرَّبيعِ.
          أمَّا حديثُ ابنِ عبَّاسٍ فالكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجَه البخاريُّ هنا كمَا ترى، وفي الصَّلاة في باب: سُتْرَةُ الإِمَامِ / سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَهُ، عن ابنِ يوسُفَ والقَعْنَبِيِّ عن مالكٍ، وفي الحجِّ في باب: حجِّ الصِّبيانِ، عن إسحاقَ عن يعقوبَ بنِ إبراهيمَ عن ابنِ أخي الزُّهْريِّ، وفي الْمَغازي وحَجَّة الوَداعِ: وقال اللَّيث حدَّثني يونُسُ؛ كلُّهم عن ابنِ شِهابٍ.
          وأخرجَه مسلمٌ في الصَّلاة عن يحيى بنِ يحيى عن مالكٍ، وعن حَرْمَلةَ عن ابنِ وَهْبٍ عن يونُسَ، وعن يحيى بنِ يحيى والنَّاقدِ وإسحاقَ عن ابنِ عُيَينةَ، وعنْ إسحاقَ وعبدِ بن حُمَيدٍ عن عبدِ الرزَّاقِ عن مَعْمَرٍ؛ خمستُهم عن الزُّهْريِّ به.
          وزاد البخاريُّ في الحجِّ فيه: ((أَقْبَلْتُ أَسِيْرُ عَلَى أَتَانٍ لِي حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا))، ولمسلمٍ: ((فَسَارَ الحِمَارُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ)).
          الوجه الثَّاني: في التَّعريفِ برُواتِه، وقدْ سَلَفَ.
          الثَّالثُ في ألفاظِه:
          الأوَّلُ: قولُه: (عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ)، الحمار: اسمُ جِنْسٍ للذَّكرِ والأُنثى كلفظِ الشَّاة والإنسانِ، وربَّما قالوا للأَتان: حِمارةٌ، حكاه الجَوهريُّ.
          والأَتان _بفتح الهَمزة_: الأنثى مِن جنسِ الحُمُرِ، ولا تَقُلْ: أَتانةٌ، وحُكي عن يونُسَ وغيرِه: أَتانةٌ، و(حِمَارٍ أَتَانٍ) _بتنوينهما_ إمَّا على البَدل أو على الوصفِ، وقال بعضُهم: هو وصفٌ لحمارٍ على معنى: صُلْبٍ قَويٍّ، مأخوذٌ من الأَتان وهي الحجارة الصُّلبة.
          والمراد بالبدلِ: بدُل الغَلَطِ أو بدل البعضِ من الكلِّ؛ إذ الحمارُ اسمُ جنسٍ يشمَل الذَّكر والأنثى، كمَا قالوا: بعيرٌ، وضُبط بالإضافة أيضًا أي: (حمارِ أنثى)، وقال ابنُ الأَثير: إنَّما قال: حمارٍ أتانٍ، ليُعلمَ أنَّ الأنثى من الحمر لا تقطع الصلاة فلذا لا تقطعُها المرأةُ.
          الثَّاني: معنى (نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ): قاربتُه ودانيتُه، يقال: ناهَزَ الصَّبيُّ البلوغَ، أي: داناه، ويقال: يَتناهزان إمارةَ كذا، أي: يتبادران إلى طلبها، قال صاحب «الأفعال»: ناهزَ الصبيُّ الفِطامَ: دنا منه، ونَهَزَ الرجلَ: ضَرَبَه، ونَهَزَ الشَّيءَ: دَفَعَهُ، ونَهَزْتُ إليه: نَهَضْتُ إليه.
          الثَّالث: (الِاحْتِلامَ) معروفٌ وهو البلوغ، وحدُّه عندنا بالسنِّ خمسَ عَشْرَةَ سنةً كاملةً، وهو روايةٌ عن مالكٍ، وثانيةٌ: سبعَ عشْرةَ، وأشهرُها: ثمانيْ عشْرةَ، وأمَّا الإنباتُ عندنا فهو علامةٌ على البلوغِ في حقِّ الكافر دون المسلم، وفي مذهب مالكٍ ثلاثة أقوالٍ ثالثُها: يُعتبَر في الجهاد ولا يُعتبر في غيره.
          الرَّابع: قوله: (قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ) يصحِّح قولَ الواقديِّ وغيرِه: إنَّ ابنَ عبَّاسٍ وُلِد قبل الهجرة بثلاث سنين، وأنَّه ابنُ ثلاثَ عشْرةَ عند موتِه _صلعم_ ويردُّ قولَ مَن قال: إنَّه ابنُ عشْرِ سنين إذ ذاك، وصوَّبَ الإمامُ أحمدُ أنَّ عمره إذ ذاك خمسَ عشْرةَ سنةً.
          الخامس: معنى (تَرتَعُ): ترعى، يقال: رتَعتِ الإبلُ، إذا رعَت.
          السَّادسُ: (مِنًا) الأجود صرفها، وكتابتها بالألف وتذكيرها، سُمِّيت بذلك لِما يُمنَى بها مِن الدِّماء، أي: يُراق ومنه قوله _تعالى_: {مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة:37].
          السَّابعُ: في هذه الرِّواية: أنَّه رآه يصلِّي بمِنًى، وفي رواية في«الصحيح»: بعَرَفةَ، وهو محمول على أنَّهما قضيَّتان.
          الوجهُ الرَّابعُ: في فوائدِه:
          الأُولى: جوازُ ركوبِ المميِّزِ الحمارَ وما في معناه، وأنَّ الوليَّ لا يمنعُه مِن ذلك.
          الثَّانيةُ: صحَّةُ صلاةِ الصبيِّ.
          ثالثُها: جوازُ صلاةِ الإمام إلى غير سُترةٍ، وهو دالٌّ على أنَّ الصلاة لا يقطعُها شيء، كذا ذكره ابن بَطَّالٍ في«شرحه» لكنَّ البخاريَّ بوَّبَ عليه: سُتْرَةُ الإِمَامِ سُتْرَةٌ لِمَنْ خَلْفَه، كمَا سَلَفَ، وحكى ابنُ عبدِ البَرِّ وغيرُه فيه الإجماعَ.
          قال: وقد قيل: إنَّ الإمام نفسَه سُترةٌ لِمَنْ خَلْفَه، وقد قال: (فلَم يُنكِرْ ذلكَ عليَّ أحدٌ)، نَعَمِ البَيْهَقيُّ تَرْجَمَ عليه بابَ: مَنْ صَلَّى إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، ثمُّ ذَكَرَ عن الرَّبيعِ عن الشَّافعيِّ أنَّ قولَ ابنِ عبَّاسٍ: (إلى غير جدارٍ) يعني_والله أعلم_ إلى غير سُترةٍ، قلتُ: ويؤيِّد هذا روايةَ البزَّارِ في حديثِ ابن عبَّاسٍ: ((وَهُوَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ لَيْسَ شَيْءٌ يَسْتُرُهُ يَحُوْلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ))، ورجالُه رجالُ «الصَّحيح».
          ثمَّ قال البَيْهَقِيُّ: وهذا يدلُّ على خطأِ مَن زَعَمَ أنَّه _◙_ صلَّى إلى سُترةٍ، وأنَّ سُترةَ الإمام سُترةٌ لِمَنْ خَلْفَه، وأيَّده بما روى ابنُ أبي وَدَاعةَ قال: ((رَأَيْتُ النَّبِيَّ _صلعم_ يُصَلِّيْ مِمَّا يَلِيْ بَابَ بَنِيْ سَهْمٍ، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَاِف سُتْرَةٌ)).
          رابعُها: أنَّ مُرورَ الحمارِ لا يَقطعُ الصَّلاةَ، وعليه بوَّبَ أبو داوُدَ في«سُنَنِهِ» وما ورد مِن قَطْعِه محمولٌ على قَطْعِ الخُشوعِ.
          وقولُه: (قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ) فيه ما يَقتضي تأكيدَ عَدَمِ البُطلانِ بمُرورِه؛ لأنَّه استدلَّ على ذلك بعدَمِ الإنكارِ، وعدمُه على فِعْلِ مَن هو في مثلِ هذا السِّنِّ أَدَلُّ على هذا الحُكْمِ، وأنَّه لو كان في سنِّ عدمِ التَّمييزِ لاحتملَ أنْ يكون عدمُ الإنكار عليه لعدم مؤاخذته لصِغَرِ سِنِّه، فعدَمُ الإنكارِ دليلٌ على جوازِ المرور، والجوازُ دليلٌ على عدمِ إفسادِ الصَّلاة.
          خامسُها: جوازُ إرسالِ الدَّابَّةِ مِنْ غيرِ حافظٍ أو معَ حافظٍ غيرِ مُكَلَّفٍ.
          سادسُها: احتمالُ بعضِ المفاسدِ لمصلحةٍ أرجحَ منها، فإنَّ المرورَ أمام المصلِّين مَفْسَدةٌ، والدُّخولَ في الصَّلاةِ وفي الصفِّ مَصْلحةٌ راجحةٌ، فاغتُفرتِ الْمَفسَدةُ للمصلحةِ الرَّاجحة مِن غيرِ إنكارٍ.
          سابعُها: أنَّ عدمَ الإنكارِ حجَّةٌ على الجواز، لكنَّه مشروط بانتفاء الموانع مِن الإنكار، وبالعلم بالاطَّلاع على الفعل.
          ثامنُها: إجازةُ مَنْ عَلِم الشيءَ صغيرًا وأدَّاه كبيرًا، ولا خلافَ فيه كمَا قال ابن عبد البَرِّ، ومَن مَنع فقد أخطأ، وكذا العبدُ والفاسقُ إذا أدَّيا في حال الكمال.
          تاسعُها: جوازُ الرُّكوب إلى صلاة الجماعة، قال المهلَّبُ: وفيه أنَّ التَّقدُّم إلى القعود لسماعِ الخُطبة _إذا لم يضرَّ أحدًا والخطيبُ يخطُبُ_ جائزٌ، بخلاف إذا تخطَّى رقابَهم.
          ثمَّ اعلم أنَّ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ هذا خصَّه ابنُ عبدِ البَرِّ بالمأموم، وحديثَ أبي سعيدٍ الآتي في بابه: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ...)) الحديثُ عامٌّ في الإمامِ والمنفرِد، وسيأتي لنا عودةٌ إلى ذلك والكلامِ عليه في موضعِه إنْ شاء الله.
          واختَلف أصحابُ مالكٍ فيما إذا صلَّى إلى غيرِ سُترةٍ في فضاءٍ يأمَن أنْ يمرَّ أحدٌ بين يديه؛ فقال ابن القاسم: يجوز ولا حرجَ عليه، وقال ابنُ الماجِشُونِ ومُطرِّفٌ: السُّنَّة أنْ يصلِّي إلى سُترةٍ مُطْلقًا، والأوَّلُ قولُ عطاءٍ وسالمٍ والقاسمِ وعُروَةَ والشَّعْبيِّ والحَسنِ.
          وأمَّا حديثُ محمودِ بنِ الرَّبيع فالكلام عليه مِن وجوهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ مِن أفراده، أخرجه هنا، وفي الوُضوءِ والدَّعَوات.
          ثانيها: في التَّعريف برُواته غيرِ مَن سَلَفَ:
          أمَّا محمودٌ فهو ابن الرَّبيع بنِ سُراقةَ بنِ عَمرِو بنِ زيدِ بنِ عَبدةَ بنِ عامرِ بنِ عَديِّ بنِ كعبِ بنِ الخَزْرَجِ بنِ الحارثِ بنِ الخَزْرَجِ الأنصاريُّ الخَزْرجيُّ، أبو نعيمٍ، وقيل: أبو محمَّدٍ، مدنيٌّ مات سنةَ تسعٍ وتسعين عن ثلاثٍ وتسعين.
          وأمَّا الزُّبَيديُّ فهو أبو الهُذَيلِ محمَّدُ بنُ الوليدِ الحِمْصيُّ، قاضيها الثِّقةُ الحُجَّة المفتي الكبيرُ، روى عن مَكحولٍ والزُّهْريِّ وغيرِهما، وعنه محمَّدُ بنُ حَرْبٍ ويحيى بنُ حمزةَ، وهو أثبتُ أصحابِ الزُّهْريِّ.
          مات سنةَ سبعٍ، وقيل: ثمانٍ وأربعين ومئةٍ وهو شابٌّ، قاله أحمدُ بنُ محمَّدِ بنِ عيسى البغداديُّ، وقال ابنُ سَعْدٍ: ابنَ سبعين سنةً، روى له الجماعةُ سوى التِّرْمِذيِّ، ولم يستثنِ شيخُنا قُطْبُ الدِّينِ في «شرحه» التِّرْمِذيَّ، واستثناؤُه هو الصَّواب.
          فائدةٌ: الزُّبَيديُّ _بضمِّ الزَّاي_ نسبةٌ إلى زُبَيدَ، قبيلةٍ مِن مَذْحِجٍ _بفتح الميم وسكون الذال المعجمة_ ذكر الحازميُّ فيها اختلافًا، وإنَّما قيل له: زُبَيدٌ لأنَّه قال: مَن يَزْبِدِني فأُجيبَ؟ يقال: زَبَدْتُ الرَّجلَ، أي: أَرْضَخْتُهُ بمالٍ، وفي الحديث: ((إِنَّا لَا نَقْبَلُ زَبْدَ الْمُشْرِكِيْنَ)).
          وأمَّا محمَّدُ بنُ حَرْبٍ فهو الأبرش الخَوْلانيُّ الحِمْصيُّ، سَمِع الأَوزاعيَّ وغيرَه، وتقضَّى دِمَشْقَ، وهو ثقةٌ، مات سنةَ أربعٍ وتسعين ومئةٍ، روى له الجماعةُ إلا مُسْلمًا، والْمِزِّيُّ أثبتَه.
          الوجهُ الثَّالثُ:
          الْمَجُّ: إرسالُ الماءِ مِن الفمِ معَ نَفْخٍ، وقيل: لا يكون مجًّا حتى يباعَدَ به، وفعلَ _◙_ ذلك، لأجلِ البركة منه صلعم.
          والدَّلْو: بفتح الدَّال، وفيه لغتان: التَّذكيرُ والتَّأنيثُ.
          وفيه جوازُ سماعِ الصَّغيرِ، وضبطُه بالسِّنِّ، وهو مقصودُ البابِ، وحديثُ محمودٍ ظاهرٌ فيه دونَ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ؛ فإنَّ مَن ناهزَ الاحتلامَ لا يُسمَّى صغيرًا عُرْفًا.
          وقد اختَلف العلماءُ في أوَّلِ سِنٍّ يَصِحُّ فيه سماعُ الصَّغيرِ، فقال موسى بنُ هارونَ الحافظُ: إذا فرَّق بين البقرة والدَّابَّة.
          وقال أحمدُ بنُ حَنبلٍ: إذا عقَلَ وضَبَطَ، فذُكِرُ لهُ عن رجلٍ أنَّه قال: لا يجوزُ سماعُه حتى يكونَ له خمسَ عشْرةَ سنةً، فأنكر قولَه وقال: بِئْسَ القولُ. وقال القاضي عِياضٌ: حدَّدَ أهلُ الصَّنعة ذلك أنَّ أقلَّه سنُّ محمودِ بنِ الرَّبيعِ ابنُ خمسٍ، كما ذكره البخاريُّ في روايةٍ أخرى أنَّه كان ابنَ أربعٍ.
          قال ابنُ الصَّلاح: والتَّحديد بخمسٍ هو الذي استقرَّ عليه عملُ أهلِ الحديثِ مِن المتأخِّرين، فيكتُبون لابنِ خمسِ سنينَ فصاعدًا: سَمِعَ، ولِدونِ خمسٍ: حَضَرَ أو أُحْضِرَ، والذي ينبغي في ذلك اعتبارُ التَّمييز، فإنْ فَهِمَ الخطابَ وردَّ الجَوابَ كان مميِّزًا صحيحَ السَّماعِ وإنْ كانَ دونَ خمسٍ، وإن لم يكنْ كذلك لم يَصِحَّ سماعُه وإن كان ابنَ خمسٍ بل ابنَ خمسين.
          قلتُ: وهذا نحوُ قولِ أحمدَ وموسى.
          وقد بَلَغَنا عن إبراهيمَ بنِ سعيدٍ الجَوهَريِّ قال: رأيتُ صبيًّا ابنَ أربعِ سنينَ قد حُمِل إلى المأمون قد قرأ القرآنَ ونظرَ في الرَّأي، غيرَ أنَّه إذا جاع بكى، وحَفِظَ القرآنَ أبو محمَّدٍ عبدُ الله بنُ محمَّدٍ الأَصْبهانيُّ وله خمسُ سنينَ، فامتحنَه فيه أبو بكرِ بنُ المقرئِ، وكتبَ له بالسَّماعِ وهو ابنُ أربعِ سنين.
          وحديثُ محمودٍ لا يَدُلُّ على التَّحديد بمثل سِنِّه، وقال أبو عبدِ الله بنُ أبي صُفرةَ: أخرجَ البخاريُّ في هذا البابِ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ ومحمودِ بنِ الرَّبيعِ، وأصغرُ في السِّنِّ منهما عبدُ الله بنُ الزُّبَيرِ _ولم يُخْرِجْهُ_ يومَ رأى أباه / يختلِفُ إلى بني قُرَيظةَ في غزوةِ الخَنْدَقِ، قال لأبيه: ((يَا أَبَتَاهْ، رَأَيتُكَ تَخْتَلِفُ إِلَى بَنِيْ قُرَيْظَةَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ _صلعم_ أَمَرَنِيْ أَنْ آتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ))؛ والخندقُ على أربعِ سنينَ مِن الهجرة، وعبدُ الله أوَّلُ مولودٍ وُلد في الهِجرة.
          قلتُ: حديثُ عبدِ الله هذا أخرجه البخاريُّ كما سيأتي [خ¦3720] وكذا مسلمٌ.
          وعبدُ الله وُلد في السَّنة الأولى، وقيل: على رأس عشرينَ شهرًا مِن الهِجرة.
          واختُلِف في غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب، فقال ابنُ إسحاقَ: كانت في شوَّالٍ سنةَ خمسٍ، وكذا قال ابنُ سعدٍ وابنُ عبد البَرِّ. وقال موسى بنُ عُقبةَ: في شوَّالٍ سنةَ أربعٍ، ذكره البخاريُّ كما سيأتي في موضعه [خ¦64/29-6038]، وقال النَّوَوِيُّ: إنَّه الأصحُّ؛ لحديث ابنِ عمرَ: ((عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ _صلعم_ يَوْمَ أحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِيْ، وعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِيْ))، ولا خلافَ أنَّ أحُدًا في الثالثة، فيكونُ عُمْرُ عبدِ الله بنِ الزُّبَير أربعَ سنين على القول بأنَّه وُلد في السَّنة الأولى مِن الهجرة، وأنَّ الخندق كانت سنة خمسٍ، على القول الآخر وهو المشهور في مولده، وأنَّ الخندق في شوَّالٍ سنة أربع، فيكون عمره سنتين وشهرًا، وهو دالٌّ لمن اعتَبر التَّمييز ولم يقيِّده بالسِّنين.