شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما كان النبي وأصحابه يأكلون

          ░23▒ بابُ مَا كَانَ النَّبيُّ صلعم وَأَصْحَابُه(1) يَأْكُلُونِ فِيهِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (قَسَمَ النَّبيُّ صلعم يَوْمًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ تَمْرًا، فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَانِي سَبْعَ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ تَمْرًا أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْهَا، شَدَّتْ في مَضَاغِي). [خ¦5411]
          وفيه: قَيْسُ عن سَعْدٍ(2): (رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبيِّ صلعم سَابِعَ سَبْعَةٍ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقُ الْحُبْلَةِ _أَوِ الْحَبَلَةِ_ حتَّى يَضَعَ أَحَدُنَا مَا تَضَعُ الشَّاةُ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي على الإسْلامِ خَسِرْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْييِ). [خ¦5412]
          وفيه: أَبُو حَازِم: (سَأَلْتُ سَهْلًا: هَلْ أَكَلَ النَّبيُّ صلعم النَّقِيَّ؟ فَقَالَ سَهْلٌ: مَا رَأَى النَّبيُّ صلعم النَّقِي مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللهُ حتَّى قَبَضَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: هَلْ كَانَتْ / لَكُمْ في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم مَنَاخِلُ؟ قَالَ: مَا رَأَى رَسُولُ اللهِ صلعم مُنْخُلًا مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللهُ حتَّى قَبَضَهُ(3)، قَالَ(4): كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ؟ قَالَ: كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مَا طَارَ(5)، وَمَا بَقِي ثَرَيْنَاهُ(6) فَأَكَلْنَاهُ). [خ¦5413]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ فَدَعَوْهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وَقَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلعم مِنَ الدُّنيا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ). [خ¦5414]
          وفيه: أَنَسٌ قال: (مَا أَكَلَ النَّبيُّ صلعم عَلَى خِوَانٍ وَلَا فِي(7) سُكْرُجَةٍ وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ). [خ¦5415]
          وفيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّد مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حتَّى قُبِضَ). [خ¦5416]
          قال الطَّبري: إن قال قائل: ما وجه هذه الأخبار ومعانيها وقد علمت صحَّة الخبر عن النَّبيِّ صلعم أنَّه كان يرفع ممَّا أفاء الله عليه مِن النَّضير وفدك قوتَه وقوت عيالِه لسنة، ثم جعل(8) ما فضل مِن ذلك في الكُرَاع والسِّلاح عدَّة في سبيل الله، وأنَّه قسم بين أربعة أنفس زُهاء ألف بعير مِن نصيبِه ممَّا أفاء الله عليه مِن أموال هَوَازِنَ، وأنَّه ساق في حجَّة الوداع مائة بعير فنحرَها وأطعمَها المساكين، وأنَّهُ كان يأمر للأعرابي يُسْلِمُ بقطيع مِن الغنم.
          هذا مع ما(9) يكثر تعدادُه مِن عطاياه الَّتي لا يُذكر مثلُها عمَّن تقدَّم قبلَه مِن ملوك الأمم السَّالفة مع كونِه بين أرباب الأموال الجسام كأبي بكر الصِّدِّيق وعُمرَ وعثمان ♥ وأمثالِهم في كثرة الأموال وبذلِهم مُهجَهم وأولادَهم، وخروج أحدِهم مِن جميع مالِه تقرُّبًا إلى الله ╡ مع إشراك الأنصار في أموالِهم مَن قدم عليهم مِن المهاجرين وبذلِهم نفائسَها في ذات الله تعالى، فكيف بإنفاقِها على رسول الله صلعم وبه إليها الحاجة العظمى، وأنكرُ النَّكير تضادُّ الآثار في ذلك إذ غير جائز اجتماع قَشَف المعيشة وشظفُها والرَّخاء والسَّعة فيها في حال واحدة؟.
          قيل: كلُّ هذه الأخبار صحاح ولا شيء منها يدفع غيرَه ولا ينقصه(10)، فأمَّا حديث سعد قال: (رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبيِّ صلعم مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الحَبَلَةِ) وغيرِها مِن الأحاديث أنَّه كان ◙ يظلُّ اليوم يتلوَّى مِن الجوع ما يجد ما يملأ بطنَه، فإنَّ ذلك كان يكون في الحين بعد الحين مِن أجل أنَّ مَن كان منهم ذا مال كانت تستغرق نوائب الحقوق مالَه ومواساة الضِّيفان ومَن قدم عليهم مِن وفود العرب حتَّى يقلَّ كثيرُه أو يذهب جميعُه.
          وكيف لا يكون كذلك وقد رُوِّينا عن عمر ☺ أنَّ النَّبي صلعم أمر بالصَّدقة فجاء أبو بكر الصِّدِّيق بجميع مالِه فقال: هذا صدقة لله، فكيف يُستنكَر لمَن هذا فعلُه أن يُمْلِق صاحبُه ثم لا يجد السَّبيل إلى سدِّ جوعتِه وإرفاقِه بما يغنيه؛ وعلى هذه الخليقة كانت خلائق أصحابِه ♥، كالَّذي ذكر عن عثمان أنَّه جهز جيشًا مِن مالِه حتَّى لم يفقدوا حبلًا ولا قَتَبًا، وكالَّذي روي عن عبد الرحمن بن عوف أنَّ رسول الله صلعم حثَّ على الصَّدقة فجاء بأربعة آلاف دينار صدقة، فمعلوم أنَّ مَن كانت هذه أخلاقُه وأفعالُه أنَّه لا يخطئُه أن تأتي عليه التَّارة مِن الزَّمان والحين مِن الأيَّام مملقًا لا شيء له، إلا أن يثوب له مال.
          فبان خطأ قول القائل: كيف يجوز أن يرهن النَّبيُّ صلعم درعَه عند اليهوديِّ(11) بوَسْق شعير، وفي أصحابِه مِن أهل الغنى والسَّعة مَن لا يجهل موضعَه؟ أم كيف يجوز أن يوصف أنَّه كان يطوي الأيَّام ذوات العدد خميصًا وأصحابُه يمتهنون أموالَهم لمَن هو دونَه مِن أصحابِه، فكيف له إذ كان معلومًا جودُه وكرمُه صلعم وإيثارُه ضيفانَه(12) القادمين عليه بما عنده مِن الأقوات والأموال على نفسِه؟!.
          واحتمالُه المشقَّة والمجاعة في ذات الله ╡، ومَن كان كذلك هو وأصحابُه فغير مستنكر لهم حال ضيق يحتاجون معها إلى الاستسلاف وإلى طيِّ الأيَّام على المجاعة والشِّدَّة وأكلِهم ورق الحَبَلة.
          فأمَّا ما روي عنه: أنَّه لم يشبع مِن البُرِّ ثلاثة أيام تِبَاعًا حتَّى قُبض فإنَّ البُرَّ كان بالمدينة قليلًا، وكان الغالب عليهم الشَّعير والتَّمر فغير نكير أن يؤثر قوت أهل بلدِه ويكرَه أن يَخُصَّ نفسَه بما لا سبيل للمسلمين إليه / مِن الغذاء، وهذا هو الأشبه بأخلاقِه صلعم.
          وما روي عنه صلعم أنَّه خرج مِن الدُّنيا ولم يشبع مِن خبز الشَّعير، فإنَّ ذلك لم يكن منه في كل أحوالِه لعَوَز ولا ضيق وكيف يكون ذلك وقد كان الله تعالى أفاء عليه قبل وفاتِه بلاد العرب كلَّها ونقل إليه الخراج مِن بعض بلاد العجم كأَيْلة والبحرين وهَجَر ولكن كان بعضُه لِمَا وصفتُ مِن إيثار نوائب حقوق الله ╡، وبعضُه كراهيةً منه الشِّبعَ وكثرةَ الأكل، فإنَّه كان يكرهُه ويؤدِّب أصحابَه به.
          وروي عن زيد بن(13) وهب عن عطيَّة بن عامر الجُهَنِي قال: أُكْرِهَ سلمانُ على طعام يأكلُه فقال: حسبي؛ فإنِّي سمعت النَّبيَّ صلعم يقول: ((إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهْمْ جُوعًا فِي الآخِرَةِ)) وروى أسد ابن موسى مِن حديث عَوْن بن أبي جُحَيفة عن أبيه قال: أكلتُ ثريدة بُرٍّ بلحم سمين، فأتيت النَّبيَّ صلعم وأنا أتجشَّأ، فقال: ((اكفُفْ عَلَيكَ مِن جُشَائِكَ أَبَا جُحَيفَةَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهْمْ جُوْعًا فِي الآخِرَةِ)) فما أكل أبو جُحَيفة بملءِ(14) بطنِه حتَّى فارق الدُّنيا، كان إذا تغدَّى لا يتعشَّى وإذا تعشَّى لا يتغدَّى.
          وعلى إيثار الجوع وقلَّة الشِّبع مع وجود السَّبيل إليه مرة وعدمِه أخرى مضى الخيار مِن الصَّحابة والتَّابعين، روى(15) وهب بن كَيْسان عن جابر قال: لقيني عُمَر بن الخطَّاب ومعي لحم اشتريتُه بدرهم، فقال: ما هذا؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، اشتريتُه للصِّبيان والنِّساء، فقال عمر: لا يشتهي أحدكم شيئًا إلا وقع فيه أو لا يطوي أحدُكم بطنَه لجارِه وابن عمِّه، أين تذهب عنكم هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنيا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا}؟[الأحقاف:20].
          وقال هُشَيم عن منصور عن ابن سيرين أنَّ رجلًا قال لابن عُمر: اجعل جوارشنا؟(16) قال: وما هو؟ قال: شيء إذا كَظَّكَ(17) الطعام فأصبت منه سهل عليك، قال ابن عمر: ما شبعت منذ أربعة أشهر، وما ذاك إلا أكون له واجدًا، ولكني عهدت قومًا يشبعون مرَّة ويجوعون مرَّة.
          وقال الزُّهري: إنَّ عبد الله بن مطيع قال لصفيَّة: لو تلطفت(18) هذا الشيخ _يعني ابن عمر_ قالت: قد أعياني أن لا يأكل إلا ومعَه آكل فلو كلَّمتَه، قال: فكلَّمتُه، فقال: الآن تأمرني بالشِّبع ولم يبق مِن عمري إلا ظِمْءُ حمار، فما شبعت منذ ثماني سنين، وقال مجاهد: لو أكلت كلَّ ما أشتهي ما سويت حَشَفة، وقال الفضيل: خصلتان تقسيان القلب: كثرة الأكل والكلام.
          وقولُه: (ثُمَّ أَصْبَحْتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلَامِ) يعني: يقوِّموني عليه ويعلِّمونيه، مِن قولِهم: عزَّر السُّلطان فلانًا إذا أدَّبَه وقوَّمَه، وأصل التَّعزير التَّأديب، ولهذا سُمِّي الضَّرب دون الحدِّ تعزيرًا، وكان هذا القول عن سعد حين شكاه أهل الكوفة إلى عمر وقالوا أنَّه لا يحسن الصَّلاة وعمر بن الخطَّاب مِن بني أسد.
          وفيه مِن الفقه أنَّه لا بأس أن يذكر الرجل فضائلَه وسوابقَه في الإسلام عندما ينتقصُه أهل الباطل ويضعون مِن قدرِه، ولا يكون ذكرُه لفضائلِه مِن باب الفخر المنهي عنه.
          وقال صاحب «العين»: الحُبَلة: بضم الحاء ثمرُ العَضَاه، والحَبَلة: بفتح الحاء والباء قُضبان الكَرْم.
          وقال أبو حنيفة: الزَّرْجُون حَبَلة وجمعها حُبل.
          وقال صاحب «العين»: والحَبَلة أيضًا ضرب مِن الشَّجر.
          وقولُه: (شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ) يعني: مشويَّة، يقال: صليت اللَّحم أصليه صليًا: شويتُه، والصلاء(19): الشِّواء، وأصليته وصليتُه: ألقيته في النَّار.


[1] قوله: ((وأصحابه)) زيادة من (ص).
[2] في (ز): ((قيس بن سعد عن أبيه))، وفي (ص): ((سعد بن قيس عن أبيه)) وكلاهما خطأ والصواب المثبت.
[3] في (ص): ((إلى حين قبضه)).
[4] زاد في (ص): ((قلت)).
[5] في (ص): ((كان)).
[6] في (ص): ((قربناه)).
[7] قوله: ((في)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((يجعل)).
[9] في (ص): ((هذا معنى)).
[10] في (ص): ((ولا ينقضه)).
[11] في (ص): ((يهودي)).
[12] قوله: ((ضيفانه)) ليس في (ص).
[13] قوله: ((بن)) زيادة من (ص).
[14] في (ص): ((ملء)).
[15] في (ص): ((وروى)).
[16] كذا في (ز) و (ص) والمطبوع: ((اجعل جوارشنا))، وفي المصادر: ((ألا نجعل لك جوارش)).
[17] في (ص): ((ملء)).
[18] في (ص): ((ألطفت)).
[19] في المطبوع: ((فالصلاء)).