شرح الجامع الصحيح لابن بطال

قول الله تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}

          ░1▒ وَقَوْلِ اللهِ ╡: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}[الأعراف:160]
          وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا(1) مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}[البقرة:267]وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}[المؤمنون:51].
          فيه: أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبيُّ(2) صلعم: (أَطْعِمُوا الْجَائِعَ...) الحديث. [خ¦5373]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلعم مِنْ طَعَامٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ(3) حتَّى قُبِضَ). [خ¦5374]
          وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَدَخَلَ دَارَهُ وَفَتَحَهَا عَلَي، فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَخَرَرْتُ لِوَجْهِي مِنَ الْجَهْدِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلعم قَائِمٌ على رَأْسِي قَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فقُلْتُ(4): لَبَّيْكَ رَسُولَ(5) اللهِ وسَعْدَيْكَ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَقَامَنِي وَعَرَفَ الَّذي بِي، فَانْطَلَقَ بِي إلى رَحْلِهِ، فأَمَرَ(6) لي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: عُدْ يَا أَبَا هُرَيَرْةَ، فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ: عُدْ، فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ حتَّى اسْتَوَى بَطْنِي، فَصَارَ كَالْقِدْحِ، قَالَ: فَلَقِيتُ عُمَرَ وَذَكَرْتُ(7) لَهُ الَّذي كَانَ مِنْ أَمْرِي، وَقُلْتُ لَهُ: تَوَلَّى اللهُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْكَ يَا عُمَرُ، وَاللهِ لَقَدِ اسْتَقْرَأْتُكَ الآيَةَ، وَلَأَنَا أَقْرَأُ بها مِنْكَ، قَالَ عُمَرُ: وَاللهِ لأنْ أَكُونَ أَدْخَلْتُكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي(8) حُمْرُ النَّعَمِ). [خ¦5375]
          قال المؤلِّف: وقع في النِّسخ كلِّها قولُه جلَّ ثناؤُه: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وهو وهم مِن الكاتب وصواب الآية ما ذكره الله تعالى في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ}(9)[البقرة:267]واختلف أهل التَّأويل في معنى الآية على قولين، فقالت طائفة: المراد بالطَّيِّبات الحلال، وقالت طائفة: المراد بها جيِّد الطَّعام وطيِّبه، وقال البراء بن عازب: كانوا يتصدَّقون بأردأ ثمرِهم وطعامِهم فنزلت الآية.
          وقولُه تعالى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}[المؤمنون:51]تأويلُها كتأويل الآية المتقدِّمة ولم يختلف أهل التَّأويل في قولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ}[المائدة:87]أنَّها نزلت فيمَن حرَّم على نفسِه لذيذ الطَّعام واللَّذَّات المباحة، قال عِكْرِمَة أنَّها نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابِه حين همُّوا بترك النِّساء واللَّحم والخصاء وأرادوا التَّخلِّي مِن الدُّنيا والتَّرهُّب، منهم عليُّ بن أبي طالب وعثمان بن مظعون، وقد تقدَّم شيء مِن هذا المعنى(10) في كتاب النِّكاح في باب ما يكرَه مِن التَّبتُّل والخصاء، وفي حديث أبي موسى الأمر بالمواساة وإطعام / الجائع وذلك مِن فروض الكفاية، قال الدَّاودي: إلا أن يحتاج الرَّجل ولا يجد ما يقيمُه فحقٌّ على(11) مَن علم ذلك منه أن يعطيَه ما يقيم به شأنَه، وله أن يأخذ ذلك منه كرهًا وأن يختفي به إن لم يقدر عليه إلَّا بذلك، ومنه إعطاء السَّائل إن صادف شيئًا موضوعًا كان حقًّا على المسؤول أن يقبلَه منه، وإن لم يجد شيئًا حاضرًا وعلم المسؤول أن ليس له شيء يقيمُه وجب عليه أن يغنيَه وإن لم يعلم حالَه فليقل له قولًا سديدًا، وقد تقدَّم شيء مِن هذا المعنى(12) في باب فكاك الأسير في كتاب(13) الجهاد.
          وفي حديث أبي هريرة إباحة الشِّبع عند الجوع لقوله: (فَشَرِبْتُ حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالقِدْحِ) يعني كالسَّهم(14) في استوائِه لأنَّه لما رُوي مِن اللبن استقام بطنُه وصار كأنَّه سهم لأنَّه كان بالجوع ملتصقًا منثنيًا.
          وفيه: ما كان السَّلف عليه مِن الصَّبر على(15) التَّقلُّل وشظف العيش والرِّضا باليسير مِن الدُّنيا، ألا ترى أنَّ أبا هريرة لم يكن له همٌّ إلا أن يسدَّ(16) عمر ☺ جوعتَه فقط، فلما سقاه النَّبيُّ صلعم حتَّى روي أقنعَه ذلك ولم يطلب سواه، ودلَّ ذلك على إيثارِهم للبلغة مِن الدُّنيا وطلبِهم للكفاية، ألا ترى قول أبي هريرة: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلعم مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثًا حَتَّى قُبِضَ) وسيأتي معنى هذا الحديث والأحاديث المعارضة له في باب ما كان النَّبيُّ صلعم وأصحابُه يأكلون، إن شاء الله تعالى.
          وفيه: سدُّ الرجل خَلَّة أخيه المؤمن إذا علم منه حاجة مِن غير أن يسألَه ذلك، وفيه أنَّه كان مِن عادتهم إذا استقرأ أحدهم(17) صاحبَه القرآن أن يحمله إلى بيتِه ويطعمَه ما تيسَّر عنده، والله أعلمُ لِمَ لَمْ يحمل عمر ☺ أبا هريرة حين استقرأه أبو هريرة، أَلِشُغْلٍ كان به أو أنَّه(18) لم يتيسَّر له حينئذ ما يطعمُه؟ وقد روي عن أبي هريرة أنَّه قال: والله ما استقرأت عمر الآية، وأنا أقرأ بها منه إلا طمعًا في أن يذهب بي ويطعمني.
          وفيه: الحرص على أفعال البرِّ لتأسُّف عمر ☺ على ما فاتَّه مِن حمل أبي هريرة إلى بيتِه وإطعامِه إذ كان محتاجًا إلى الأكل، وأنَّ ذلك كان أحبَّ إليه مِن حمر النعم.


[1] في (ز) و(ص): ((كلوا)) وسيأتي كلام المؤلف عليها.
[2] قوله: ((النَّبي)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((من طعام ثلاثاً)).
[4] في (ص): ((قلت)).
[5] في (ص): ((يا رسول)).
[6] في (ص): ((وأمر)).
[7] في (ص): ((ذكرت)).
[8] قوله: ((لي)) ليس في (ص).
[9] قال الحافظ في ((فتح الباري)) (9/518): ((في أكثر الروايات في الآية الثانية أنفقوا على وفق التلاوة ووقع في رواية النسفي كلوا بدل أنفقوا وهكذا في بعض الروايات عن أبي الوقت وفي قليل من غيرها وعليها شرح بن بطال وأنكرها وتبعه من بعده حتى زعم عياض أنها كذلك للجميع ولم أرها في رواية أبي ذر إلا على وفق التلاوة كما ذكرت وكذا في نسخة معتمدة من رواية كريمة)).
[10] قوله: ((شيء من هذا المعنى)) ليس في (ص).
[11] زاد في (ص): ((كل)).
[12] قوله: ((شيء من هذا المعنى)) ليس في (ص).
[13] قوله: ((كتاب)) ليس في (ص).
[14] زاد في (ص): ((يعني)).
[15] في (ص): ((من)).
[16] في (ص): ((إلا سد)).
[17] في (ز): ((أحدكم)) والمثبت من (ص).
[18] في (ص): ((لأنه)).