شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من أكل حتى شبع

          ░6▒ بابُ مَنْ أَكَلَ حَتَّى شَبِعَ.
          فيه: أَنَسٌ: (قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ النَّبيِّ صلعم ضَعِيفًا أَعْرِفُ منهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْء؟ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاس فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلعم: أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِطَعَامٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فقَالَ(1) أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلعم بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ، / فقَالَتِ(2): اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حتَّى لَقِي رَسُولَ اللهِ صلعم، فَأَقْبَلَ أَبُو طَلْحَةَ وَرَسُولُ اللهِ حتَّى دَخَلا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ، فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْم عُكَّةً لَهَا فَآدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلعم مَا شَاءَ اللهُ(3) أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حتَّى شَبِعُوا(4)، ثُمَّ أَذِنَ لِعَشَرَةٍ فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ ثَمَانُونَ رَجُلًا). [خ¦5381]
          وفيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي بَكْرٍ قَالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلعم ثَلاثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟ قَلنا: مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ _أَوْ نَحْوُهُ_ فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: أَبَيْعٌ أَمْ عَطِيَّةٌ؟ _أم(5): هِبَةٌ_ قَالَ: لا، بَلْ بَيْعٌ(6) فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ فَأَمَرَ النَّبيُّ صلعم بِسَوَادِ الْبَطْنِ يُشْوَى، وَايْمُ اللهِ مَا فِي الثَّلاثِينَ وَمِائَةٍ، إِلا قَدْ حَزَّ لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَ إِيَّاها(7)، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَهَا لَهُ، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا قَصْعَتَيْنِ فَأَكَلْنَا أَجْمَعُونَ وَشَبِعْنَا وَفَضَلَ فِي الْقَصْعَتَيْنِ فَحَمَلْتُهُ على الْبَعِيرِ، أَوْ كَمَا قَالَ). [خ¦5382]
          وفيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: (تُوُفِّي النَّبيُّ صلعم حِينَ شَبِعْنَا مِنَ الأسْوَدَيْنِ: الْمَاءِ وَالتَّمْرِ). [خ¦5383]
          قولُه: (لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ الله صلعم ضَعِيْفًا أَعْرِفُ فِيهِ الجُوعَ). فيه أنَّ الأنبياء تُزوى عنهم الدُّنيا حتَّى يدركَهم ألم الجوع ابتلاءً واختبارًا، وقد خُيِّر رسولُ الله صلعم بين أن يكون نبيًّا عبدًا أو نبيًّا ملكًا، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا، وعرضت عليه الدُّنيا فردَّها واختار ما عند الله تعالى لتتأسَّى به أمَّتُه في ذلك ويمتثلوا زهدَه في الدُّنيا.
          وفيه سدُّ الرَّجل خَلَّة أخيه إذا علم منه حاجة نزلت به مِن حيث لا يسألُه ذلك، وهذا مِن مكارم الأخلاق، وعلمَ النَّبيُّ صلعم مِن أبي طلحة أنَّه يسرُّه مسيرُه إليه مع أصحابِه، ولذلك تلقَّاه أبو طلحة مسرورًا به وبأصحابِه، وليس العمل على هذا، مِن أجل أنَّه لا يحتملُه كلُّ النَّاس، ولذلك(8) قال مالك أنَّه مَن دُعي إلى طعام وليمة أو غيرِها فلا ينبغي له(9) أن يحمل معه غيرَه إذ لا يدري هل يسرُّ بذلك صاحب الوليمة أم لا، إلَّا أن يقال له: ادع مَن لقيتَ، فمباح له ذلك حينئذ.
          وفيه الخروج إلى الطَّريق للضَّيف والزَّائر إكرامًا له وبرًّا به.
          وفي قولِه: (لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ الله صلعم ضَعِيْفًا أَعْرِفُ فِيهِ الجُوعَ) فيه(10) دليل على جواز الشَّهادة على الصَّوت، وفيه أنَّه لا حرج على الصَّديق أن يأمر في دار صديقِه بما شاء ممَّا يعلم أنَّه يسُرُّه به، ألا ترى أنَّه اشترط عليهم أن يفتُّوا الخبز، وقال لأمِّ سُلَيم: هاتِ ما عندك، وفيه بركة الثَّريد.
          وفيه جواز الأكل حتَّى يشبع الإنسان وأن الشِّبع مباح، وكذلك في حديث عبد الرَّحمن بن أبي بكر وحديث عائشة جواز الشِّبع أيضًا، وإن كان ترك الشِّبع في بعض الأحايين أفضل، وقد وردت في ذلك آثار عن سلمان وأبي جحيفة أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنيَا أَطَوَلُهُمْ جُوعًا فِي الآخِرَةِ)).
          قال الطَّبري: غير أنَّ الشِّبع وإن كان مباحًا فإنَّ له حدًّا ينتهي إليه وما زاد على ذلك فهو سرف، فالمطلق منه ما أعان الآكلَ على طاعة ربِّه ولم يشغلْه ثقلُه عن أداء واجبِه(11) عليه، وذلك دونما أثقل المعدة وثبَّط آكلَه عن خدمة ربِّه تعالى والأخذ بحظِّه مِن نوافل الخير، فالحقُّ لله ╡ على عبده المؤمن أن لا يتعدَّى في مطعمِه ومشربِه ما سدَّ الجوع وكسر الظمأ، فإن تعدَّى(12) ذلك إلى ما فوقَه ممَّا يمنعُه القيام بالواجب لله تعالى عليه(13) كان قد أسرف في مطعمِه ومشربِه.
          وبنحو هذا ورد الخبر عن النَّبيِّ صلعم روى ابن وهب عن ماضي بن محمَّد عن محمَّد بن عَمْرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة / قال: قال رسول الله صلعم: ((إِذَا سَلَلْتَ(14) كَلْبَ الجُوعِ بِرَغِيفٍ وَكُوزٍ مِنَ المَاءِ القَرَاحِ فَعَلى الدُّنيَا الدَّمَارِ)). وروى أبو داود عن حُرَيث بن السَّائب قال: حدَّثنا الحسن حدَّثنا حُمْرَانَ بن أَبَان عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلعم: ((كُلُّ شَيْءٍ فَضَلَ عَنْ ظِلِّ بَيْتٍ وجِلَفِ الخُبزِ _يعني: كسر الخبز_ وثَوبٍ يَسْتُرُهُ فَضَلَ لَيسَ لِابنِ آدَمَ فِيهِ(15) حَقٌّ)) فأخبر صلعم أنَّ لابن آدم مِن الطَّعام ما سدَّ به كلب جوعِه، ومِن الماء ما قطع ظمأَه، ومِن اللِّباس ما ستر عورتَه، ومِن المساكن ما أظلَّه فكَنَّه(16) مِن حرٍّ وقرٍّ، وأن لاحقَّ له فيما عدا ذلك فالمتجاوز مِن ذلك ما حدَّه رسول الله صلعم حاطب(17) على نفسِه، متحمِّل ثقل وبالِه، ولو لم يكتسب المُقِلُّ مِن الأكل إلا التَّخفيف عن بدنِه مِن كظٍّ المعدة ونتن التُّخمة لكان حريًّا به تحرِّي ذلك لها طلب التَّرويح عنها، فكيف والإكثار منه الدَّاء العضال، وبه كان يتعاير(18) أهل الجاهليَّة والإسلام.
          وفي حديث أنس وعبد الرَّحمن بن أبي بكر علامات النبوَّة لأنَّه أكل مِن الطَّعام اليسير العدد الكثير حتَّى شبعوا ببركة النَّبيِّ صلعم.


[1] في (ص): ((قال)).
[2] في (ص): ((قالت)).
[3] قوله: ((الله)) ليس في (ص).
[4] زاد في المطبوع: ((ثم خرجوا))، وقوله: ((ثم خرجوا ثم قال... ثم خرجوا)) ليس في (ص).
[5] في (ص): ((أو قال)).
[6] زاد في (ص): ((قال)).
[7] في (ص): ((أعطاه إياه)).
[8] قوله: ((ولذلك)) ليس في (ص).
[9] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((فيه)) ليس في (ص).
[11] في (ص): ((واجب)).
[12] زاد في (ص): ((في)).
[13] في (ص): ((بالواجب عليه لله)).
[14] في (ص): ((شكلت))، وفي المطبوع: ((سددت)).
[15] في (ص): ((منه)).
[16] في (ص): ((وكنه)).
[17] في (ص): ((خاطب)).
[18] في (ص): ((يتعير)).