شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الثريد

          ░25▒ بابُ الثَّرِيْدِ.
          فيه: أَبُو مُوسَى قَالَ النَّبيُّ صلعم: (كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ / على النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ على سَائِرِ الطَّعَامِ). [خ¦5418]
          وفيه: أَنَسٌ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (فَضْلُ عَائِشَةَ على النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ على سَائِرِ الطَّعَامِ). [خ¦5419]
          وفيه: أَنَسٌ: (دَخَلْتُ مَعَ النَّبيِّ صلعم عَلَى غُلامٍ لَهُ خَيَّاطٍ فَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَصْعَةً فِيهَا ثَرِيدٌ، قَالَ: وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ...) الحديث. [خ¦5420]
          قال المؤلِّف: الثَّريد أزكى الطعام وأكثرُه بركة، وهو طعام العرب، وقد شهد له النَّبيُّ صلعم بالفضل على سائر الطَّعام وكفى بذلك تفضيلًا له وشرفًا، فإن قال قائل: فقد شهد النَّبيُّ صلعم بالكمال لمريم وآسية، ثم قال: (وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) ولا يبين في ظاهر هذا اللَّفظ تفضيل مريم وآسية على عائشة ولا فضل عائشة عليهما.
          فالجواب في ذلك أنَّ التفضيل لا يدرك بالرَّأي، وإنَّما يُؤخَذ مِن التَّوقيف(1)، فإذا عدم التَّوقيف بالقطع في ذلك رُجِع إلى الدَّلائل، وقد اختلفت الدَّلائل في ذلك لاحتمال اللَّفظ للتَّأويل.
          فممَّا استدلَّ به مَن فضَّل مريم على عائشة قولُه ╡ لمريم: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ}[آل عِمْرَان:42]أي: اختارك ثم طهَّرك(2) مِن الكفر، عن مجاهد والحسن، وقيل: وطهَّرك مِن الأدناس: الحيض والنِّفاس، عن الزَّجَّاج وغيرِه، وقولُه ╡: {وَاصْطَفَاكِ على نِسَاء الْعَالَمِينَ}[آل عِمْرَان:42]يدلُّ على تفضيلِها على جميع نساء الدُّنيا لأنَّ العالمين جمع عالم، ألا ترى أنَّ الله تعالى جعلَها وابنَها آية أَنْ ولدت مِن غير فحل، وهذا شيء لم يُخصَّ به غيرُها(3) مِن النِّساء قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوْحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيَّا} إلى قولِه {إِنَّمَا أَنَا رَسُوْلُ رَبِّكِ ِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}(4)[مريم:17-19].
          وقال ابن وهب صاحب مالك بنبوَّتِها واختارَه أبو إسحاق الزَّجَّاج وهو إمام سنَّة، وهو قول أبي بكر بن اللَّبَّاد فقيه المغرب وقول أبي محمَّد بن أبي زيد وأبي الحسن بن القابسي رحمة الله عليهم، وعلى هذا القول يكون أوَّلُ الحديث على العموم في مريم وآسية وآخرُه على الخصوص في عائشة، ويكون المعنى فضل مريم و آسية على جميع نساء كلِّ عالم، وفضل عائشة على نساء عالمها خاصَّة.
          وأبى هذا طائفة أخرى، وقالوا بفضل عائشة على جميع النِّساء ولم يقولوا بنبوَّة مريم ولا أحد مِن النِّساء، وحملوا آخر الحديث على العموم وأوَّلَه على الخصوص وقالوا: قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ و اصْطَفَاكِ(5) عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}[آل عِمْرَان:42]يعني عالم زمانِها وهو قول الحسن وابن جُريج، ويكون قولُه: (فَضْلُ عَائِشَةَ) على نساء الدُّنيا كلِّها، ومِن حجَّتِهم على ذلك قولُه ╡: لأمَّة محمَّد(6) {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عِمْرَان:110]فعُلِم بهذا الخطاب أنَّ المسلمين أفضل جميع الأمم، ألا ترى قولَه ╡: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}[البقرة:143]والوسط: العدل عند أهل التَّأويل فدلَّ هذا كلُّه أنَّ مَن شهد له النَّبيُّ صلعم بالفضل مِن أمَّتِه وعيَّنه فهو أفضل ممَّن شهد له بالفضل مِن الأمم الخالية، ويؤيَّد هذا التَّأويل قولُه تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء}[الأحزاب:32]فدلَّ عموم هذا اللَّفظ على فضل أزواجِه صلعم على كلِّ مَن قبلهنَّ وبعدهنَّ، وأجمعت الأمة أنَّ نبيَّنا محمدًا صلعم أفضل مِن جميع الأنبياء، فكذلك نساؤُه ◙ لهنَّ مِن الفضل على سائر نساء الدُّنيا نظيرَ(7) ما للنَّبيِّ صلعم مِن الفضل(8) على سائر الأنبياء، وقد صحَّ أنَّ نساءَه معَه في الجنَّة، ومريم مع ابنِها وابنُها في الجنة، ودرجة محمَّد صلعم في الجنَّة فوق درجة هؤلاء كلِّهم، والله أعلم بحقيقة الفضل(9) في ذلك.


[1] في (ص): ((يؤخذ بالتوقيف)).
[2] في (ص): ((وطهرك)).
[3] زاد في (ص): ((من نساء الدُّنيا وجاءها جبريل ولم يأت غيرها)).
[4] في (ص): ((إلى: زكيا)).
[5] قوله: ((وطهرك واصطفاك)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((لأمة محمد)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((نظير)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((من الفضل)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((الأفضل)).