شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الأدم

          ░31▒ بابُ الأُدْمِ.
          فيه: عَائِشَةُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم دَخَلَ بَيْتَها وَعَلَى النَّارِ بُرْمَةٌ تَفُورُ، فَدَعَا بِالْغَدَاءِ، فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَلَمْ أَرَ عَلَى النَّار(1) لَحْمًا؟ قَالَوْا(2): بَلَى، وَلَكِنَّهُ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَأَهْدَتْهُ لَنَا، فَقَالَ: هُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا وَهَدِيَّةٌ لَنَا). [خ¦5430]
          قال الطَّبري: في هذا الحديث البيان البيِّن أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يؤثر في طعامِه اللَّحم على غيرِه إذا وجد إليه سبيلًا، وذلك أنَّه صلعم لمَّا رأى اللَّحم في منزلِه قال: (أَلَمْ أَرَ لَحْمًا؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيْرَةٍ) فدلَّ هذا على إيثارِه ◙ للَّحم إذا وُجد إليه السَّبيل، لأنَّه قال ذلك بعد أن قُرِّب إليه إِدَام مِن أُدْم(3) البيت، فالحقُّ على كلِّ ذي لبِّ أن يؤثر اللَّحم في(4) طعامِه لإيثار النَّبيِّ صلعم لَه ولما حدَّثناه سعيد بن عَنْبَسة الرَّازي حدَّثنا أبو عبيدة الحدَّاد حدَّثنا أبو هلال عن ابن بُرَيدة عن أبيه أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((سَيِّدُ الإِدَامِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ اللَّحْمُ)).
          فإن قيل: فقد قال عُمَر بن الخطَّاب لرجل رآه يكثر الاختلاف إلى القصابين: اتَّقوا هذه المجازر على أموالكم، فإنَّ لها ضرواة كضراوة الخمر، وعلاه بالدِّرَّة.
          وروى الحسن أنَّ عمر دخل على ابنِه عبد الله فرأى عنده لحمًا طريًّا، فقال: ما هذا؟ فقال(5): اشتهيناه، فقال: وكلَّما اشتهيت اللَّحم أكلتَه؟! كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كلَّ ما اشتهى.
          وقال أبو أُمَامة: إنِّي لأبغض أهل البيت أن يكونوا لَحِمِين(6)، قيل: وما اللَّحميُّون؟ قال: يكون لهم قوت شهر فيأكلونه في اللَّحم في أيَّام، وقد قال يزيد بن أبي حبيب: القِطْنِيَّة طعام الأنبياء.
          وقال ابن عون: ما رأيت على خِوان محمَّد لحمًا يشتريه / إلا أن يُهدى له، وكان(7) يأكل السَّمن والكامخ، ويقول(8): سأصبر على هذا حتَّى يأذن الله بالفرج.
          قال الطَّبري: وهذه أخبار صحاح ليس فيها خلاف لشيء ممَّا تقدَّم، فأمَّا كراهة عمر فإنَّما كان خوفًا(9) منه عليه الإجحاف بمالِه لكثرة شرائِه اللَّحم إذ كان اللَّحم قليلًا عندهم، وأراد أن يأخذ بحظِّه مِن ترك شهوات الدُّنيا وقمع نفسِه، يدلُّ على ذلك قولُه لابنه: كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كلَّ(10) ما اشتهى، وأمَّا أبو أمامة فقد أخبر بالعلَّة الَّتي لها كرِه أن يكون أهل البيت لَحِمِين وهو تبذيرُهم وتدميرُهم.
          وأمَّا ابن سيرين فإنَّما ترك شراء اللَّحم إذ لزمَه الدَّين وفلَّس مِن أجلِه، فلم يكن عنده لها قضاء، والحقُّ عليه ما فعل: مِن التَّقصير في عيشِه وتَرْكِ التَّوسعِ في مطعمِه حتَّى يؤدِّي ما عليه لغرمائِه، وكان إذا وجدَه مِن غير الشِّراء لم يؤثر عليه غيرَه.
          وأمَّا قول يزيد بن أبي حبيب أنَّ القِطْنِيَّة طعام الأنبياء، فمعنى ذلك والله أعلم نحو معنى فعل عمر(11) في تركِه ذلك إشفاقًا مِن أن يكون(12) بأكله ممَّن يدخل(13) في جملة مَن أذهب طيِّباتِه في حياتِه الدُّنيا، مع أنَّ التَّأَسِّي بنبيِّنا صلعم أولى بنا مِن التَّأَسِي بغيرِه صلعم مِن الأنبياء، وكان صلعم لا يؤثر على اللَّحم شيئًا ما وجد إليه السَّبيل.
          حدَّثني محمَّد بن عمَّار الرَّازي حدَّثنا سهل بن بكَّار حدَّثنا أبو عوانة عن الأسود بن قيس عن نُبَيح العَنْزَي عن جابر بن عبد الله قال: ذبحت للنَّبيِّ صلعم عَنَاقًا وأصحلتُها، فلمَّا وضعتُها بين يديه، نظر إليَّ وقال: ((كَأَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ حُبَّنَا لِلَّحْمِ(14))).
          وبمثل الَّذي قلنا كان السَّلف يعملون، روى الأعمش عن أبي عَبَّاد عن أبي عَمْرو الشَّيباني قال: رأى عبد الله مع رجل دراهم فقال: ما تصنع بها؟ قال: أشتري بها سمنًا، قال: أعطِها أمراتك تضعُها تحت فراشِها، ثم اشتر كل يوم بدرهم لحمًا، وكان للحسن كل يوم لحم بنصف درهم، وقال ابن عون: إذا فاتني اللَّحم فما أدرى بما(15) أئتدم.


[1] قوله: ((على النار)) ليس في (ص).
[2] في (ز): ((فقال)) والمثبت من (ص).
[3] في (ص): ((أدم من إدام)).
[4] في المطبوع: ((على)).
[5] في (ص): ((قال)).
[6] في المطبوع: ((لحميين)).
[7] زاد في (ص): ((ابن سيرين)).
[8] في المطبوع: ((فيقول)).
[9] قوله: ((خوفاً)) زيادة من (ص).
[10] قوله: ((كل)) ليس في (ص).
[11] قوله: ((عمر)) ليس في (ص).
[12] في (ص): ((ممن يكون)).
[13] في (ص): ((يكون)).
[14] في (ص): ((اللحم)).
[15] في المطبوع: ((ما)).