شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: المؤمن يأكل في معى واحد

          ░12▒ بابُ المُؤْمِنِ يَأْكُلُ فِي مِعَاءٍ وَاحِدٍ.
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: كَانَ(1) لَا يَأْكُلُ حَتَّى يَأْتَي(2) بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ، قَالَ نَافِعٌ: فَأَدْخَلْتُ رَجُلًا يَأْكُلُ مَعَهُ، فَأَكَلَ كَثِيرًا، فَقَالَ: يَا نَافِعُ، لَا تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ، سَمِعْتُ النَّبي صلعم يَقُولُ: (الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ في مِعًاء وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ في سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ). [خ¦5393]
          وَقَالَ عَمْرو: (كَانَ أَبُو نَهِيكٍ رَجُلًا أَكُولًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ النَّبي صلعم قَالَ: إِنَّ(3) الْكَافِرَ يَأْكُلُ في سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، قَالَ: فَأَنَا أُومِنُ(4) بِاللهِ وَرَسُولِهِ). [خ¦5395]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا، فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا قَلِيلًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلعم فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ في مِعَاءٍ وَاحِدٍ، وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ في سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ). [خ¦5397]
          قال المؤلِّف: ذكر ابن إسحاق قال: بلغني عن أبي سعيد المَقْبُري عن أبي هريرة أنَّ الَّذي قال فيه النَّبيُّ صلعم هذا الحديث ثُمَامَة بن أَثَال الحنفي، وذكر غيرُه أنَّه جَهْجَاه الغِفَاري، والله أعلم.
          فإن قال قائل: ما معنى هذا الحديث وقد نجد مؤمنًا كثير الأكل كأبي نَهِيْك وغيرِه، ونجد أيضًا كافرًا قليل الأكل؟ فالجواب وبالله التوفيق أنَّ النَّبيَّ صلعم إنَّما أراد بقولِه: (المُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعَاءٍ وَاحِدٍ) المؤمن التَّام الإِيمان لأنَّه مَن حسُن إسلامُه وكمُل إيمانُه تفكَّر في خلق الله له وفيما يصير إليه مِن الموت وما بعدَه، فيمنعُه الخوف والإشفاق مِن تلك الأهوال مِن استيفاء شهواتِه، وقد روي هذا المعنى عن النَّبيِّ صلعم مِن حديث أبي أُمَامَة، قال أبو أمامة: سمعت النَّبيَّ صلعم يقول: ((عَلَيْكُمْ بِقِلَّةِ الأَكْلِ تُعْرَفُونَ فِي الآخِرَةِ، فَمَنْ كَثُرُ تَفَكُّرُهُ قَلَّ طُعْمُهُ وَكَلَّ لِسَانُه، وَمَنْ قَلَّ تَفَكُّرُهُ كَثُرَ طُعْمُهُ وَعَظُمَ ذَنْبُهُ وَقَسَا قَلْبُهُ، وَالقَلْبُ القَاسِي بَعِيدٌ مِنَ اللهِ)).
          فأخبر صلعم أنَّ مَن تفكَّر فيما ينبغي له التفكُّر فيه مِن قُرْب أجلِه وما يصير إليه في معادِه قلَّ طمعُه وكلَّ لسانُه وحُقَّ له ذلك.
          قولُه ◙: (المُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعَاءٍ وَاحِدٍ) الحضُّ على التَّقلُّل مِن الدُّنيا والزُّهد فيها والقناعة بالبلغة، ألا ترى قولَه صلعم: ((إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيه، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ)).
          فدلَّ هذا المعنى أنَّ المؤمن الَّذي وصفَه النَّبيُّ صلعم أنَّه(5) يأكل في معاء واحد هو التَّامُّ الإيمان المقتصد في مطعمِه وملبسِه، الَّذي قَبِلَ وصية نبيِّه صلعم فأخذ المال بسخاوة نفس فبُورِك له فيه واستراح مِن داء الحرص.
          فإن قال قائل: فإن كان معنى الحديث ما ذكرت، فما أنت قائل فيما روي عن عُمَر بن الخطَّاب ☺ أنَّه كان يأكل صاع تمرٍ حتَّى يتتَّبع حشفَه، ولا أتمَّ مِن إيمانِه، قيل له: مَن علم سيرة(6) عمر ☺ وتقلُّلَه في مطعمِه وملبسِه لم يعترض بهذا، ولم يتوهَّم أنَّ قوت عمر كلَّ يوم كان صاع تمرٍ؛ لأنَّه كان مِن التَّقلُّل في مطعمِه وملبسِه في أبعد الغايات، وكان أشدَّ النَّاس اقتداء برسول الله صلعم في سيرتِه، وإنَّما كان يأكل عُمر الصَّاع في بعض الأوقات إذا بلغ منه الجوع فآلمه(7)، فكثيرًا كان يجوِّع نفسَه ولا يبلغ مِن الأكل نهمتَه، وقد كانت العرب(8) تمتدح بقلَّة الأكل وتذمُّ كثرتَه(9)، قال الشَّاعر:
يَكْفِيْهِ فِلْذَةُ كَبْدٍ(10) إِنْ أَلَمَّ بِهَا                     مِنَ الشِّوَاءِ ويَرْوِي شُرْبَه الغُمَرُ /
          وقالت أمُّ زرع في ابن(11) أبي زرع: وتشبعُه ذراع الجفرة.
          وقال حاتم الطَّائي يذمُّ كثرة الأكل:
فإنَّكَ إِنْ أُعْطِيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ                     وَفَرْجَكَ نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِ أَجْمَعَا.
          وقد شبَّه الله تعالى أكل الكفَّار بأكل البهائم فقال:
          {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ}[محمد:12]أي: أنَّهم يأكلون بالشَّرَه والنَّهم كالأنعام لأنَّهم جهَّال، وذلك لأنَّ الأكل على ضربين: أكل نَهْمة(12) وأكل حكمة، فأكل النَّهمة للشَّهوة فقط، وأكل الحكمة للشَّهوة والمصلحة.


[1] قوله: ((كان)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((يؤتى)).
[3] قوله: ((إن)) ليس في (ص).
[4] في (ز): ((فأنا أول من آمن)) والمثبت من (ص).
[5] قوله: ((النَّبي صلعم أنه)) ليس في (ص).
[6] في المطبوع: ((بسيرة)).
[7] في (ص): ((إذا غالبه الجوع وآلمه)).
[8] زاد في (ص): ((في الجاهلية)).
[9] في (ص): ((بكثرته)).
[10] في المطبوع: ((يكفيه حزة فلذ)).
[11] قوله: ((ابن)) ليس في (ص).
[12] في (ص): ((نهيمة)) وكذا بعدها: ((فأكل النهيمة)).