نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا

          5745- (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) المديني، قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هو: ابنُ عُيينة، كما صرَّح به في الطَّريق الثَّانية [خ¦5746]، وقدَّم الأولى لتصريح سفيان بالتَّحديث (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (عَبْدُ رَبِّهِ) بإضافة «عبد» إلى «رب»، وإضافة «رب» إلى الضَّمير (ابْنُ سَعِيدٍ) هو الأنصاري، أخو يحيى بن سعيد، وهو ثقةٌ ويحيى أشهر منه وأكثر حديثًا (عَنْ عَمْرَةَ) بفتح العين وسكون الميم؛ أي: بنت عبد الرَّحمن التَّابعية (عَنْ عَائِشَةَ ♦: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ) أي: في الرُّقية كما في رواية صدقة الآتية [خ¦5746] (بِسْمِ اللَّهِ) وفي رواية مسلم عن ابن أبي عُمر عن سفيان زيادة في أوَّله ولفظه: ((كان إذا اشتكى الإنسان، أو كانت به قرحةٌ، أو جرح قال النَّبي صلعم بإصبعه هكذا، ووضع سفيان سبَّابته بالأرض، ثمَّ رفعها: بسم الله)).
          (تُرْبَةُ أَرْضِنَا) هو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذه تربة أرضنا؛ أي: المدينة خاصَّةً لبركتها، أو كلُّ أرض. وقال النَّووي: قيل: المراد «بأرضنا»: أرض المدينة خاصَّة لبركتها، و«بعضنا» رسول الله صلعم ؛ لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصًا، وفيه نظرٌ لا يخفى (بِرِيقَةِ بَعْضِنَا) وفي رواية أبي ذرٍّ وابن عساكر: <وريقة بعضنا> بالواو بدل الموحدة، وفيه دلالةٌ على أنَّه كان يتفل عند الرُّقية.
          وقال النَّووي: معنى الحديث: أنَّه أخذ من ريقِ نفسه على إصبعه السَّبَّابة، ثمَّ وضعها على التُّراب، فعلقَ به شيءٌ منه، ثمَّ مسح به الموضع العليل، أو الجريح قائلًا الكلام المذكور في حالة المسح، وتكلَّموا في ذلك.
          قال القرطبي: فيه دَلالةٌ على جواز المسح عند الرُّقية في كلِّ الآلام، وأنَّ ذلك كان أمرًا فاشيًا معلومًا بينهم. قال: وَوَضْعُ النَّبيِّ صلعم سبابته بالأرض، وَوَضْعِها عليه يدلُّ على استحباب ذلك عند الرُّقي.
          قال: وزعم بعض علمائنا أنَّ السِّرَّ فيه: أنَّ تراب الأرض؛ / لبرودته ويُبسه يُبرئُ الموضع الذي به الألم، ويمنعُ انصباب المواد إليه؛ ليبسه مع منفعتهِ في تجفيف الجراح واندماليها. قال: وقال في الرِّيق: إنَّه يختصُّ بالتَّحليل والإنضاج وإبراء الجرح والورم، لاسيَّما من الصَّائم الجائع.
          وتعقَّبه القرطبيُّ: بأنَّ ذلك إنَّما يتمُّ إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التُّراب والرِّيق، وملازمة ذلك في أوقاته، وإلَّا فالنَّفث ووضع السَّبَّابة على الأرض إنَّما يتعلَّق بها ما ليس له بالٌ ولا أثرٌ، وإنَّما هذا من باب التَّبرُّك بأسماء الله تعالى، وآثار رسوله صلعم ، وأمَّا وضعُ الإصبع بالأرض فلعلَّه لخاصيَّةٍ في ذلك، أو الحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة.
          وقال فضل الله التُّوْرِبشتي: إنَّ المراد بالتُّربة الإشارة إلى فطرة آدم، وبالرِّيقة الإشارة إلى النُّطفة كأنَّه تضرَّع بلسان الحال أنَّك اخترعت الأصل الأوَّل من التُّراب، ثمَّ أبدعتَ بَنْيَهُ (1) من ماءٍ مهين فهيِّنٌ عليك أن تشفيَ من كانت هذه نشأته.
          وقال القاضي البيضاوي: قد شهدت المباحث الطِّبِّية على أنَّ للرِّيق مدخلًا في النُّضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثيرٌ في حفظ المزاج الأصلي ودفع نكاية المضرات، فقد ذكروا: أنَّه ينبغي للمسافر أن يستصحبَ تراب أرضه إن عجزَ عن استصحاب مائها حتَّى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئًا منه في سقاية؛ ليأمن من مضرة ذلك، ثمَّ إنَّ الرُّقى والعزائم لها آثارٌ عجيبةٌ تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها.
          وقال الطِّيبي في «شرح المشكاة»: إضافة تربة أرضنا وريقة بعضنا تدلُّ على الاختصاص، وأنَّ تلك التُّربة والرِّيقة مختصَّتان بمكانٍ شريفٍ يتبرَّك به بأيدي نفسٍ شريفةٍ قدسيَّةٍ طاهرةٍ زكيَّة من أوصاف الذُّنوب، وأوساخَ الآثام، فلمَّا تبرَّك باسم الله الشَّافي ضمَّ إليه تلك التُّربة والرِّيقة وسيلة إلى المطلوب.
          ويعضدُه: أنَّه صلعم بزقَ في عين عليٍّ ☺ فبرأَ من الرَّمد، وفي بئر الحديبية فامتلأت ماء.
          (يُشْفَى سَقِيمُنَا) بضم التحتية / على البناء للمفعول، و«سقيمُنا» رُفِعَ على أنَّه نائب الفاعل، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: بفتح التحتية على البناء للفاعل، و<سقيمَنا> نصب على المفعولية (بِإِذْنِ رَبِّنَا).
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرةٌ. وقد أخرجه مسلم في «الطِّب»، وكذا أبو داود فيه، وكذا النَّسائي فيه، وفي «اليوم والليلة».


[1] في الفتح: (ثم أبدعته منه من ماءٍ).