نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الدواء بالعسل

          ░4▒ (باب الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ) وهو: لعاب النَّحل، أو طَلٌّ خفيٌّ يقع على الزَّهر وغيره فيلقطُه النَّحل، وقيل: بخارٌ يصعدُ، فينضجُ في الجوِّ، فيستحيلُ ويغلظُ في اللَّيل، ويقعُ عسلًا فتجتنيهِ النَّحل وتغتذِي به، فإذا شبعتْ جنت منه مرَّة أخرى، ثمَّ تذهب به إلى بيوتها، وتضعه هناك كأنَّها تدَّخر لنفسها غذائها، فهو العسل.
          وقيل: إنَّها تأكل من الأزهار الطَّيِّبة والأوراق المعطَّرة، فيقلب الله تعالى تلك الأجسام في داخل أبدانها عسلًا، ثمَّ إنَّها تُلقي ذلك فهو العسلُ، وجمعها: أعسالٌ وعُسُل وعُسُول وعُسْلان، والعَسَّال والعَاسل: مشتارُه من موضعهِ، وللعسل أسماء ذكرها ومنافعها المجدُ الشيرازي مؤلِّف «القاموس» في مؤلِّف استقصاها، قيل: وتزيد على المائة، وأصلَحُه الرَّبيعي، ثمَّ الصَّيفي، وأمَّا الشِّتائي فرديءٌ، وما يُؤخذ من الجبال والشَّجر أجود ممَّا يُؤخذ من الخلايا، وهو بحسب مرعاه.
          ومن العجب أنَّ النَّحل تأكلُ من جميع الأزهار، ولا يخرجُ منها إلَّا حلوًا مع أنَّ أكثر ما تجتنيهِ مرٌّ، وطبع العسل حارٌّ يابس في الدَّرجة الثَّانية، وهو يجلي الأوساخَ التي في العروق / والأمعاء وغيرها، ويدفعُ الفضلات، ويغسل خَمْل المعدة، ويسخِّنُها تسخينًا مُعْتدلًا، ويفتحُ أفواه العُرُوق، ويشدُّ المعدة والكبِدَ والكُلى والمَثَانة، وفيه تحليلٌ للرُّطوبات أكلًا وطلاءً وتغذيةً، وفيه: حفظٌ للمعجونات، وإذهابٌ لكيفيَّة الأدوية المستكرهَة، وتنقيةٌ للكبدِ والصَّدر، وإدرارُ البول والطَّمث، ونفعٌ للسُّعال الكائن من البلغم، ونفعٌ للمشايخ ولأصحاب البلغم، والأمزجة الباردة.
          فالمبرودُ يستعمله وحدَه لدفعِ البرد، والمحرورُ مع غيره لدفعِ الحرارةِ، وهو جيِّدٌ للحفظِ يقوِّي البدن، ويحفظُ صحَّته ويسمِّنه، ويقوِّي الأنعاظَ، ويزيد في الباءة للمبرودين، والتَّغرغر به ينقِّي الخوانيق، وينفعُ من الفالج واللَّقوة والأوجاع الباردة الحادثة في جميع البدن من الرُّطوبات، واستعماله على الرِّيق يذيبُ البلغم، وإذا أضيف إليه الخلُّ نفع أصحاب الصَّفراء، ثمَّ هو غذاءٌ من الأغذية، ودواءٌ من الأدوية، وشرابٌ من الأشربة، وحلوى من الحلاوات، وطلاءٌ من الأطليةِ، ومفرحٌ من المفرحات، ومن منافعه إذا شرب حارًا بدهنِ الورد نفعَ من نهشِ الحيوان، وإذا شرب وحدَه بماء نفعَ من عضَّة الكَلْب الكَلِب، وإذا جعل فيه اللَّحم الطَّري حفظَ طراوته ثلاثة أشهر، وكذا الخيار والقرع والباذنجان واللَّيمون، ونحو ذلك من الفواكه، وإذا لطخ به البدن للقملِ قتل القمل والصِّيبان، وطوَّل الشَّعر، وحسَّنه، ونعَّمه، وإن اكتحل به جلى ظلمة البصر، وإن استنَّ به صقل الأسنان، وحفظ صحَّتها، وهو عجيبٌ في حفظ جثثِ الموتى، فلا يُسرع إليه البلى، وهو مع ذلك مأمون الغائلة قليل المضرَّة، ولم يكن معول قدماء الأطباء في الأدوية إلَّا عليه، ولا ذكر للسُّكر في أكثر كتبهم أصلًا، وهو في أكثر الأمراض والأحوال أنفعُ من السُّكر، لأنَّه يفتح ويجلو ويدرُّ ويحلل ويغسل وهذه الأفعال في السُّكر ضعيفةٌ، وفي السُّكر إرخاء المعدة، وليس ذلك في العسل، وكان صلعم يشرب كلَّ يومٍ قدح عسل ممزوجًا بماء على الرِّيق، وهي حكمةٌ عجيبةٌ في حفظ / الصِّحَّة، ولا يعقلها إلَّا العالمون، وكان بعد ذلك يتغدَّى بخبز الشَّعير مع الملح، أو الخل ونحوه، ويصابر شظف العيش، ولا يضره لما سبق من شربه بالعسل.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على قوله: ((الدَّواء بالعسل)) ({فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}) أي: في العسل شفاء للنَّاس من أدواء تعرض لهم. قيل: ولو قال فيه: الشِّفاء للنَّاس؛ لكان دواء لكلِّ داء، لكنه قال: فيه شفاءٌ للنَّاس؛ أي: يصلح لكلِّ داءٍ من أدواء باردة، فإنه حارٌّ والشَّيء يداوى بضدِّه.
          وذكر ابن بطَّال: أنَّ بعضهم قال: إن قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] ؛ أي: لبعضهم، وحمله على ذلك أنَّ تناول العسل قد يضرُّ ببعض النَّاس كمن يكون حار المزاج، لكن لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنَّه ليس في حمله على العموم ما يمنع أنَّه قد يضر ببعض الأبدان بطريق الفرض.
          ثمَّ إنَّ المؤلِّف ☼ ، إنَّما ذكر قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] لينبِّه على فضيلة العسل على سائر ما يُشرب من المشروبات، وكيف وقد أخبر الله تعالى بأنَّه شفاء، وكان ابن عُمر ☻ إذا خرجت به قرحة، أو شيءٌ لطخَ الموضع بالعسل، ويقرأ: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]، وكان يقول: ((عليكم بالشِّفائين القرآن والعسل)). وقال شقيق: قال رسولُ الله صلعم : ((المبطون شهيدٌ، ودواء المبطون العسل)).
          فإن قيل: كيف حال الرَّجل الذي جاء إلى النَّبي صلعم فقال: أخي يشتكي بطنه، فقال: ((اسقه عسلًا)) فسقاه فلم يفدْهُ حتَّى أتى الثَّانية والثَّالثة، فكذلك، حتَّى قال صلعم : ((صدقَ الله وكذبَ بطنُ أخيك)) الحديث على ما يأتي في هذا الباب [خ¦5684].
          فالجوابُ: أنَّه قد أخبر النَّبي صلعم عن عيب أطلعه الله عليه، وأعلمه بالوحي أنَّ شفاءه بالعسل، فكرَّر عليه الأمر بسقي العسل؛ ليظهر ما وعدَ به، وأيضًا قد علم أنَّ ذلك النَّوع من المرض يشفيه العسل، ولكن لم يعتقد الرَّجل المذكور ذلك، فتخلَّف عنه، وسيجيءُ ما يتعلَّق بذلك أيضًا. / وقال النَّووي: اعترض بعضُ الملاحدة، فقال: العسل مسهلٌ، فكيف يشفي لصاحب الإسهال، وهذا جهلٌ من المعترض، وهو كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس:39]، فإنَّ الإسهال يحصل من أنواع كثيرة.
          ومنها: الإسهالُ الحادث من الهيضة، وقد أجمع الأطبَّاء على أنَّ علاجه بأن يترك الطَّبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهالِ أُعينت، فيحتمل أن يكون إسهالُه من الهيضة، وأمره بشرب العسلِ معاونة إلى أن فنيت المادة، فوقف الإسهال.
          وقد يكون ذلك من باب التَّبرُّك، ومن دعائه، وحُسن أثره، ولا يكون ذلك حكمًا عامًّا لكلِّ النَّاس، وقد يكون ذلك خارقًا للعادة من جملة المعجزات، وقيل: المعنى: فيه شفاءٌ لبعض النَّاس، وأوَّلوا الآية. وحديث أبي سعيد الَّذي يأتي على الخصوص [خ¦5684]، وقالوا: الحجامةُ وشرب العسل والكي، إنَّما هو شفاءٌ لبعض الأمراض دون بعض.
          ألا ترى إلى قوله صلعم : ((أو لذعة بنار توافق الدَّاء))، [خ¦5683] فشرط صلعم موافقتها للدَّاء، فدلَّ هذا على أنَّها إذا لم توافق الدَّاء فلا دواء فيها. وقد جاء في القرآن ما لفظه لفظ العموم، والمراد به: الخصوص كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] يريد المؤمنين، وقال في بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، ولم تُؤتَ ملك سُليمان ◙، ومثله كثير.
          وقد اختلف أهل التَّأويل في مرجع الضَّمير في: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]. فقال بعضهم: هو القرآن، وهو قول مجاهد، وهو في نفسه قولٌ صحيحٌ، لكن ليس هو الظَّاهر من سياق الآية؛ لأنَّها إنَّما ذكر فيها العسل، ولم يُتابع مجاهد على قوله هذا، بل الظَّاهر أنَّه هو العسل.
          ورُوِي هذا عن ابن مسعود وابن عبَّاس ♥ ، وهو قولُ الحسن وقتادة، وهو أولى أيضًا بدليل حديثي الباب كما ترى.
          وقال الحافظ ابنُ كثير: روينا عن عليِّ بن أبي طالب ☺، أنَّه قال: ((إذا أراد / أحدكُم الشِّفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحفةٍ، وليغسلها بماء السَّماء، وليأخذْ من امرأته درهمًا عن طيب نفسٍ منها، فليشترِ به عسلًا فليشربه كذلك فإنَّه شفاء))، ورواه ابنُ أبي حاتم في «تفسيره» بسندٍ حسنٍ بلفظ: ((إذا اشتكى أحدكُم فليستوهب من امرأتهِ من صداقها فليشتر به عسلًا، ثمَّ يأخذ ماء السَّماء فيجمع هنيئًا مريئًا شفاءً مباركًا))، وفي حديث ابن مسعود ☺ رفعه: ((عليكم بالشِّفائين العسل والقرآن)) رواه ابن ماجه.