نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الحمى من فيح جهنم

          ░28▒ (باب الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) بفتح الفاء وسكون التحتية وبحاء مهملة، وسيأتي في حديث رافع آخر الباب: ((من فَوْحِ)) [خ¦5726] بالواو. وتقدَّم في «صفة النَّار» بلفظ [خ¦3262]: ((فور)) / بالراء بدل الحاء، والكلُّ بمعنى واحد. وقال الجوهريُّ: الفيح والفوح لغتان، يُقال: فاحت رائحة المسك تفيحُ وتفوح فيحًا وفوحًا ووفوحًا، ولا يُقال: فاحتْ رائحة خبيثة، والمراد: أنَّ الحمَّى من سطوع حرِّ جهنَّم وفورانه حقيقة، أُرسلت إلى الدُّنيا نذيرًا للجاحدين وبشيرًا للمُقرِّين؛ لأنَّها كفَّارة لذنوبهم، فعلى هذا يكون اللَّهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنَّم، وقدَّر الله ظهورها بأسباب تقتضيها؛ ليعتبر العباد بذلك، كما أنَّ أنواعَ الفرح واللَّذة من نعيم الجنَّة أظهرها في هذه الدَّار عبرة ودَلالة.
          وقد جاء في حديثٍ آخر أخرجه البزَّار من حديث عائشة ♦ بسندٍ حسن. وفي الباب عن أبي أُمامة عند أحمد، وعن أبي ريحانة عند الطَّبراني، وعن ابن مسعود ☺ في «مسند الشهاب»: ((الحمَّى حظُّ المؤمن من النَّار)).
          ويجوز أن يكون من باب التَّشبيه، شبَّه اشتعالَ حرارة الطَّبيعة في كونها مذيبةً للبدن، ومعذِّبةً له بنار جهنَّم، ففيه تنبيهٌ للنُّفوس على شدَّة حرِّ النَّار أعاذنا الله منها، ومن سائر المكاره بمنَّه وكرمه. آمين.
          قال الطِّيبي: ((من)) ليست بيانية حتَّى يكون تشبيهًا كقوله تعالى: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]. فهي إمَّا ابتدائية؛ أي: الحمَّى نشأت وحصلت من فيح جهنَّم، أو تبعيضية؛ أي: بعض منها. قال: ويدلُّ على هذا ما ورد في «الصحيح»: ((اشتكت النَّار إلى ربِّها فقالت: ربِّ أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسَين نفسٍ في الشِّتاء، ونفسٍ في الصَّيف)) [خ¦537]، فكما أنَّ حرارة الصَّيف أثر من فيحها، كذلك الحمى، والله تعالى أعلم.