نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الكهانة

          ░46▒ (بابُ الْكَهَانَةِ) وقع لابن بطَّال هنا: <باب الكهانة والسِّحر>، وليس هو في نسخ «الصحيح»، وقد ترجم البُخاري للسِّحر بابًا مفردًا عقب هذه [خ¦76/47-8579].
          والكَهانة _بفتح الكاف ويجوز كسرها، والفتح أشهر_، وهي ادِّعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقعُ في الأرض مع الاستناد إلى سبب.
          ويُقال: هي الإخبارُ بما يكون في أقطار الأرض إمَّا من جهة التَّنجيم، أو العرافة، وهي الاستدلال بأسبابها، والكاهنُ يُطَلقُ على العرَّاف والمنجم، والَّذي يضرب بالحصى، وفي «المُحكَم»: الكاهن: القاضي بالغيب، ويطلق على من يقوم بأمرٍ آخر، ويسعى في قضاء حوائجه، وقال في «الجامع»: العرب تُسمِّي كلَّ من أخبر بشيءٍ قبل وقوعه كاهنًا.
          وقال الخطَّابي: الكهنة: قومٌ لهم أذهانٌ حادَّةٌ، ونفوسٌ شريرة، وطباعٌ ناريَّة، فألفتهم الشَّياطين لما بينهم من التَّناسب في هذه الأمور وساعدتهم بكلِّ ما تصل به قدرتهم إليه، والأصل فيه استراق الجنِّي السَّمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن، وكانت الكهانة في الجاهليَّة فاشية، خصوصًا في العرب؛ لانقطاع النُّبوَّة فيهم، وهي على أصناف:
          منها: ما يتلقَّونه من الجن، فإنَّ الجنَّ كانوا يصعدون إلى جهة السَّماء ويركب بعضهم بعضًا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الَّذي يليه إلى أن يتلقَّاه من يلقيه في أذن الكاهنِ، ويزيد فيه، فلمَّا جاء الإسلام ونزل القرآن حُرِسَت السَّماء من الشَّياطين، وأُرسلت عليهم الشُّهب، فبقي من استرقائهم ما يتخطَّفه الأعلى فيُلقيه إلى الأسفل قبل أن يُصيبَه الشِّهاب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10]، وكانت إصابة الكهَّان قبل الإسلام كثيرةٌ جدًّا كما جاء في أخبارهم، شقٌّ وسُطيح ونحوهما، وأمَّا في الإسلام فقد ندر ذلك جدًا حتَّى كادَ يضمحلُّ، ولله الحمد.
          ومنها: ما يخبر الجنِّي به من يواليه بما غاب عن غيره ممَّا لا يطَّلع عليه الإنسان غالبًا، أو يطَّلع عليه / من قربٍ منه لا من بعد.
          ومنها: ما يستندُ إلى ظنٍّ وتخمينٍ وحدسٍ، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض النَّاس قوَّةً مع كثرة الكذب فيه.
          ومنها: ما يستند إلى التَّجربة والعادة فيستدلُّ على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السِّحر، وقد يعتضدُ بعضهم في ذلك بالزَّجر والطَّرق والنُّجوم، وكلُّ ذلك مذمومٌ شرعًا، وورد في ذمِّ الكهانة ما أخرجه أصحاب «السنن»، وصحَّحه الحاكم من حديث أبي هُريرة ☺ رفعه: ((من أتى كاهنًا، أو عرَّافًا فصدَّقه بما يقول فقد كفرَ بما أُنزل على محمَّدٍ))، وله شاهدٌ من حديث جابر وعمران بن حصين ☻ أخرجه البزَّار بسندٍ جيِّدٍ، ولفظه: ((من أتى كاهنًا)).
          وأخرجه مسلمٌ من حديث امرأةٍ من أزواج النَّبي صلعم ، ومن الرُّواة من سمَّاها حفصة بلفظ: ((من أتى عرَّافًا)). وأخرجه أبو يعلى من حديث ابن مسعود ☺ بسندٍ جيِّدٍ، لكن لم يصرِّح برفعه، ومثله لا يقال بالرَّأي، ولفظه: ((من أتى عرَّافًا، أو ساحرًا، أو كاهنًا)).
          واتَّفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ أبي هريرة ☺ إلَّا حديث مسلم فقال فيه: ((لم يُقبل له صلاة أربعين يومًا)). ووقع عند الطَّبراني من حديث أنسٍ ☺ بسندٍ ليِّنٍ مرفوعًا بلفظ: ((من أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول، فقد برئ ممَّا أُنزل على محمَّدٍ، ومن أتاه غير مصدِّقٍ له لم يُقبل له صلاة أربعين يومًا)). والأحاديث الأُوَل مع صحَّتها وكثرتها أولى من هذا، والوعيد جاء تارةً بعدم قبول الصَّلاة، وتارة بالتَّكفير، فيحمل على حالين من الآتي، أشار إلى ذلك القرطبي.
          والعَرَّاف _بفتح المهملة وتشديد الراء_: من يستخرج الوقوف على المغيَّبات بضربٍ من فعل، أو قول.