نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: إذا وقع الذباب في الإناء

          ░58▒ (بابٌ إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الإِنَاءِ) أي: كيف يكون حكمه، والذُّباب _بضم الذال المعجمة وتخفيف الموحدة_، قال أبو هلال العسكري: الذُّباب واحدٌ، والجمع: ذِبَّان، كغربان؛ يعني: بكسر الذال، والعامة تقول: ذباب للجمع، والواحد: ذِبَّانة، بوزن قِرْدانة وهو خطأ، كذا قال أبو حاتم السِّجستاني أنَّه خطأ. ونقل في «المُحكَم» عن أبي عبيدة عن خلف الأحمر تجويز ما زعم العسكريُّ أنَّه خطأ، وحكى سيبويه في الجمع ذُبَّ _بضم أوله والتشديد_.
          وقال الجوهري: الذُّباب معروف الواحدة: ذُبَابة، ولا تقل: ذِبَّانة، وجمع القلة: أذبة، والكثير ذبان مثل: غُرَاب وأَغْربة وغِرْبان، وأرض مذبَّة ذات ذباب، وقيل: سُمِّي ذبابًا لكثرة حركتهِ واضطرابه، وقد أخرج أبو يَعلى بسندٍ لا بأس به عن ابن عمر ☻ مرفوعًا: ((عمر الذُّباب أربعون ليلة، والذُّباب كله في النَّار إلا النَّحل))، وأخرجه ابنُ عدي دون أوَّله من وجه آخر ضعيف.
          وقال الجاحظُ: / كونه في النَّار ليس تعذيبًا له بل ليعذب أهل النَّار بوقوعه عليهم. وقال الجوهري: يُقال: إنَّه ليس شيءٌ من الطُّيور يلغ إلَّا الذُّباب. وقال أفلاطون: الذُّباب أحرصُ الأشياء حتَّى إنَّه يلقي نفسه في كلِّ شيءٍ، ولو كان فيه هلاكه.
          ويتولَّد من العفونة ولم يخلق له أجفان لصغرِ حدقته، ومن شأن الأجفان أن تصقلَ مرآة الحَدَقة من الغبار، فجعل الله له يدين يصقلُ بهما مرآة حدقتِهِ فلذا تراهُ أبدًا يمسحُ بيديه عينيه.
          ومن عجيبِ أمره أن رجيعَه يقعُ على الثَّوب الأسود أبيض، وبالعكس وأكثر ما يظهرُ في أماكن العفونة، ومبدأ خلقه منها ثمَّ التَّوالد، وهو من أكثر الطُّيور سفادًا ربَّما يقعُ عامة اليوم على الأنثى.
          وأدنى الحكمة في خلقهِ أذى الجبابرة، وقيل: ولولا هي لجافت الدُّنيا، ويُحكى أنَّ بعضَ الخلفاء سأل الشَّافعي لأيِّ علَّةٍ خلق الذُّباب، فقال: مذلَّة للملوك، وكانت ألحَّت عليه ذبابةٌ، فقال الشَّافعي: سألني ولم يكن عندي جوابٌ فاستنبطُّته من الهيئة الحاصلة.
          وقال أبو محمَّد المالقي: ذباب النَّاس يتولَّد من الزِّبل، وإن أخذ الذُّباب الكثير فقطعتْ رؤوسها، وحكَّ بجسدها الشَّعرة التي في الجفنِ حكًا شديدًا أبراته، وكذا داء الثَّعلب، وإن مسحَ لسعة الزُّنبور بالذُّباب سكن الوجع.