نجاح القاري لصحيح البخاري

باب رقية العين

          ░35▒ (بابُ رُقْيَةِ الْعَيْنِ) أي: رقية الَّذي يُصابُ بالعين. تقول: عِنْت الرَّجل: أصبتَه بعينك فهو مَعِينٌ ومعيون، ورجل عائنٌ ومعيان وعَيُون، وليس المراد به الرَّمد، بل الإضرارُ بالعين، والإصابة بها كما يتعجَّب الشَّخص ممَّا يراه بعينه، فيتضرَّر ذلك الشَّيء من نظرهِ، فالعين نظر باستحسان مشوبٍ بحسدٍ من خبيث الطَّبع يحصل للمنظور منه ضررٌ، ولولا هذا لكان كلُّ عاشقٍ يصيبُ معشوقه بالعين. وقد وقع عند أحمد عن أبي هريرة ☺ رفعه: ((العين حقٌّ ويَحْضُرها الشَّيطان وحسدُ ابن آدم)).
          وقد أشكل ذلك على بعض النَّاس فقال: كيف تعملُ العين من بعد حتَّى يحصل الضَّرر للمعيون؟ والجوابُ: أنَّ طبائع النَّاس تختلف فقد يكون ذلك من سمٍّ يصلُ من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون.
          وقد نقل عن بعض من كان معيانًا، أنَّه قال: إذا رأيت شيئًا يُعجبني وجدت حرارةً تخرج من عيني، ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضعُ يدها في إناء اللَّبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسدْ، وكذا تدخل البستان فتضرُّ بكثيرٍ من الغروس من غير أن تمسَّها.
          ومن ذلك: أنَّ الصَّحيح قد ينظرُ إلى العين الرَّمداء فيرمد، أشار إلى ذلك ابن بطَّال.
          وقال الخطَّابي في الحديث: إنَّ للعين تأثيرًا في النُّفوس، وإبطال قول الطَّبائعيين: أنَّ العائن ينبعث من عينه قوَّة سمِّية تتصلُ بالمعين فيهلك، أو يفسد، وهو كإصابة السُّم من نظر الأفعى، وأشار إلى منع الحصر في ذلك مع تجويزه، وأنَّ الذي يتمشَّى على طريقة أهل السُّنَّة: أنَّ العين إنَّما تضرُّ عند نظر العائن بعادةٍ أجراها الله تعالى أن يحدث الضَّرر عند مقابلة شخص لآخر.
          وهل ثمَّة جواهر خفيَّة أو لا؟ هو أمرٌ محتملٌ لا يقطعُ بإثباته، ولا نفيهِ، ومن قال ممَّن ينتمي إلى الإسلام من أصحاب الطَّبائع بالقطع بأنَّ جواهر لطيفة غير مرئيَّة تنبعثُ من العائن، فتتصلُ بالمعيون، وتتحلَّل مسامُ جسمهِ، فيخْلُقُ الباري الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السُّموم؛ فقد أخطأ بدعوى القطع، / ولكنَّه جائزٌ أن يكون عادة ليست ضرورة ولا طبيعة. انتهى. وهو كلامٌ سديدٌ.
          وقد بالغ ابنُ العربي في إنكاره فقال: ذهبت الفلاسفة إلى أنَّ الإصابة بالعين صادرةٌ عن تأثير النَّفس بقوتها فيه، فأوَّل ما تؤثِّر في نفسها، ثمَّ تؤثر في غيرها، وقيل: إنَّما هو سمٌّ في عين العائنِ يصيب بلفحه عند التَّحديق إليه، كما يصيبُ لفح سم الأفعى من يتصل به.
          ثمَّ رد الأوَّل: بأنه لو كان كذلك لما تخلَّفت الإصابة في كلِّ حالٍ، والواقع خلافه.
          والثَّاني: بأنَّ سمَّ الأفعى جزءٌ منها، وكلُّها قاتلٌ، والعائن ليس يقتلُ منه شيءٌ في قولهم إلَّا بنظره، وهو معنى خارج عن ذلك.
          قال: والحقُّ أنَّ الله تعالى يخلقُ عند نظر العائن إليه وإعجابه به إذا شاءَ ما شاء من ألم، أو هلكةٍ، وقد يصرفُه قبل وقوعه إمَّا بالاستعاذة، أو بغيرها، وقد يصرفُه بعد وقوعه بالرُّقية، أو بالاغتسال، أو بغير ذلك. انتهى كلامه.
          وفيه بعض ما يُتعقَّب؛ فإنَّ الذي مثَّل بالأفعى لم يُرِد أنَّها تلامس المصاب حتَّى يتصلَ به من سمِّها، وإنَّما أراد أنَّ جنسًا من الأفاعي اشتهر أنَّها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن، وقد أشار صلعم إلى ذلك في حديث أبي لُبابة الماضي في «بدء الخلق» عند ذكر الأبتر وذي الطُّفيتين قال [خ¦3297]: ((فإنَّهما يطمسان البصر، ويسقطان الحبل)).
          وليس مراد الخطَّابي بالتَّأثير المعنوي الَّذي يذهب إليه الفلاسفة، بل ما أجرى الله تعالى به العادة من حصول الضَّرر للمعيون. وقد أخرج البزَّار بسندٍ حسنٍ عن جابر ☺ رفعه: ((أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنَّفس)). قال الرَّاوي: يعني: بالعين.
          وقد أجرى الله تعالى العادة بوجود كثير من القوى، والخواصُّ في الأجسام والأرواح كما يَحدثُ لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجلُ، فيَرَى في وجهه حمرةً شديدةً لم تكن قبل ذلك، وكذلك الاصفرار عند رُؤية مَنْ يخافه، وكثيرٌ من النَّاس يسقمُ بمجرَّد النَّظر إليه وتضعف قواه، وكلُّ ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التَّأثيرات، ولشدَّة ارتباطها بالعين / نسبَ الفعل إلى العين، وليست هي المؤثرة، وإنَّما التَّأثير للرُّوح والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفيَّاتها وخواصها، فمنها ما يؤثِّر في البدن بمجرَّد الرُّؤية من غير اتِّصالٍ به؛ لشدَّة خبث تلك الرُّوح وكيفيَّتها الخبيثة.
          والحاصل: أنَّ التَّأثير بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصورًا على الاتِّصال الجسماني، بل يكون تارةً به وتارةً بالمقابلة، وأخرى بمجرَّد الرُّؤية، وأخرى بتوجُّه الرُّوح كالذي يحدثُ من الأدعية والرُّقى، والالتجاء إلى الله تعالى، وتارةً يقع ذلك بالتَّوهُّم والتَّخيُّل، فالَّذي يخرج من عين العائن سهمٌ معنويٌّ إن صادف البدن لا وقاية له أثَّر فيه، وإلا لم ينفذِ السَّهمُ، بل ربَّما رُدَّ على صاحبه كالسَّهم الحسيِّ سواءٌ، والله تعالى أعلم.