نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: هل يستخرج السحر؟

          ░49▒ (بابٌ: هَلْ يَسْتَخْرِجُ السِّحْرَ) أي: من الموضع الَّذي وُضِع فيه، ورُوِي على البناء للمفعول وعلى البناء للفاعل، وإنَّما ذكره بحرف الاستفهام إشارةٌ إلى الاختلاف فيه، ولما ذكر التَّرجمة بالاستفهام أورد الَّذي روي عن قتادة إشارة إلى ترجيحِ جواز استخراج السِّحر، فقال:
          (وَقَالَ قَتَادَةُ) أي: ابن دِعامة (قُلْتُ: لِسَعِيدِ بْنِ المسيِّب: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ) بكسر الطاء المهملة، وفي رواية أبي ذرٍّ: بفتحها وتشديد الباء الموحدة؛ أي: سحر (أَوْ: يُؤَخَّذُ) بسكون الواو، و«يُؤَخَّذ»: بضم الياء وفتح الهمزة وتشديد الخاء المعجمة وبالذال المعجمة؛ أي: يحبس الرَّجل (عَنِ امْرَأَتِه) أي: عن مباشرة امرأتهِ ولا يصلُ إلى جِمَاعها، وهذا هو المشهورُ بعقد الرَّجل.
          وقال الجوهريُّ: الأُخذة _بالضم_ الرُّقية كالسِّحر أو خرزة يرقى عليها يُؤخذ بها النِّساء من الرِّجال من التَّأخيذ، وقيل: هي الكلام الذي يقوله السَّاحر.
          (أَيُحَلُّ عَنْهُ) بهمزة الاستفهام على البناء للمفعول (أَوْ يُنَشَّرُ) بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين المعجمة وبالراء على البناء للمفعول أيضًا، من التَّنشير من النُّشْرة _بضم النون وسكون الشين_، وهي ضربٌ من العلاج كالتَّعويذ والرُّقية يُعالج به من يُظنُّ أنَّ به سحرًا، أو مسًا من الجنِّ قيل لها ذلك، لأنَّه يكشف بها عنه ما خالطه من الدَّاء، وكلمة ((أو)) يحتمل أن تكون شكًا، وأن تكون تنويعًا / شبيهًا باللَّف والنَّشر، بأن يكون الحل في مقابلة الطِّبِّ، والتَّنشير في مقابلة التَّأخيذ.
          (قَالَ) أي: ابن المسيِّب (لاَ بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِصْلاَحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ) أي: النَّاس، وقد ثبتَ لفظ «النَّاس» في «اليونينية» ورقم عليه علامة الثُّبوت (فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ) على البناء للمفعول. وهذا الأثر وصله أبو بكر الأثرم في كتاب «السُّنن» من طريق أبان العطَّار عن قتادة مثله. ومن طريق هشام الدَّستوائي عن قتادة بلفظ: ((يلتمس من يداويه فقال: إنَّما نهى الله عمَّا يضرُّه ولم ينهَ عمَّا ينفعُ)).
          وأخرجه الطَّبري في «التهذيب» من طريق يزيد بن زُريع عن قتادة عن سعيد بن المسيِّب، أنَّه كان لا يرى بأسًا إذا كان بالرَّجل سحرٌ أن يمشي إلى من يُطلِق عنه، وقال: هو صلاحٌ. قال قتادة: وكان الحسن يكرهُ ذلك يقول: لا يَعلم ذلك إلَّا ساحرٌ، قال: فقال سعيد بن المسيِّب: إنَّما نُهيَ عمَّا يضر ولم يُنهَ عما ينفعُ.
          وقد أخرج أبو داود في «المراسيل» عن الحسن رفعه: ((النُّشرة من عمل الشَّيطان)). ووصله أحمدُ وأبو داود بسندٍ حسنٍ عن جابر ☺.
          قال ابن الجوزي: النُّشرة حَلُّ السِّحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلَّا من يعرف السِّحر، وقد سُئل أحمد عمَّن يُطلق السِّحر عن المسحور فقال: لا بأس به.
          ويُجاب عن الحديث بأنَّ في قوله: ((النُّشرة من عمل الشَّيطان)) إشارة إلى أصلها، ويختلفُ الحكم بالقصد فمن قصدَ بها خيرًا كان خيرًا وإلَّا فهو شرٌّ، ويوافق قول سعيد بن المسيِّب ما تقدَّم في باب «الرُّقية» [خ¦76/35-8543] في حديث جابر ☺ عند مسلم مرفوعًا: ((من استطاع أن ينفعَ أخاه فليفعل)).
          ويؤيِّد مشروعيَّة النُّشرة ما تقدَّم في حديث «العين حقٌّ» [خ¦5740] في قصَّة اغتسال العائن، وقد أخرج عبد الرَّزَّاق من طريق الشَّعبي قال: لا بأس بالنُّشرة العربية التي إذا وطئتْ لا تضر، وهي أن يخرجَ الإنسان في موضع عِضَاه فيأخذَ عن يمينه، وعن شماله من كلٍّ ثمَّ يدقُّه ويقرأُ فيه ثمَّ يغتسل به.
          وذكر ابن بطَّال أن في كتب وهب بن منبِّه: أن يأخذَ سبع ورقاتٍ من سدرٍ أخضر فيدقُّه بين حجرين، ثمَّ يضربه بالماء، ويقرأُ فيه آية الكرسي / والقواقل _ذوات: قل_ ثمَّ يحسو منه ثلاث حسوات، ثمَّ يغتسل به فإنَّه يذهب عنه كلَّ ما به، وهو جيِّدٌ للرَّجل إذا حبس عن أهله.
          وممَّن صرَّح بجواز النُّشرة: المزنيُّ صاحب الشَّافعي وأبو جعفر الطَّبري وغيرهما.