نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: أي ساعة يحتجم؟

          ░11▒ (بابٌ أَيَّةُ سَاعَةٍ يَحْتَجِمُ) / والمراد بالسَّاعة: مطلق الزَّمان لا السَّاعة النُّجومية المتعارفة، وفي رواية الكُشميهني: <أي ساعة> بدون الهاء، وقد جاء في القرآن: {بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]. وقال الزَّمخشري: شبَّه سيبويه تأنيث ((أي)) بتأنيث كلٍّ في قولهم: كلُّهنَّ فعل ذلك.
          وقال الكرمانيُّ: غرض البُخاري _يعني: من هذه التَّرجمة_ أنَّه لا كراهة في بعض الأيَّام، أو السَّاعات. وقال العينيُّ: وقت الحجامة في أيَّام الشَّهر لم يصحَّ فيه شيءٌ عنده، فلذلك لم يذكر حديثًا واحدًا من الأحاديث التي فيها تعيين الوقت.
          وقال الحافظُ العسقلاني: وقد وردَ في الأوقات اللَّائقة بالحجامة أحاديث ليس فيها شيءٌ على شرطه، فكأنَّه أشار إلى أنَّها تصنعُ عند الاحتياج، ولا تتقيَّد بوقتٍ دون وقت؛ لأنَّه ذكر الاحتجام ليلًا كما سيجيء [خ¦76/11-8480].
          وذكر حديث ابن عبَّاس ☻ [خ¦5694]، وهو يدلُّ على الاحتجام نهارًا، كما سيجيء أيضًا، وقد وردَ في تعيين الأيَّام للحجامة حديثٌ لابن عمر ☻ عند ابن ماجه، ورفعَه في أثناء حديث، وفيه: ((فاحتجموا على بركةِ الله يوم الخميس، واحتجمُوا يوم الاثنين والثُّلاثاء، واجتنبوا الحجامةَ يوم الأربعاء والجمعة والسَّبت والأحد)) أخرجهُ من طريقين ضعيفين.
          وله طريقٌ ثالثةٌ ضعيفةٌ أيضًا عند الدَّارقطني في «الأفراد»، وأخرجه بسندٍ جيِّدٍ عن ابن عمر ☻ موقوفًا، ونقل الخلَّال عن أحمد: أنَّه كره الحجامةَ في الأيَّام المذكورة، وإن كان الحديث لم يثبت، وحُكي: أنَّ رجلًا احتجمَ يوم الأربعاء، فأصابه برصٌ؛ لكونه تهاون بالحديث، وأخرج أبو داود من حديث أبي بكرة ☺: أنَّه كان يكره الحجامة يوم الثُّلاثاء، وقال: إنَّ رسولَ الله صلعم قال: ((يوم الثُّلاثاء يوم الدَّم، وفيه ساعةٌ لا يرقأُ فيها))، ووردَ في عدد من الشَّهر أحاديث.
          منها: ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هُريرة ☺ رفعه: ((من احتجمَ لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين كان شفاء من كلِّ داء)). وهو من رواية / سعيد بن عبد الرَّحمن الجُمحي، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هُريرة ☺، وسعيد وثَّقه الأكثرون، وليَّنه بعضهم من قبل حفظه.
          وله شاهدٌ من حديث ابن عبَّاس ☻ عند أحمد والتِّرمذي ورجاله ثقاتٌ، لكنَّه معلول. روى التِّرمذي عن ابن عبَّاس ☻ : قال رسول الله صلعم : ((نعم العبدُ الحجَّام، يُذهب الدَّم، ويخفُّ القلب، ويجلو عن البصر، وإنَّ خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة، ويوم تسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين)).
          وله شاهدٌ آخر أيضًا رواه التِّرمذي من حديث أنسٍ ☺: أنَّ رسول الله صلعم كان يحتجمُ في الأخدعَين والكاهل، وكان يحتجمُ لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين. وقال: حديثٌ حسنٌ، ورواه ابن ماجه أيضًا بسندٍ ضعيفٍ، ولكنَّه من فعله صلعم .
          وروى أبو نُعيم الحافظ من حديث ابن عبَّاس ☻ مرفوعًا: ((الحجامة في الرَّأس شفاءٌ من سبع: الجنون، والجذام، والبرص، والنُّعاس، ووجعُ الأضراس، والصُّداع، والظُّلْمة يجدها في عينيه)). ومن حديث ابن عمر ☺ بسندٍ لا بأس به رفعه: ((الحجامةُ تزيدُ في الحفظ، وفي العقل، وتزيدُ الحافظ حفظًا، فعلى اسم الله يوم الخميس، ويوم الجمعة، ويوم السَّبت، ويوم الاثنين، ويوم الثُّلاثاء، ولا تحتجموا يوم الأربعاء، فما ينزلُ من جنونٍ ولا جذامٍ ولا برصٍ إلَّا ليلة الأربعاء)).
          وروى أبو داود من حديث سلمى خادم رسول الله صلعم : ما كان أحدٌ يشتكي إلى رسول الله صلعم وجعًا في رأسه إلَّا قال: ((احتجم)) ولا وجعًا في رجليه إلَّا قال: ((اخضبهما)). ولكون هذه الأحاديث لم يصحَّ منها شيءٌ؛ قال حنبلُ بن إسحاق: كان أحمد يحتجمُ أي وقتٍ هاج به الدَّم، وأيَّ ساعةٍ كانت.
          وقد اتَّفق الأطباء على أنَّ الحجامة في النِّصف الثَّاني من الشَّهر، ثمَّ في الربع الثَّالث من أرباعه أنفع من الحجامة في أوَّله وآخره. قال الموفَّق البغدادي: وذلك أنَّ الأخلاط في أوَّل الشَّهر تهِيْجُ، وفي آخره / تَسْكُن، فأولى ما يكون الاستفراغ في أثنائه.
          وقد ثبت عند الأطباء: أنَّ أنفع الحجامة ما يقع في السَّاعة الثَّانية، أو الثَّالثة، وأن لا يقع عقب استفراغ عن حمام، أو جماع، أو غيرهما، ولا عقب شبعٍ، ولا جوعٍ، والله تعالى أعلم.
          (وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى) هو: عبدُ الله بن قيس الأشعري (لَيْلًا) وهذا التَّعليق وصله ابنُ أبي شيبة، عن هُشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، وذكره البُخاري؛ ليدلَّ على أنَّ الحجامة لا تتعيَّن بوقتٍ من النَّهار واللَّيل، بل يجوز في أيِّ ساعةٍ شاء من اللَّيل والنَّهار كما تقدَّم.