نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الرقى بالقرآن والمعوذات

          ░32▒ (بابٌ الرُّقَى) بضم الراء وبالقاف مقصور، جمع: رُقْية _بضم الراء وسكون القاف_، يقال: رَقَى _بالفتح_ يَرْقِي _بالكسر_ من باب رَمَى يَرْمِي، ورقِيت فلانًا _بكسر القاف_ أرقيه، واسترقى طلب الرُّقية، والكل بلا همز، وهو بمعنى التَّعويذ بالذال المعجمة. وقال ابنُ الأثير: الرُّقية والرُّقى والاسترقاء: العوذة الَّتي يرقى بها صاحب الآفَّة كالحمى والصَّرع وغير ذلك من الآفات.
          (بِالْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ) هو من عطف الخاصَّ على العامِّ. وقال الكرمانيُّ: وكان حقُّه أن يُقال: والمعوذتين؛ لأنَّهما سورتان فجَمَعَ إمَّا لإرادة هاتين السُّورتين، وما يشبههما من القرآن، كقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97] {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] وغير ذلك، أو باعتبار أنَّ أقلَّ الجمع اثنان، وقيل: المراد بالمعوَّذات: سورة الفلق والنَّاس والإخلاص كما تقدَّم في أواخر «التَّفسير» [خ¦4976]، فيكون من باب التَّغليب. قال الحافظُ العسقلاني: وهذا أولى، فقد أخرج أحمدُ وأبو داود والنَّسائي، وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم من رواية عبد الرَّحمن بن حَرملة عن ابن مسعود ☺: أنَّ النَّبي صلعم كان يكرهُ عشر خصال، فذكر فيها الرقى إلَّا بالمعوذات. وعبد الرَّحمن بن حرملة: / قال البُخاري: لا يصحُّ حديثه، وقال الطَّبري: لا يحتجُّ بهذا الخبر لجهالة راوية، وعلى تقدير صحَّته فهو منسوخٌ بالإذن في الرقية بفاتحة الكتاب. وأشار المهلَّب إلى الجواب عن ذلك بأنَّ في الفاتحة معنى الاستعاذة، وهو الاستعانة. فعلى هذا يختصُّ الجواز بما يشتملُ على هذا المعنى.
          وقد أخرجه التِّرمذي وحسَّنه، والنَّسائي من حديث أبي سعيد ☺: كان رسول الله صلعم يتعوَّذ من الجانِّ وعين الإنسان حتَّى نزلت المعوَّذات، فأخذَ بها وتركَ ما سواها. وهذا لا يدلُّ على المنع من التَّعوُّذ بغير هاتين السُّورتين، بل يدلُّ على الأولويَّة، ولاسيَّما مع ثبوت التَّعوذ بغيرها، وإنَّما اجتزأ بهما؛ لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من كلِّ مكروهٍ جملةً وتفصيلًا.
          وقد أجمع العُلماء على جواز الرُّقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، أو بما يَعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أنَّ الرُّقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى.
          واختلفوا في كونها شرطًا، والرَّاجح: أنَّه لابد من اعتبار الشُّروط المذكورة ففي «صحيح مسلم» من حديث عوف بن مالك قال: كنَّا نرقى في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: ((اعرضوا عليَّ رقاكم لا بأسَ بالرُّقى ما لم يكن فيه شركٌ)). وله من حديث جابر ☺: نهى رسول الله صلعم عن الرُّقى فجاء آل عَمرو بن حزم فقالوا: يا رسول الله إنَّه كانت عندنا رقيةٌ نرقي بها من العقرب، قال: فعرضوا عليه، فقال: ((ما أرى بأسًا من استطاع أن ينفعَ أخاه فلينفعْه)). وقد تمسَّك قومٌ بهذا العموم فأجازوا كلَّ رقيةٍ جربت منفعتها، ولو لم يعقل معناها، لكن دلَّ حديث عوف على أنَّه مهما كان من الرُّقى يؤدِّي إلى الشِّرك فيمنع احتياطًا، والشَّرط الآخر لابدَّ منه. وقال قومٌ: لا يجوز الرقية إلَّا من العين واللَّدغة، كما تقدَّم في باب «من اكتوى» من حديث عمران بن حصين [خ¦5705]: ((لا رقية إلَّا من عينٍ / أو حُمَة)).
          وأُجيب: بأنَّ معنى الحصر أنَّهما أصل كلِّ ما يحتاج إلى الرُّقية، فيلتحقُ بالعين جواز رقية من به خبل أو مسٌّ ونحو ذلك؛ لاشتراكها في كونها تنشأ عن أحوال شيطانيَّة من إنسيٍّ أو جنيٍّ، ويلتحق بالسُّم كلُّ ما عرض للبدن من قروح ونحوه من المواد السُّمِّية، وقد وقع عند أبي داود في حديث أنسٍ ☺ مثل حديث عُمران وزاد: ((أو دم)). وفي مسلم من طريق يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أنس ☺ قال: ((رخَّص رسول الله صلعم في الرُّقى من العين والحُمة والنَّملة))، وفي حديث آخر: ((والأذن)). ولأبي داود من حديث الشِّفاء بنت عبد الله: أنَّ النَّبي صلعم قال لها: ((ألا تُعلِّمين هذه _يعني: حفصة_ رقية النَّملة)) والنَّملة: قروحٌ تخرج في الجنب وغيره من الجسد. وقيل: المراد بالحصر معنى الأفضل؛ أي: لا رقية أنفع كما قيل: لا سيف إلَّا ذو الفقار.
          وقال قومٌ: المنهيُّ عنه من الرُّقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابنُ عبد البر والبيهقي وغيرهما، وفيه نظرٌ، وكأنَّه مأخوذٌ من الخبر الَّذي قُرنت فيه التَّمائم بالرُّقى؛ فأخرج أبو داود وابن ماجه، وصحَّحه الحاكم من طريق ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عنها عن ابن مسعود ☺ رفعه: ((إنَّ الرُّقى والتَّمائم والتِّوَلَة شرك))، وفي الحديث قصَّةٌ.
          والتَّمائم: جمع: تميمة، وهي خرزٌ أو قلادةٌ تُعلَّق في الرَّأس، كانوا في الجاهليَّة يعتقدون أنَّ ذلك يدفع الآفات. والتِّوَلَة _بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففًا_: شيءٌ كانت المرأة تجلبُ بها محبَّة زوجها، وهو ضربٌ من السِّحر.
          وإنَّما كان ذلك من الشِّرك؛ لأنَّهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله، ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله تعالى وكلامه فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه، كما سيأتي قريبًا في باب «المرأة ترقي الرَّجل» من حديث / عائشة ♦ [خ¦5751]: أنَّه صلعم كان إذا أوى إلى فراشه ينفثُ بالمعوَّذات ويمسحُ بها وجهه... الحديث.
          ومضى في «أحاديث الأنبياء ‰» من حديث ابن عبَّاس ☻ [خ¦3371]: أنَّه صلعم كان يُعوِّذُ الحسن والحسين ☻ بكلمات الله التَّامَّة من كلِّ شيطانٍ وهامَّةٍ... الحديث. وصحَّح التِّرمذي حديث خولة بنت حكيم مرفوعًا: ((من نزل منزلًا فقال: أعوذ بكلمات الله التَّامَّات من شرِّ ما خلق، لم يضرُّه شيءٌ حتَّى يتحوَّل)).
          وعند أبي داود والنَّسائي بسندٍ صحيحٍ عن سُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن رجلٍ من أسلم: جاء رجلٌ فقال: لُدغت اللَّيلة فلم أنم، فقال له النَّبي صلعم : ((لو قلت حين أمسيتَ: أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلقَ لم يضرك))، والأحاديث في هذا المعنى موجودة، لكن يحتمل أن يُقال: إنَّ الرُّقى أخصُّ من التَّعوُّذ، وإلَّا فالخلاف في الرُّقى مشهورٌ، ولا خلاف في مشروعيَّة الفزع إلى الله تعالى، والالتجاء إليه في كلِّ ما وقع وما يتوقع.
          وقال ابن التِّين: الرُّقي بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى، هو الطِّبُّ الرُّوحاني إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشِّفاء بإذن الله تعالى، فلمَّا عزَّ هذا النَّوع فزع النَّاس إلى الطِّب الجسماني، وتلك الرقى المنهيِّ عنها التي يستعملها المُعَزِّم وغيره ممَّن يدعي تسخير الجنِّ له، فيأتي بأمورٍ مشتبهة مركبة من حقٍّ وباطلٍ، يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشَّياطين والاستعانة بهم، والتَّعوذ بمَرَدتهم.
          ويقال: إنَّ الحية لعداوتها للإنسان بالطَّبع تصادق الشَّياطين؛ لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عَزَّم على الحيَّة بأسماء الشَّياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذا اللَّديغ إذا رُقِي بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرُّقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصَّة، وباللِّسان العربي الذي يعرف معناه؛ ليكون بريئًا من شوب الشِّرك، وعلى كراهة الرُّقى بغير كتاب الله علماء الأمة.
          وقال القرطبي: الرُّقى ثلاثة / أقسام:
          أحدها: ما كان يُرقى به في الجاهليَّة ممَّا لا يُعقل معناه، فيجب اجتنابه؛ لئلَّا يكون فيه شركٌ، أو يُؤدِّي إلى الشرك.
          الثَّاني: ما كان بكلام الله تعالى، أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورًا فيستحب.
          الثَّالث: ما كان بأسماء غير الله تعالى من مَلَك، أو صالح، أو معظَّم من المخلوقات كالعرش.
          قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الَّذي يتضمَّن الالتجاء إلى الله تعالى، والتَّبرُّك بأسمائه، فيكون تركه أولى، إلَّا أن يتضمَّن تعظيم المرقي به، فينبغي أن يجتنبَ كالحلف بغير الله تعالى.
          وقال ابنُ الأثير: قد جاء في بعض الأحاديث جواز الرُّقى، وفي بعضها النَّهي عنها، فمن الجواز قوله صلعم : ((استرقوا لها فإنَّ بها النَّظرة)) أي: اطلبوا لها من يُرقيها، ومن النَّهي قوله: ((لا يسترقونَ ولا يكتوون)) [خ¦5705].
          والأحاديث في القسمين كثيرةٌ، ووجه الجمع بينهما: أنَّ الرُّقى يكره منها ما كان بغير اللِّسان العربي، وبغير أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة، وأن يعتقدوا أنَّ الرُّقية نافعةٌ لا محالة فيتَّكل عليها، وإيَّاها أراد صلعم بقوله: ((ما توكَّل من استرقى)) ولا يُكره منها ما كان بخلاف ذلك كالتَّعوذ بالقرآن وأسماء الله تعالى والرُّقى المروية.
          وفي «موطأ مالك» أنَّ أبا بكرٍ الصِّديق ☺ دخل على عائشة ♦ وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر ☺: ارقيها بكتاب الله تعالى بالتَّوراة والإنجيل، ولما ذكره ابن حبَّان ذكره مرفوعًا: أنَّ رسول الله صلعم دخل... الحديث.
          فإن قيل: هل تجوز رقية الكافر للمسلم؟ فالجوابُ: أنَّه رُوي عن مالك: جواز رقية اليهوديِّ والنَّصراني للمسلم إذا رقى بكتاب الله تعالى، وهو قول الشَّافعي. قال الرَّبيع: سألت الشَّافعي عن الرُّقية فقال: لا بأس أن يرقيَ بكتاب الله، وبما يعرف من ذكر الله. قلتُ: أيرقى أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما يُعرف من كتاب الله وبذكر الله، ورُوي عن مالك، أنَّه قال: أكره رُقى أهل الكتاب ولا أحبُّه؛ لأنَّا لا نعلم هل يرقون بكتاب الله، أو بالمكروه الذي يضاهي السِّحر. ورُوي ابن وهب: أنَّ مالكًا سُئل عن المرأة ترقي بالحديدة / والملح، وعن الذي يكتب الكتاب ويعلِّقه عليه ويعقد في الخيط الَّذي يربط به الكتاب سبع عقدٍ، والَّذي يكتب خاتم سُليمان ◙ في الكتاب، فكرهَه مالك، وقال: لم يكن ذلك من أمر النَّاس القديم.