نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: لاعن النبي بين رجل وامرأة من الأنصار وفرق بينهما

          5314- (حَدَّثَنَا) وفي رواية أبي ذرٍّ: <حدَّثني> بالإفراد (مُسَدَّدٌ) هو: ابنُ مُسَرْهَد، قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هو: ابنُ سعيد القطان (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) هو: ابنُ عمر العمري، أنَّه قال: (أَخْبَرَنِي) بالإفراد (نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) ☻ ، أنَّه (قَالَ: لاَعَنَ النَّبِيُّ صلعم بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ) فالرَّجل: هو هلال بن أميَّة الأنصاري، وهو الذي قذف امرأته بشريك بن السَّحماء، وهو شريك بن عبدة بن مُغيث حليف الأنصار، وسَحْماء، بالسين المهملة: اسم أمِّه، وقال أبو عمر: روى جرير بن حازم، عن أيُّوب، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ ، قال: لمَّا قذف هلالُ بن أميَّة امرأته، قيل له: والله ليجلدنَّك رسول الله صلعم ثمانين، فقال: الله أعدلُ، وقد علم أنِّي رأيتُ، فنزلت آيةُ الملاعنة.
          وقال ابن التَّين: الأصحُّ أنَّ هلالاً قبل عُويمر. وقال الماوردي في «الحاوي»: الأكثرون على أنَّ قصَّة هلال أسبق من قصَّة عُويمر. وفي «الشَّامل» لابن الصَّبَّاغ: قصَّة هلال تنبئ أنَّ الآيةَ الكريمة نزلت فيه أوَّلاً، وما قيل لعُويمر قد أُنزل فيك وفي صاحبتكَ؛ يعني: ما نزل في قصَّة هلال؛ لأنَّ ذلك حُكْمٌ لجميع النَّاس، وهذا الذي يقوله الأصوليُّون: العبرةُ بعمومِ اللَّفظ لا بخصوصِ السَّبب.
          (وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا) فإن قيل: قال في الرِّواية الأولى: ((فرَّق بين رجل وامرأة قذفها وأحلفهما))، وفي هذه الرِّواية: ((لاعن النَّبيُّ صلعم ... إلى آخره)). فالجواب: أنَّه لا فرق بينهما في المعنى في الحقيقة؛ لأنَّه لابدَّ من الملاعنة والتَّفريق من الحاكم، وهو حجَّة قويَّة للحنفية أنَّ اللِّعان لا يتمُّ إلَّا بتفريق الحاكم بينهما، وقد ذكر الخلاف فيه، ثمَّ إنَّ هذا طريقٌ آخر في حديث ابن عمر ☻ .
          ووقع في رواية سهل بن سعد / من طريق ابن جُريج: المتلاعنان لا يجتمعان أبداً، فاستدلَّ به على أنَّ فرقة اللِّعان على التَّأبيد، وأنَّ الملاعنَ إذا أكذبَ نفسه لم يحلَّ له أن يتزوَّجها بعد، وقال بعضُهم: يجوز له أن يتزوَّجها، وإنَّما يقع باللِّعان طلقة واحدةٌ بائنة، وهذا قول حماد وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وصحَّ عن سعيد بن المسيَّب، قالوا: ويكون الملاعن إذا أكذبَ نفسه خاطباً من الخطاب، وعن الشَّعبي والضَّحَّاك: إذا أكذب نفسه ردَّ إليه امرأته. قال ابنُ عبد البر: هذا عندي قول ثالث، وقال الحافظُ العسقلاني: ويحتمل أن يكون معنى قوله: ردت إليه؛ أي: بعد العَقْدِ الجديد فيوافق الذي قبله.
          قال ابن السَّمعاني: لم أقفْ على دليل لتأبيد الفُرقة من حيثُ النَّظر، وإنَّما المتَّبعٌ في ذلك النَّص.
          وقال ابنُ عبد البر: أبدى بعض أصحابنا له فائدة، وهو أن لا يجتمع ملعونٌ مع غير ملعون؛ لأنَّ أحدهما ملعون في الجملة، بخلاف ما إذا تزوَّجت المرأة غير الملاعن؛ فإنَّه لا يتحقَّق، وتُعُقِّبَ: بأنَّه لو كان كذلك لامتنع عليهما معاً التَّزوج؛ لأنَّه يتحقَّق أن أحدهما ملعون.
          قال ابن السَّمعاني: وقد أورد بعضُ الحنفية، أنَّ قوله: المتلاعنان يقتضي أنَّ فرقة التَّأبيد يُشْتَرطُ لها أن يقعَ التَّلاعن من الزَّوجين، والشَّافعية يكتفون في التَّأبيد بلعان الزَّوج فقط.
          وأجاب: بأنَّه لما كان لعانُه سَبَبَ لعانها، وصريح لفظ اللَّعن يوجد في جانبه دونها سُمِّي الموجودُ منه ملاعنةً، ولأنَّ لعانَه سببٌ في إثبات الزِّنا عليها، فيستلزم انتفاء نَسَبِ الولد به، فينتفِي الفراش، وإذا انتفى الفراشُ انقطع النِّكاح.
          قال الحافظُ العسقلاني: فإن قيل: إذا أكذبَ الملاعن نفسه يلزم ارتفاع الملاعنة حكماً، وإذا ارتفعتْ صارت المرأةُ محلَّ استمتاع. أُجيب: بأنَّ اللِّعان عندكم شهادة، والشَّاهد إذا رجعَ بعد الحُكْمِ لم يرتفع الحكم، وأمَّا عندنا فهو يمين، واليمين إذا صارت حجَّة وتعلَّق بها الحكم لا يرتفعُ، فإذا أكذب نفسه، فقد زعم أنَّه لم يوجد منه / ما يسقط الحدَّ عنه، فيجبُ عليه الحد، ولا يرتفعُ موجب اللِّعان، ثمَّ إنَّه طريق آخر في حديث ابن عمر ☻ .
          ومطابقتُه للتَّرجمة ظاهرةٌ.