نجاح القاري لصحيح البخاري

قول الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}

          ░1▒ (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على قوله: الطَّلاق، وسقطت الواو في رواية غير أبي ذرٍّ ({يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء} [الطلاق:1]) خطاب للنَّبي صلعم بلفظ الجَمْع تعظيماً، أو على إرادة ضم أمته إليه، والتَّقدير: يا أيُّها النَّبي وأمته، وقيل: هو على إضمار قل؛ أي: قل لأمتك، والثَّاني أليق، فخصَّ النَّبي صلعم بالنِّداء؛ لأنَّه إمام أمته وقدوتهم، فاعتبر تقدُّمه، وعمَّ بالخطاب، كما يقال: لأمير القوم ورئيسهم: يا فلان افعلوا كذا إظهاراً لتقدُّمه، فكأنَّه هو وحده في حُكْمِ كُلِّهم، ومعنى إذا طلقتم النِّساء: إذا أردتُم تطليقهنَّ جزماً على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلةَ الشَّارع فيه، ولا يمكن حَمْلُه على ظاهره.
          ({فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}) أي: مستقبلات لعدتهنَّ، واللام للتَّوقيت كقوله: أتيته لليلة بقيت من المحرم؛ أي: مستقبلاً لها، والمراد: أن يطلقهنَّ في طهر لم يجامعهنَّ فيه، ثمَّ يخليهنَّ حتى تنقضي عدتهنَّ، وهذا أحسن الطَّلاق، وأدخله في السَّنة، وأبعده من النَّدم، وقال النَّسفي: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وهو أن يُطلِّقها طاهرة من غير جماع.
          وقيل: طلقوهنَّ لطهرهنَّ الذي يحصينه من عدَّتهنَّ، ولا تطلقوهنَّ لحيضهنَّ الذي لا يعتددنَ به من قرئهنَّ، وهذا للمدخول بها؛ لأنَّ من لم يدخل بها لا عدَّة عليها.
          وقيل: في معنى قوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} أي: عند ابتداء شروعهنَّ في العدة. وقال ابن عبَّاس ☻ : «في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ»، أخرجه الطَّبري بسند صحيحٍ عن مجاهد عنه. ومن وجه آخر: أنَّه قرأها كذلك، وكذا وقع عند مسلم من رواية أبي الزُّبير، عن ابن عمر ☻ في آخر حديثه: قال ابن عمر ☻ : وقرأ رسول الله صلعم : ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ)).
          ونقلت هذه القراءة أيضاً عن أبي وعثمان وجابر وعلي بن الحسين وغيرهم ♥ ، وعلى هذا يكون المراد بعدتهنَّ: الطَّهر، كما هو مذهب الشَّافعي، وعلى كلِّ حال، فالمراد: أن يطلقهنَّ في طهرٍ لم يجامعهنَّ.
          ({وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}) أي: واضبطوهَا بالحفظِ وأكملوها ثلاثة أقراء كوامل لا نقصان / فيهنَّ أشار إليه البُخاري بقوله: (أحْصَيْنَاهُ) أي: (حَفِظْنَاهُ وَعَدَدْنَاهُ) وهذا التَّفسير لأبي عبيدةَ، وأخرج الطَّبري معناه عن السُّدي، والمراد الأمر بأن يحفظَ ابتداء وقت العدَّة؛ لئلَّا يلتبس الأمُر فتطولَ المدَّة فتتأذَّى بذلك المرأة، وخُوطب الأزواج بذلك؛ لغفلةِ النِّساء، وفي بعض النُّسخ: وقع هذا التَّفسير قبيل الحديث الذي يأتي، وقال ابنُ المنذر: أباحَ الله ╡ الطَّلاقَ بهذه الآية، واختلفَ المفسِّرون فيمن نزلتْ هذه الآية؟
          فقال الواحديُّ: عن قتادة، عن أنس ☺ قال: طلَّق النَّبي صلعم حفصةَ فأنزل الله ╡ قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] الآية، وقيل له: ((راجعها فإنَّها صوَّامة قوَّامة وهي من إحدى أزواجِك ونسائكَ في الجنَّة))، وقال السُّدي: نزلتْ في عبد الله بن عمر ☻ ، وذلك أنَّه طلَّق امرأتهِ حائضاً فأمرهُ رسول الله صلعم أن يُراجعها، وقال مقاتل: نزلتْ في عبد الله بن عمر، وعقبة بن عَمرو المازني، وطُفيل بن الحارث بن المطَّلب، وعَمرو بن سعيد بن العاص ♥ ، وفي تفسير ابن عبَّاس ☻ : قال عبد الله: وذلك أنَّ عمر ونفراً معه من المهاجرين كانوا يطلِّقون لغير عدَّة ويراجعون بغير شهودٍ، فنزلت، ثمَّ إنَّ الطَّلاق أبغضُ المباحات.
          وقال رسولُ الله صلعم : ((إنَّ من أبغضِ الحلال إلى الله الطَّلاق))، وقال: ((تزوَّجوا، ولا تطلِّقوا، فإنَّ الطَّلاق يهتزُّ منه العرش))، وقال: ((لا تطلِّقوا النَّساء إلَّا من ريبة، فإنَّ الله لا يحب الذَّواقين والذَّواقات)). وقال: ((ما حلف بالطَّلاق، ولا استحلفَ به إلَّا منافق))، ثمَّ الطَّلاق كما مرَّ قد يكون بدعياً، وقد يكون سنِّياً، وواجباً، ومستحباً، ومكروهاً، فأمَّا السُّني فأشار إليه البُخاري بقوله: (وَطَلاَقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا) أي: الرَّجل امرأته (طَاهِراً) أي: حال طهارتها عن الحيض (مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ) في ذلك الطُّهر، قيل: ولا في حيض قبله وليست بحامل، ولا صغيرة، ولا آيسة، وهي تعتدُّ بالإقراء وذلك لاستعقابه / الشَّروع في العدَّة.
          وروى الطَّبري بسند صحيحٍ عن ابن مسعود ☺ في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] قال: في الطُّهر من غير جماعٍ، وأخرجه عن جَمْعٍ من الصَّحابة ومن بعدهم كذلك، وهو عند التِّرمذي أيضاً.
          (وَيُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ) أي: على الطَّلاق، وهو مأخوذٌ من قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وهو واضحٌ، وكأنَّه لمَّح بما أخرجه ابن مَرْدويه عن ابن عبَّاس ☻ قال: كان نفرٌ من المهاجرين يُطَلِّقون لغير عدَّة ويُرَاجِعُون بغير شهودٍ، فنزلت.
          ومفهوم هذا الكلام: أنَّه إن طلَّقها في الحيضِ أو في طهرٍ وطئها فيه، أو لم يشهد يكون طلاقاً بدعياً، وقد اختلفوا في طلاق السُّنة:
          فقال مالك: طلاق السُّنة أن يُطَلِّق الرَّجل امرأتَه في طُهْر لم يمسها فيه تطليقةً واحدةً، ثمَّ يتركها حتى تنقضيَ العدَّة برؤية أوَّل الدَّم من الحيضة الثَّالثة، وهو قول اللَّيث والأوزاعي، وقال أبو حنيفة: هذا حسن من الطَّلاق.
          وله قول آخر: وهو ما إذا أراد أن يطلِّقها ثلاثاً طلقها عند كلِّ طٌهرٍ واحدة من غير جماع، وهو قول الثَّوري وأشهب.
          وقال المرغيناني: الطَّلاق على ثلاثة أوجه عند أصحاب أبي حنيفة: حسن، وأحسن، وبدعي. فالأحسن: أن يُطلِّقها وهي مَدخولة بها تطليقةً واحدةً في طُهْر لم يجامِعْها فيه، ويتركها حتى تنقضيَ عدتها.
          والحسن، وهو طلاقُ السَّنة: أن يطلِّق المدخولَ بها ثلاثاً في ثلاثةِ أطهار.
          والبِدْعِيُّ: أن يُطلقها ثلاثاً بكلمةٍ واحدة، أو ثلاثاً في طهرٍ واحد، فإذا فعل ذلك وقع الطَّلاق وكان عاصياً، وقال الحافظُ العسقلاني: وقد قسم الفقهاء الطَّلاق: إلى سُنِّي وبِدْعي، وإلى قسم ثالث لا وَصْفَ له.
          فالأوَّل: ما تقدَّم، والثَّاني: أن يطلِّق في الحيض، أو في طُهْرٍ جامَعَها فيه، ولم يتبين أمرها أحَمَلَتْ أو لا، ومنهم من أضاف إليه أن يزيدَ على طلقة، ومنهم من أضافَ إليه الخلع، والثَّالث: تطليقُ الصَّغيرة والآيسة والحامل التي قربت ولادتها، وكذا إذا وقع الخلعُ بسؤالها، وقلنا: إنَّه طلاق، ويستثنى من تحريم طلاق الحائض صور:
          منها: ما لو كانت حاملاً ورأت الدَّم، / وقلنا: الحاملُ تحيض فلا يكون طلاقها بدعياً، ولاسيَّما إن وقع بقربِ الولادة.
          ومنها: إذا طلَّق الحاكم على المولى، واتَّفق وقوع ذلك في الحيض، وكذا في صورة الحَكَمَين إذا تعيَّن ذلك طريقاً لرفع الشِّقاق، وكذلك الخُلْع، والله تعالى أعلم.