نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}

          ░18▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وفي رواية: <╡> ({وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}) كذا في رواية الأكثر، وفي رواية كريمة: ساق إلى قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} أي: لا تتزوَّجوهن {حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221] أي: ولو كان الحال أنَّ المشركة تعجبُكم وتحبونها لجمالها ومالها.
          وروى البغوي في «تفسيره» أنَّ سبَبَ نزولها أنَّ مرثدَ بن أبي مرثد الغنوي بَعَثَه رسولُ الله صلعم إلى مكَّة؛ ليخرج منها ناساً من المسلمين سرًّا، فلمَّا قَدِمَها سَمِعَتْ امرأة مشركةٌ يقال لها: عناق، وكانت حليلته في الجاهليَّة، فأتته، وقالت: يا أبا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها: ويحك يا عناقُ، إنَّ الإسلام قد حالَ بيننا وبين ذلك. قالت: فهل لك أن تتزوَّج بي؟ قال: نعم، ولكن أرجعُ إلى رسول الله صلعم فأستأمره، فلمَّا قضى حاجته بمكَّة، وانصرفَ إلى رسول الله صلعم فأعلمه الذي كان من أمرهِ وأمر عَناق، وقال: يا رسول الله، أيحلُّ لي أن أتزوَّجها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
          وإنَّما ذكر البُخاري هذه الآية توطئةً للأحاديث التي ذكرها في هذا الباب، وفي البابين اللَّذين بعده، وإنَّما لم ينبِّه على المقصود من إيرادها، ولم يبيِّن حكم المسألة؛ للاختلافِ القائم فيها، وقد أخذ ابن عُمر ☻ بعموم قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] حتَّى كره نكاح أهل الكتاب. وأشار إليه البُخاري بإيراد حديثه في هذا الباب.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ الله تعالى استثنى من ذلك / نساء أهل الكتاب فخصَّت هذه الآية بالآية التي في المائدة وهي قوله ╡: {وَالْمُحَصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] من قبلكم؛ أي: التَّوراة والإنجيل.
          وروى ابنُ أبي حاتم بإسناده عن ابن عبَّاس ☻ قال: نزلت هذه الآية: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] قال: فحَجز النَّاسَ عنهنَّ حتى نزلت الآية التي بعدها: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] فنكح النَّاسُ نساءَ أهل الكتاب، ونكح جماعة من الصَّحابة نساء نصرانيات، ولم يروا بذلك بأساً.
          وقال أبو عبيد: وبه جاءت الآثار عن الصَّحابة والتَّابعين، وأهل العلم بعدهم: أنَّ نكاح الكتابيات حلالٌ، وبه قال مالك والأوزاعي والثَّوري والكوفيَّون والشَّافعي، وعامَّة العلماء. وقال غيره: ولا يروى خلاف ذلك إلَّا عن ابن عمر ☻ ، فإنَّه شذَّ عن جماعة الصَّحابة والتَّابعين، ولم يجز نكاح اليهوديَّة والنَّصرانية، وخالف ظاهرَ قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5]. ولم يلتفتْ أحدٌ من العلماء إلى قوله.
          وقد تزوَّج عُثمانُ بن عفَّان ☺ نائلةَ بنتَ الفرافصَة الكَلْبيَّة، وهي نصرانيَّة تزوَّجها على نسائه، وتزوَّج طلحةُ بنُ عبيد الله ☺ يهوديةً.
          وتزوَّج حذيفةُ ☺ يهوديةً، وعنده حرَّتان مسلمتان، وعنه إباحة نكاح المجوسيَّة، وتأوَّل قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة:221] على أنَّ هذا ليس بلفظ التَّحريم، وقيل: بناء على أنَّ لهم كتاباً. فإن قيل: روى ابنُ أبي شيبة حديثاً عن عبد الله بن إدريس، عن الصَّلت، عن شقيق بن سلمة قال: تزوَّج حذيفةُ يهوديَّةً، ومن طريق أخرى: وعنده عربيتان، فكتب إليه عُمر ☺: أن خلِّ سبيلها؟ فالجواب: أنَّه أرسل إليه حذيفة: أحرامٌ هي؟ فكتبَ إليه عمرُ ☺ لا، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهنَّ، يعني: الزَّواني منهنَّ.
          وروى ابنُ أبي شيبة بسند حسنٍ عن عطاء: كراهية نكاح اليهودية والنَّصرانيَّة. وروي عن عُمر ☺ أيضاً: / أنَّه كان يأمر بالتَّنزه عنهنَّ من غير أن يحرمهنَّ لخلطة الكافرة، وخوف الفتنة على الولد؛ لأنَّه في صغرهِ ألزم لأمِّه، ومثله قول مالك؛ لأنَّها تشربُ الخمر، وهو يُقَبِّلُ ويُضاجع، لا لعدم الحلِّ.
          وقال أبو عُبيد: والمسلمون اليوم على الرُّخصة في نساءِ أهل الكتاب، ويرون أن التَّحليل ناسخٌ للتَّحريم. وقد خطب المغيرةُ بن شعبة هنداً بنت النُّعمان بن المنذر، وكانت تنصرت، وديرُها باق إلى اليوم بظاهر الكوفة، وكانت قد عميتْ فأبت، وقالت: أيُّ رغبةٍ لشيخٍ أعور في عَجوزٍ عمياء؟ ولكنْ أردتَ أن تفخرَ بنِكَاحي فتقول: تزوَّجت بنت النَّعمان بن المنذر، فقال: صدقت، وأنشد:
وأَدْرَكَتْ مَا مَنَّيْت نَفْسِي خَالِياً                     فَلِلَّهِ دَرُّك يَا ابْنَةَ النُّعْمَانِ
فَلَقَدْ رَدَدْتِ عَلَى الْمُغِيرَةِ ذِهْنَهُ                     إنَّ الْمُلُوكَ ذَكِيَّةُ الْأَذْهَانِ
          والأئمة الأربعة على حلِّ الكتابيَّة الحرَّة، وعلى المنع من غير أهل الكتابين من المجوس، وإن كان لهم شبهة كتاب، إذ لا كتاب بأيديهم.
          وكذا المتمسكون بصحف شيث وإدريس وإبراهيم، وزبور داود ‰؛ لأنَّها لم تنزل بنظم يُدْرَسُ ويُتْلَى، وإنَّما أُوحي إليهم معانيها، وسائر الكفرة كعبدة الشَّمس والقمر والصُّور والنُّجوم، والمعطلة، والزَّنادقة، والباطنيَّة.
          والحاصل: أنَّ قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة:221] منسوخٌ بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5]. وروي أيضاً عن ابن عبَّاس ☻ ، أنَّه قال: إنَّ آيةَ البقرة منسوخةٌ بآية المائدة. وقيل: المراد بقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة:221] عبدة الأوثان.
          وقال ابن كثير في «تفسيره»: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَات} [المائدة:5] الحرائر دون الإماء، والظَّاهر أنَّ المراد بالمحصنات: العفائف عن الزِّنى، كما قال في آية أخرى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25].
          ثمَّ اختلف المفسِّرون: أنَّه هل يعمَّ كلَّ كتابيَّة عفيفة سواء كانت حرَّةً، أو أمةً، فقيل: الحرائر العفيفات، وقيل: المراد بأهلِ الكتاب هاهنا: الإسرائيليات، وهو مذهب الشَّافعي، وقيل: المراد بذلك الذِّمِّيات دون الحربيات.