نجاح القاري لصحيح البخاري

باب المتعة للتي لم يفرض لها

          ░53▒ (باب) حكم (الْمُتْعَةِ) وهي: مالٌ يَدْفَعُه الزَّوج (لِلَّتِي) أي: للمطلَّقة التي (لَمْ يُفْرَضْ لَهَا) أي: لم يَدْخُلْ بها، ولم يُسَمِّ لها صَداقاً.
          واختُلفَ في المُتعة: فقالت طائفةٌ: هي واجبةٌ للمطلَّقة التي لم يَدْخُلْ بها، ولم يُسَمِّ لها صداقاً، رُوِيَ ذلك عن ابن عبَّاس وابن عُمر ♥ ، وهو قولُ عطاء والشَّعبي والنَّخعي والزُّهري، وبه قال الكوفيُّون، ولا يُجْمَعُ مهرٌ مع المتعة، وقال ابنُ عبد البر: وبه قال شريح وعبد الله بن مُغفَّل أيضاً، وقالت الحنفيَّة: فإن دخل بها، ثمَّ طلَّقها، فإنَّه يمتعها، ولا يجبرُ عليه هنا، وهو قول الثَّوري وابن حي والأوزاعي، إلَّا أنَّ الأوزاعيَّ قال: فإن كان أحدُ الزَّوجين مملوكاً لم يجب.
          وقال أبو عُمر: وقد رُوِيَ عن الشَّافعي مثلُ قولِ أبي حنيفة، وقالت طائفة: لكلِّ مطلَّقة متعةٌ مدخولاً بها كانت أو غيرَ مدخولٍ بها، إذا وقع الفراق من قبله، ولم يتم إلَّا به إلَّا التي سمَّى لها وطلقها قبل الدُّخول، وهو قول الشَّافعي وأبي ثور، ورُوِيَ عن علي ☺: لكلِّ مطلَّقة متعة، ومثله عن الحَسَنِ وسعيد بن جُبير وأبي قِلابة. /
          وقالت طائفةٌ: المُتعةُ ليستْ بواجبةٍ في مَوْضِعٍ من المَواضِعِ، وهو قول ابنِ أبي ليلى وربيعة ومالك واللَّيث وابن أبي سلمة.
          (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:236]) أي: لا تبعةَ عليكم ({إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}) شرط يدلُّ على جوابه قوله: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، والتَّقدير: إن طلَّقتم النِّساء فلا جناحَ عليكم (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) ما لم تجامعوهنَّ (إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:236-237]) وتمام الآية: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}: أي: إلَّا أن تفرضوا لهنَّ فريضة، أو حتَّى تفرضوا، وفرض الفريضة تَسميةُ المهرِ {وَمَتِّعُوهُنَّ} أمر بِتَمْتِيْعِهنَّ، وهو تعويضُهنَّ عمَّا فاتَهنَّ بشيءٍ يعطونه من أزواجهنَّ بحسب حال الزَّوج {عَلَى الْمُوسِعِ} أي: الذي له سعة {قَدَرُهُ} أي: مقداره الذي يطيقه {وَعَلَى الْمُقْتِرِ} أي: الضِّيق الحال {قَدَرُهُ مَتَاعاً} تأكيد لقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} أي: تمتيعاً {بِالْمَعْرُوفِ} الذي يحسن في الشَّرع والمروءة {حَقّاً} [البقرة:236] صفة لمتاعاً؛ أي: متاعاً واجباً عليهم، أو حق ذلك حقاً {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] الذين يحسنون إلى المطلَّقات بالتَّمتيع.
          نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار تزوَّج بامرأةٍ من بني حنيفة، ولم يُسَمِّ لها مهراً، ثمَّ طلَّقها قبل الدُّخول، فقال صلعم : ((متِّعْها، ولو بقلنسوة)). وقد استدلَّ البُخاريُّ بهذه الآية على وجوب المُتعة لكل مطلَّقة مطلقاً، وهو قولُ سعيد بن جُبير وغيره، واختاره ابنُ جرير. وقال بعض أصحابنا: لا تجبُ المتعة إلَّا لهذه وحدها، ونُسِخَتْ لسائر المطلَّقات.
          والآية الثَّانية قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة:237] أي: المطلقات فلا يأخذن شيئاً {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أي: الزَّوج المالك لعقده وحله عمَّا يعود إليه بالتَّشطير فيسوق المهر إليها كملاً {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} أي: ولا تنسوا أن يتفضَّل بعضُكم على بعض {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:237] لا يضيع تَفَضُّلَكم وإحسانَكُم فيُجَازِيْكُم.
          ({وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ} [البقرة:241]) إشارة إلى الأحكام المذكورة المتعلِّقة بالطَّلاق ({يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ}) وعد بأنَّه سيبين لعباده ما يحتاجون إليه معاشاً ومعاداً من الدَّلائل والأحكام ({لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}) أي: تفهمونها / فتستعملون العقل فيها. واستدلَّ البُخاري أيضاً بهذه الآية في وجوب المُتعة لكل مطلَّقة مُطْلَقاً.
          وقال الزَّمخشريُّ: عم المطلَّقات بإيجاب المتعة لهنَّ بعدما أوجبها لواحدة منهنَّ وهي المطلَّقة الغير المدخول بها، وقال: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] كما قال ثمة: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236]. والذي فصل يقول: إنَّ هذه منسوخةٌ بتلك الآيةِ، وهي قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:236] الآية.
          فإن قلت: كيف نسخت الآية المتقدِّمةُ المتأخِّرةَ، قلت: قد تكون الآية مُتَقَدِّمةً في التِّلاوة، وهي متأخِّرة في النُّزول.
          وقال أبو عُمر: لم يختلف العُلماء أنَّ المُتعةَ المذكورةَ في الكتاب العزيز غيرُ مُقَدَّرَةٍ، ولا مَحْدُودَةٍ، ولا معلومٌ مبلغها، ولا موجبُ قدرها، فروي عن مالك: أنَّ عبد الرَّحمن بن عوف ☺ طلَّق امرأةً له فمتعها بوليدة. وكان ابنُ سيرين يمتع بالخادم، أو النَّفقة، أو الكسوة. ومتَّع الحسنُ بنُ علي ☻ زوجته بعشرة آلاف، وقال: متاع قليل من حبيب مُفارق، ومتَّع شريح بخمسمائة درهم، والأسود بن يزيد بثلاثمائة، وعروة بخادم. وقال قتادة: المتعةُ جلباب ودرعٌ وخمارٌ، وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال: هذا لكل حرَّة أو أمَّة، أو كتابيَّة إذا وقع الطَّلاق من جهته. وعن ابن عُمر ☻ : ثلاثون درهماً، وفي رواية: أنَّه متَّع بوليدةٍ.
          (وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ صلعم فِي الْمُلاَعَنَةِ مُتْعَةً حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا) هذا من كلام البُخاري، أراد أنَّه صلعم لم يذكر في الأحاديث التي رُوِيَتْ عنه في اللِّعان متعةً، وكأنَّه تمسَّك بهذا: أنَّ الملاعنةَ غيرُ داخلةٍ في جملة المطلَّقات. ثمَّ قال: لفظُ طلَّقها صريحٌ في أنَّها مطلَّقة، ثمَّ أجاب: بأنَّ الفِراق حاصلٌ بنفس اللِّعان، حيثُ قال: ((فلا سبيلَ لك عليها))، وتطليقُه لم يكن بأمره صلعم ، بل كان كلاماً زائداً صدرَ منه تأكيداً.