نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}

          ░40▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وسقط لفظ: <باب> في رواية أبي ذرٍّ، وثبت في رواية غيره ({وَالْمُطَلَّقَاتُ}) أي: المدخول بهنَّ من ذوات الأقراء ({يَتَرَبَّصْنَ}) أي: ينتظرن، وهذا خبر بمعنى الأمر ({بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}) بعد طلاق زوجها، ثمَّ تتزوَّج إن شاءتْ، وقد أخرجَ الأئمةُ الأربعة من هذا العموم الأمةَ إذا طُلِّقَتْ؛ فإنَّها تعتد عندهم بقرءين؛ لأنَّها على النِّصف من الحرَّة، والقُرء لا يتبعَّض، فيكمل لها قرآن، ولما رواه ابن جُريج، عن مظاهر بن أسلم المخزومي المدني، عن القاسم، عن عائشة ♦: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((طلاق الأمة تطليقتان، وعدَّتها حيضتان)). ورواه أبو داود، والتِّرمذي، وابن ماجه، قال ابنُ كثير: ولكن مظاهر هذا ضعيفٌ بالكليَّة. /
          وقال الدَّراقطني وغيره: والصَّحيح أنَّه من قول القاسم بن محمد نفسه، ورواه ابن ماجه من طريق عطيَّة العوفي، عن ابن عُمر ☻ مرفوعاً، قال الدَّارقطني: والصَّحيح ما رواه سالم ونافع، عن ابن عُمر ☻ .
          قوله: وهكذا روي عن عُمر بن الخطاب ☺، قالوا: ولم يُعْرَفْ بين الصَّحابة خلافٌ. وقال بعضُ السَّلف: بل عدتها عدَّة الحرَّة؛ لعموم الآية، ولأنَّ هذا أَمْرٌ جبلِّي، فالحرائرُ والإماء في ذلك سواء، وحكى هذا القول أبو عُمر عن ابن سيرين وبعض أهل الظَّاهر، وضعَّفه.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) أي: النَّخعي (فِيمَنْ تَزَوَّجَ) أي: امرأة (فِي الْعِدَّةِ) تزوجاً فاسداً (فَحَاضَتْ عِنْدَهُ ثَلاَثَ حِيَضٍ: بَانَتْ) بانقضاء هذه العدَّة (مِنَ) الزَّوج (الأَوَّلِ، وَلاَ تَحْتَسِبُ) أي: هذه المرأة (بِهِ) أي: بهذا الحيض (لِمَنْ بَعْدَهُ) أي: بعد الزَّوج الأوَّل، بل تعتد أخرى للثَّاني، فلا تداخل لتعدُّد المستحق؛ فتعتد لكلِّ واحدة منهما عدَّةً كاملة، وهذه مسألة اجتماع العدَّتين، فاعلم أنَّ العُلماء مجمعون على أنَّ النَّاكحَ في العدَّة يُفْسَخُ نكاحه، ويفرَّق بينهما، فإذا تزوَّج في العدَّة فحاضت عنده ثلاثَ حيض بانت من الأوَّل؛ لأنَّها عدَّتها منه، ولا تحتسب به لمن بعده، هذا قول إبراهيم، رواه ابنُ أبي شيبة، عن عبدة بن أبي سليمان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عنه.
          وروى المدنيون عن مالك: إن كانت حاضت حيضة، أو حيضتين من الأوَّل أنَّها تتم بقية عدَّتها منه، ثمَّ تستأنف عدَّة أخرى من الآخر، على ما روي عن عمر بن الخطاب ☺، وعلي بن أبي طالب ☺، وهو قول اللَّيث والشَّافعي وأحمد وإسحاق، وروى ابن القاسم عن مالك: أنَّ عدَّة واحدة تكون لهما جميعاً، وهو قول الأوزاعي والثَّوري وأبي حنيفة وأصحابه.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن شهاب (تَحْتَسِبُ) بالحَيْضِ للثَّاني كالأوَّل؛ أي: تحتسب هذا الحيض فيكون عدَّة لهما كما هو قول الحنفية، ورواية عن مالك (وَهَذَا) أي: قول الزُّهري (أَحَبُّ إِلَى سُفْيَانَ) الثَّوري (يَعْنِي) تفسيرٌ لهذا (قَوْلَ الزُّهْرِيِّ) وحجَّة الزُّهري ومن تبعه / في هذا إجماعهم: أنَّ الأوَّل لا ينكحها في بقية العدَّة من الثَّاني، فدلَّ على أنَّها في عدَّة من الثَّاني، ولولا ذلك لنكحها في عدَّتها منه.
          وحجَّة الأوَّلين: أنَّهما حقَّان قد وجبا عليها لزوجين كسائر الحقوق، ولا يدخلُ أحدهما في صاحبه.
          (وَقَالَ مَعْمَرٌ) بفتح الميمين وسكون العين، هو أبو عبيدة ابن المثنى، مات سنة عشر ومائتين (يُقَالُ: أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا دَنَا) أي: قرب (حَيْضُهَا، وَأَقْرَأَتْ إِذَا دَنَا طُهْرُهَا) غرضه: أنَّ القُرُءَ يُسْتَعَمْلُ بمعنى الحيض والطَّهر، يعني: هو من الأضداد، وقال الأخفشُ: أقرأت المرأة: إذا صارت ذات حيض. وقيل: القُرْء: انقضاءُ الحيض، ويقال: هو الحيض نفسه، وقد يجيءُ القرء بمعنى الضَّم والجمع، وسيجيء.
          واختلف العلماءُ في الأقراء التي تجبُ على المرأة إذا طلِّقت، فقال الضَّحَّاك والأوزاعي والثَّوري والنَّخعي وسعيد بن المسيَّب وعلقمة والأسود ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن جُبير وعكرمة ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة والشَّعبي والرَّبيع ومقاتل بن حيَّان والسُّدي ومكحول وعطاء الخراساني: الإقراء: الحيض، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد في أصح الرِّوايتين وإسحاق، وهكذا رُوِيَ عن أبي بكر الصِّديق وعُمر وعثمان وعلي وأبي الدَّرداء وعبادة بن الصَّامت وأنس بن مالك وابن مسعود وابن عبَّاس ومعاذ وأبي بن كعب وأبي موسى الأشعري ♥ ، وقال سالم والقاسم وعروة وسليمان بن يسار وأبو بكر بن عبد الرَّحمن وأبان بن عثمان، والزُّهري، وبقية الفقهاء السَّبعة، ومالك والشَّافعي وأبو ثور وداود، وأحمد في رواية: الأقراءُ: هي الأطهار، ورُوِيَ عن ابن عبَّاس وزيد بن ثابت ♥ ، وقال أبو عُمر: وهو قول عائشة وزيد بن ثابت وعبد الله بن عَمرو، فالمطلَّقة عندهم تحلُّ للأزواج بدخولها في الدَّم من الحيضة الثَّالثة، وسواء بقي من الطُّهر الذي طلِّقت فيه المرأة يوم واحد، أو أكثر، أو ساعة واحدة؛ فإنَّها تحتسبُ به المرأة قُرْءاً.
          وقالت الطَّائفة الأولى: المطلَّقة لا تحلُّ للأزواج حتَّى تغتسلَ من الحيضة الثالثة، وطائفة أخرى توقَّفوا / في الأقراء هل هي حيض أمُّ أطهار، وهم سليمان بن يسار، وفَضَالة بن عُبيد، وأحمد في رواية.
          (وَيُقَالُ: مَا قَرَأَتْ بِسَلًى) بكسر الموحدة وفتح السين المهملة، وبالقصر مع التَّنوين من غير همز: غشاء الولد، وهي الجلدة الرَّقيقة التي يكون فيها الولد (قَطُّ، إِذَا لَمْ تَجْمَعْ وَلَداً فِي بَطْنِهَا) معناه: لم يضم رحمها على ولد، وأشار بهذا إلى أنَّ القُرْءَ جاء بمعنى الضَمِّ والجَمْعِ أيضاً.
          وقال الأصمعيُّ: القُرْءُ: بضم القاف، وقال أبو زيد: بفتح القاف، وأقرأت المرأةُ، إذا استقرَّ الماءُ في رَحِمِها، وقَعَدَت المرأة أيام أقرائها؛ أي: أيام حيضها، وقال أبو عمر: أصل القَرْء في اللَّغة: الوقت والطُّهر والحَمْل والجَمْع.
          وقال ثعلب: القروء: الأوقات، والواحد: قُرْء، وهو الوقت، وقد يكون حيضاً، ويكون طُهْراً، وقال قُطرب: تقول العرب: ما أقرأت النَّاقةُ بسلا قط؛ أي: لم ترم به، وأقرأت النَّاقة قُرْءاً، وذلك معاودة الفحل إيَّاها أوان كلِّ ضِرَاب، وقالوا أيضاً: قرأت المرأة قُرْءاً: إذا حاضت وطَهُرَتْ، وقرأتْ أيضاً: إذا حَمَلَتْ، وقيل: هو من الأسماء المشتركة، وقيل: حقيقة في الحيض مجاز في الطُّهر.